مشاهدة النسخة كاملة : التفكير الهداف وضرورته...


عطر الزنبق
10-06-2018, 04:12 PM
نهاركم فرح يا غاليين..







التفكير هو أحد المميِّزات لبني البشر، ومن العسير أن نجد أحدًا ممن يتمتَّعون بالصحة العقلية، لا يمارس التفكير في شؤونه وشؤون ما حوله؛ من البيئة، والمحيط المكوَّن من الزمان والمكان والأشخاص والأشياء، والمعارف والنظريات، ولكن ما ينقصنا في التفكير هو أن نجعل عادة التفكير مُطَّرِدةً وعامةً في كل شأنٍ من شؤوننا؛ حيث إننا أحيانًا نقوم بعملٍ ما دون تفكيرٍ سابق، والنقص الآخر أننا نُمارس التفكير بطريق غير منهجي؛ مما يؤدي بنا إلى نتيجة غير مرغوبٍ فيها.



من مظاهر التفكير اليومي الذي نُمارسه بشكل عادة، أننا - على سبيل المثال - قبل التوجُّه إلى المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة، ننظر إلى الوقت ونظنَّ أن الذَّهاب إلى المسجد والحضور فيه، سوف يستغرق قدرًا معينًا من الوقت، فنخرج من البيت قبل الوقت بقدر ما نصل إلى المسجد قبل قيام الصلاة، وكذلك نحن نَحسِب الوقت المستغرق في الذَّهاب من البيت إلى المكتب؛ حتى لا نتأخَّرَ عن الدوام؛ هذا كلُّه مظهرٌ من مظاهر ممارستنا للتفكير، ولكنه تفكير طبيعي، يمارسه الإنسان بشكل عفوي، لا يحتاج فيه إلى طريقة منهجية علمية.



التفكير هو أحد المميِّزات لبني البشر كما بدأنا به هذا المقال؛ حيث إننا لو لاحظنا حياتنا ومحيطنا، نجد أنفسنا محصورين في إطار الاختيارات والتحديات والابتلاءات، والمطلوب منا دائمًا أن نصيب الاختيار، وننجح في التحديات والابتلاءات.



ولو فكَّرنا في موضوع اختيار اللباس قبل الخروج إلى العمل مثلًا، فإنه ينبغي علينا أن نختار اللباس حسب الوقت، والموسم، والمهمة ... ومن التجارب الثابتة لنا أننا كثيرًا من الأوقات نُوفَّق في اختيار ذلك، وأحيانًا نُخفِق فيه؛ حيث يتم اختيار نوعٍ من اللباس لا يناسب المقام والبيئة، ولنا أن نقيس على هذا اختيارنا أنواعَ الأطعمة من المائدة التي بين أيدينا، فإننا لا نستطيع أن نتناول كلَّ ما نرغب في تناوله، وإنما يعتمد اختيارُنا على نوعية الطعام وملاءمته لصحَّتنا، فهذا يدل على أن الإنسان ليس محكومًا بالغريزة، ولكنه مُخيَّرٌ، أمامه اختيارات، وله قوة الاختيار ضمن تلك القوائم، وهذا ما يُميِّز بني البشر عن غيرهم من المخلوقات، ويشير إلى هذا قوله عز وجل: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].



وتكميلًا للفائدة من سَرْد الآيات المذكورة، نقول: إن الله سبحانه وتعالى ذكر بعد ذِكْر هذه الآيات الكريمة نتيجة ثمود التي تعرَّضوا لها بسبب إنكارهم لبعثة الرسول الذي بُعِث فيهم، وإنكارهم أوامرَه، وهذا يدل على أن ثمود لم يُوفَّقوا في الاختيار الصحيح، وتحديد موقفهم تجاه دعوة النبي المبعوث فيهم؛ صالح عليه السلام، وكانت النتيجة تدميرهم، تَحكي الآيات الكريمة: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾ [الشمس: 11 - 15].



هذا التفكير الذي تحدَّثنا عنه وأشرنا إليه - هو التفكير الطبيعي، يمارسه الإنسان من غير اتِّباع منهجية معينة، وإنما يُفكِّر فيه بحكم الطبيعة والضرورة والتجربة، وهذا يدل على أن مَلَكة التفكير موجودةٌ في طبيعة بني البشر، ولكن المشكلة أننا لا نهتمُّ بأن نُحوِّل هذه الملَكة من حيِّز الطبيعة إلى حيِّز العادة والممارسة؛ حيث لا نتَّخذها عادةً نمارسها في كل وقتٍ، أو في كل حادثٍ من الأحداث، أو في كل ظاهرة من الظواهر التي تتمثَّل أمامنا؛ حيث إن هذا النوع من التفكير يحتاج إلى اتِّباع منهجية معينة، وهذا النوع من التفكير نقصده هنا، وهو التفكير الهادف، مقابل التفكير الطبيعي الذي به بدأنا حديثنا.



ويعرف أهل الاختصاص في التفكير بهذا النوع من التفكير بأنه: "نشاط عقلي مَرِن منظَّم، يحاول لأجل حَلِّ مشكلة، أو تفسير ظاهرة، أو التنبُّؤ بها، أو الحكم عليها باستخدام منهج معين؛ من الملاحظة والتحليل والتجريب، للوصول إلى قوانين ونظريات".



فمن خلال التعريف المذكور يبدو لنا أن التفكير الهادف له صفات وله أهداف، ومن تلك الصفات أن يكون التفكير مَرِنًا غير مُتصلِّب على نتيجة سابقة أو رؤية شخصية، أو على عاطفة وقتية، لا يتحوَّل عنها إلى غيرها، ويكون التفكير مُنظَّمًا غير عشوائي؛ حيث يتبع هذا النوع من التفكير منهجية معينة، ويعتمد على تفسير وتحليل وأدلَّة وبراهين، دون التخمين والتأمُّل الذاتي والعاطفي، ومن أهداف هذا التفكير: بيان حلٍّ لمشكلة نحن فيها، أو تفسير ظاهرة من الظواهر، أو التنبُّؤ بحدث أو ظاهرة، أو الحكم عليها، ويهدف التفكير الهادف إلى نقل الوضع الموجود إلى وضعٍ أحسنَ منه، وهذا النوع من التفكير ضروري جدًّا؛ حيث بالتفكير وحده وصل بنو البشر إلى هذا التقدُّم الهائل والحضارة الشامخة، وفي المقابل ما ضاعت الحضارة إلا بالإعراض والزُّهْد في التفكير الصحيح، وإعمال العقل في مساره الطبيعي.



نجد كثيرًا من الآيات الكريمة من القرآن تحثُّنا على التفكير والتأمُّل والملاحظة والتحليل، ولو نُدقِّق في هذه الآيات، نجد أنها جاءت على طبقات تتناسب مع عصر المخاطبين ومستوياتهم العقلية، ومن الآيات التي تدل على ذلك:

قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20]، وقوله تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 - 32]، وقوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك: 3، 4].



لو ننظُر في الآيتين الأُولَيَينِ نجد أن ما توحي إليه الآيتان يمكن لمعظم الناس ملاحظته والنظر إليه؛ حيث يبدو لكل ناظرٍ خلقةُ الإبل، ورفعُ السماء، ونصبُ الجبال، وسطحُ الأرض، وكذلك يبدو لكل ناظرٍ صبُّ الماء من السماء، وانشقاقُ الأرض، وإنباتُ الحَبِّ والزروع؛ فالناس ينظرون ويلاحظون هذه الحالات، ويمكن لهم أن يتَّعظوا بها، ولكن الآية الثالثة وما يشبهها من آيات كثيرة يُحتاج في فهْمِها إلى ملاحظات دقيقة وعميقة؛ ذلك أن النظر إلى السماء وطبقاتها لا يتم إلا من خلال ملاحظة عميقة، ولم يكن هذا النوع من الملاحظة ميسورًا لكثيرٍ من الأجيال، حتى تنكشف هذه الحقائق أمام بني البشر، ولكن القرآن الكريم رغَّب المسلمين وبني البشر في مثل هذه الملاحظة؛ ليعلَموا ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].



وليس التفكير محصورًا على العلماء والباحثين فقط، وإنما يعمُّ التفكير كلَّ عاقل من بني البشر، والتفكير ضروري على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد الأُممي؛ فإننا في شؤوننا العديدة نحتاج إلى التفكير؛ لفهم حياتنا وظروفنا، وحل مشاكلنا، ولتحسين أوضاعنا، وكذلك نحتاج إلى التفكير بوصفنا أُمَّةً؛ للأهداف المذكورة، ولأجل تعميم ضرورة التفكير أحبَبْنا أن نجعل عنوان البحث (التفكير الهادف) بدل التفكير العلمي؛ حتى لا يُظَنُّ أن التفكير خاصٌّ بأهل العلم أو العلماء فقط.



عملية التفكير - في مستوًى ما - طبيعية، كما أننا نتنفَّس لنعيش، كذلك نحن نمارس التفكير بشكل طبيعي، ولكن هذا التفكير على طبقات وعلى مستويات، ومع هذا نودُّ أن نقتبس بعض الأسباب التي تُوجب علينا هذا النوع من التفكير:



بعض الأسباب والمجالات التي توجب علينا العناية بالتفكير:

الأول: القرآن يحثنا على التفكير:

نظرًا لأهمية التفكير في حياة الناس، فإن الكتاب العزيز جاء حافلًا بالآيات التي تحثُّ المسلمين على تقليب النظر في ملكوت السموات والأرض؛ ليستدلوا بذلك على وجود الخالق المبدع، كما حثَّهم على النظر في أحوال البشر وبدايات خلق الأشياء، وتحريك عقولهم بقياس أحوالهم على أحوال مَنْ سَبَقَهم من الأُمَم؛ حتى لا يُعرِّضوا أنفسهم لمثل ما تعرَّضوا له من عقاب وتدميرٍ، وأمرَهم باكتشاف السُّنَن العليا التي تحكُم حركة الإنسان والكون؛ حتى يختصروا الجهد والوقت، ويُجنِّبوا أنفسهم التصادُمَ معها، وعند قراءة القرآن الكريم نجد عشرات الآيات تحثنا على التفكُّر والتأمُّل؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].



الثاني: التفكير هو علامة الوجود والبقاء:

التفكير هو علامة الوجود والبقاء، وخاصية التفكير هي التي تُميِّز بين البشر في المستويات العليا، وحين تُحْرَم أُمَّة أو مجتمع أو جماعة أو فرد من هذه النِّعْمة، فإن الحياة تُصاب بالقَحْط والجدب، وتصبح الأعداد البشرية الهائلة أكداسًا من اللحم والعظم، وكل مشكلة تصيب المجتمع تصبح إحدى لوازمه الثابتة فيه، وتظل تتضاعف حتى إذا شعَر الناس بضرورة الخروج من النفق المظلم، وجدوا أن ذلك لن يحدث إلا بعد تكاليف باهظة مع تضاؤل إمكاناته.



الثالث: أحوال العالم الإسلامي اليوم توجب علينا التفكير الهادف، ومن تلك الأحوال:

أ ـ كثير من دول العالم الإسلامي يعيش اليوم تحت مستوى الفقر.



ب ـ على المستوى الثقافي الشكلي الكمي، فإن نسبة الأُميَّة بين المسلمين البالغين تعني أن أعلى نسبة للأُمِيَّة بين البالغين في العالم، هي من نصيب الدول الإسلامية المعاصرة، وأسباب هذا الخلل كثيرةٌ، يأتي في مقدمتها خللٌ وخطلٌ في مناهج التفكير المتَّبعة في معالجة المشكلات والأزمات.



ج ـ الجمود الحضاري:

منذ أكثر من قرن وجدنا أن الأفكار النهضويَّة التي نادى بها المصلحون في شتى ميادين الحياة، ما زالت مطالبَ لنا حتى اليوم، ونحن ما زلنا نشكو من العِلَل نفسها؛ من الفقر والجهل والمرض، والتفرُّق والأنانية والظُّلْم، والاستخفاف بالإنسان، ونحن في حالة الانحباس هذه لا نملك سوى التلاوم الدائم؛ كل شريحة تُلقِي اللَّوم على الشرائح الأخرى، وقد يكون اللوم موجَّهًا إلى جيلٍ بأكلمه مع تبرئة جيل آخر على فلسفة (مشكلاتنا صنعها الجيل السابق، وسوف يحلُّها الجيل اللاحق)؛ هذا الانحباس سببه الرئيس هو عدم القدرة على إدراك طبيعة المشكلة؛ إذ إن وجود أية مشكلة لا يؤدي بالضرورة إلى حلِّها؛ حيث يَملِك أكثر الناس الجَلَد والقدرة على التعايش مع تلك المشكلات مهما تكن قاسية، والوعي بالمشكلات لا يكفي ما لم نتمكَّن من تجزئتها إلى أسباب أساسية وثانوية مثلًا، وهذا لا يتمُّ إلا عن طريق الفكر المتحفِّز الذي لا يعرف طعم الراحة حتى يصل إلى الهدف، فنحن في هذا المقام نحتاج إلى التفكير على الصعيد الأُمَمي.



د ـ انعدام فاعلية المبادئ والْمُثُل العليا:

لا تشكو أمتنا فَقْرًا في المبادئ أو القيم؛ حيث إن المبادئ التي جاء بها الإسلام سوف تظلُّ قادرةً على تلبية الأشواق الفطرية للإنسانية، وتظلُّ قادرةً على بناء الشخصية العالمية، ولكن المشكلة التي نعاني منها هي انخفاض مستوى فاعلية تلك الْمُثُل والمبادئ في تحريك طاقات المسلمين وجذبها نحوها.



من المعروف أن الأُمَّة حين تأخذ في التراجع وتكفُّ مثلَها عن الفعل، تنسحب المضامينُ من كل أنشطتها وجوانب حياتها، وتظل الأشكال رموزًا على المنظومات العقدية، بل قد تؤدي إلى عكس ما أُوجِدت من أجله، وقد صدق الإمام الشاطبي عندما قال: "المقاصد روح الأعمال"؛ حيث إذا فقدت الأعمالُ مقاصِدَها أصبحت أشكالًا بلا معنًى وهياكلَ بلا رُوحٍ، والتفكير السديد هو الذي يساعدنا على إيجاد المخرج من هذه الأزمات.



من الضروري أن نُدرك أن هناك علاقةً انعكاسيةً مُطَّرِدةً بين واقع النُّظُم الاجتماعية وبين إطارها المرجعي ومستندها الفلسفي، فحين تصبح النُّظُم الاجتماعية عاجزةً عن إشباع حاجات الناس المعنوية والمادية والارتقاء بهم، فإن النتيجة ستكون قطعًا هي الشكُّ في المبادئ والقيم التي أفرزت تلك النُّظُم؛ إذ إن النظم الاجتماعية تُمثِّل خطَّ الدفاع الأول عن القيم والمبادئ، فإذا ما انهارتْ بدأ العَطَبُ يسري إلى المبادئ نفسها، وقد أدرك السلف هذا وعبَّروا عنه تعبيًرا دقيقًا حين قالوا: "المعاصي برِيدُ الكُفْر"، وحين تقوم النظم الاجتماعية بوظائفها التي أُوجِدت من أجلها، فإن هذا سيعود على القيم التي تستند إليها بمزيد من التمكين والترسيخ؛ إذ إن فلسفة عصرنا يزداد اعتمادُها على مقولة: "دعونا نلمس"، فإذا أمضى الناس وقتًا أطولَ مما ينبغي لقطف ثمار شجرة، يَئِسُوا منها، وجعلوها حطبًا.



الرابع: التفكير من أجل اكتشاف السُّنَن:

بثَّ الله تعالى في الكون سُنَنًا تتَّصف بالاطِّراد والشمول والثبات، وهذه السُّنَن مبثوثةٌ في الكون والأنفس والمجتمعات، ومن هذه السنن في المجتمعات أن التحوُّل في أكثر الظواهر الاجتماعية يتمُّ ببطءٍ، وعمر الإنسان إذ ما قيس بعمر الحضارات فهو قصيرٌ جدًّا؛ مما يجعل الإنسان يُبصِر مقدمات الحَدَث دون أن يراه، أو يُبصِر نتائجه دون أن يرى مُقدِّماته، وحينئذٍ فإن من السهولة بمكانٍ أن يُصاب المرء باضطراب الرؤية وضلال الأحكام؛ ولذا جاء الأمر الإلهي بالضرب في الأرض: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137]؛ إن الهدف من السير في الأرض هو اكتشاف السُّنَن ما دام الواقع المعيش لا يُتيح للمرء أن يرى الصورة كاملةً بكُلِّ أبعادها، والسير في الأرض ليس سيرًا في المكان فقط، ولكنه أيضًا سيرٌ في الزمان؛ حتى نرى قصة البشرية كاملةً في رُشْدها وغيِّها والعواقب التي آلَتْ إليها.



إن السنن توطِّد العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وحين نكتشف سُنَنًا في مجالٍ ما، فإن ذلك يعني سهولة فهم الماضي والحاضر، كما يعني استشرافًا حسنًا للمستقبل؛ مما يجعل المسلم يخرج من عالم التوقُّعات والتخمينات إلى عالم العلم الراسخ الذي يُعتمَد عليه في البناء والعمل، وحين نتجاهل وجود السُّنَن التي تحكمنا، وتحكم الوجود من حولنا، فإن أخطارًا كبيرةً سوف تُحيط بنا، فحين لا ندرك مثلًا أن السُّنَّة في التحوُّل الاجتماعي هي التدرُّج وليست الطَّفْرة؛ فإننا سوف نعتمد أساليبَ ووسائل تُخالف الِفطْرة وسُنَّة التدرُّج، وسوف يؤدي ذلك إلى الاصطدام بالسُّنَّة، وسنحصد عاقبة ذلك.



الخامس: تجسيد القِيَم في أشكال وأساليب عملية:

في بعض الحالات يجعل الإخلاصُ والحماسةُ الأُمَّةَ تتجاوز مشاكلها من خلال تحمُّل الأفراد، ومن خلال التضحية والعطاء السَّخي، ولكنه لا يستمر إلى فترة طويلة؛ حيث تتراجع العاطفة والتوثُّب الرُّوحي، ليحل محلَّه تيارٌ من الأنشطة العقلية، وبالإضافة إلى هذا فإن اتِّساع القاعدة يجعل إمكانات التواصُل والتأثُّر العاطفي أقلَّ؛ مما يجعل الأمة محتاجةً إلى بلورة مبادئها وقِيَمها في إجراءات يومية تجعل حضورَها ملموسًا، وهذه الإجراءات والأشكال تتمُّ بلورتها من خلال عملية اجتهادية مستمرة، تستهدف إيجاد وظائف محددة للمُثُل العليا، وإيجاد المحفِّزات التي تُنشِّط تلك الوظائف إذا ما اعتراها الفتور، أو انخفضت درجةُ فاعليتها لسببٍ من الأسباب.



من الأمثلة على تحويل القِيَم إلى أشكال وأساليب علمية:

المبادئ والقِيَم لا تتبدَّل، ولكن تجسيد تلك المبادئ والقِيَم من زمانٍ إلى زمانٍ قد يتغيَّر، نضرب على ذلك مثالًا في تحديد المراد من بعض آيات القرآن الكريم؛ يقول الله عز وجل: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 7]، وفي آية أخرى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19]، لو ندقِّق في تحديد المراد من كلمتي "الماعون" و"الفاحشة"، نجد أن المراد بهما قد يختلف باختلاف الأزمنة والأعراف؛ فالماعون الذي كان رائجًا في زمان قبل مائة سنة، لم يبق رائجًا في الزمان الحاضر، وكذلك ما نعتبره اليوم ماعونًا قد لا يعتبره الناس ماعونًا بعد 50 سنة على سبيل المثال، وكذلك يختلف المراد بالفاحشة في الآية الثانية من زمان إلى زمان؛ فالفاحشة التي كان الكفَّار يُشيعونها في مجتمعات الأمة الإسلامية قبل مائة سنة، من الممكن أن تكون غير موجودة أو رائجة في الزمان الحالي، وما يُشاع اليوم من الفواحش من الممكن أن يختفي بعد فترة من الزمان، ولكن الكلمة الأساسية وهي الماعون والفاحشة، لا تزال تُطلَق، ولكنَّ الكلمتين الأساسيتين - وهما: الماعون والفاحشة - ما تزالان تُطلَقان على ذلك المراد، كذلك في المبادئ والقيم؛ حيث إنها لا تتغيَّر، ولكن تجسيدها وصور تطبيقها قد يختلف في زمان وفي بيئة، قد يختلفان في زمان آخر وبيئة أخرى، ونقتبس مثالين على هذا:

أ ـ الشورى:

الشورى مبدأ من أهم المبادئ الإسلامية، وحين كان المجتمع ضيق الرُّقعة، فإنه كان بالإمكان الاعتماد على الشورى العفوية المعتمدة على معرفة الخليفة بأهل الحَلِّ والعَقْد، وحين اتَّسعت رُقعة الدولة الإسلامية كان لا بد من تطوير الصِّيغ الشورية بما يتناسب مع الأوضاع الجديدة، ولكن الذي حدث هو بقاء الشورى عفويةً .. ونظرًا لضَعف خبرتنا التاريخية، فإن الإحساس بضرورة بلورة هذا المبدأ في أشكال مُنظَّمة ما زال ضعيفًا، والأضعف منه المقدرة الفنية على ابتكار الطرق الملائمة لأوضاعنا الخاصة، ولن نتمكَّن من عمل شيءٍ في هذه السبيل إلا بالتفكير الجادِّ المرتكز على قاعدة جيدة من المعلومات.



ب ـ الوحدة:

الوحدة هو هي المحور الذي ينحاز إليه أهل السنة والجماعة، ولكن مع ذلك فإن الفُرْقة والاختلاف نالا القسط الأوفر من شكايات المسلمين على مدى التاريخ الإسلامي، وكان كثير من الغيورين يسعون إلى معالجة ذلك الداء بالاتجاه إلى توكيد مبدأ الوحدة، من خلال سوق نصوص الكتاب والسنة، وأدبيَّات الوحدة والجماعة، ولم يكن ذلك هو الحل ولا ما يقاربه؛ حيث إن الوحدة مبدأ ثابت عند المسلم، ولكن كان المطلوب دراسات مطولة، وإعمالًا مستمرًّا للفكر في البحث عن الأسباب التي تُؤدي إلى الشقاق؛ من الجهل والهوى والظُّلْم، كما كان المطلوب أن نأخذ عينات من نماذج الانشقاقات الكبرى في تاريخنا لدراستها، واستخلاص العِبَر منها، وكان من جملة المطلوب كذلك أن نتَّجه إلى الأُطُر الوحدوية التي تتناسب مع الظروف المعقَّدة، والمعطيات الجغرافية الجديدة، بما يُحقِّق شكلًا من أشكال التوحُّد، ويسمح في الوقت نفسه بمرونة الحركة للشعوب الإسلامية وَفْق خصوصياتها والمراحل الحضارية التي تمرُّ بها.



إن كل ما ذكرناه من مجالات التوظيف للقيم، وما ذكرناه من الأزمات والمشكلات - لا يمكن حلُّه إلا من خلال التفكير المنظَّم الواعي المدرك لأسباب تلك المشكلات وجذورها، يمدُّه استقراءٌ واسعٌ لحاجات المسلمين المعاصرة، من أجل استخلاص العِبَر من الماضي وتخفيف عناء الحاضر.



وكل هذا يدل بوضوح على أن التفكير شيء حيوي في حياة الأفراد والأمة؛ فبهذا التفكير يرتقي الأفراد والأمة، وبالابتعاد عنه أو الانحراف فيه تنحَطُّ الأُمَّة والأفراد، وإن كل شيء يتمثَّل في الذهن والفكر أولًا، فإذا أراد إنسان أن يبني شيئًا، فإنه يُفكِّر فيه ويَحلُم به، ثم يتمثَّل هذا الشيء الحلم في الواقع، فنحن إن لم نفكر في شيء، فلن نحصل عليه، ولن يتمثَّل هذا الشيء أمام أعيننا، فإننا في أَمَسِّ الحاجة إلى التفكير وتفعيله وتوسيعه؛ ليشمل كل مجالٍ من مجالات الحياة، وكل مستوى من مستويات الحياة.

اميرالذوق
10-06-2018, 11:32 PM
سلمت يدآك على روعة الطرح
وسلم لنآ ذوقك الراقي على جمال الاختيار
لك ولحضورك الجميل كل الشكر والتقدير
اسأل البآري لك سعآدة دائمة
تحياتي...~

نهيان
10-07-2018, 05:54 PM
وتـــــــــــر

جل شكري وتقديري لشخصك الكريم
على جلبك وماعودتينا عليه من مواضيع مميزه
دمتي بسعاده لاتفارقك ماحييتي


اعجابي+نجووم+تقييم+ختم
يرفع للتنبيهات

فتون
11-20-2018, 03:01 PM
بصراحــه رائع جدا هذا الموضوع
بصراحه انت تمتلك ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دايما كلاماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك
يجبرني قـلمك دوما أن احلق بعيد حيث الإبداع
اللا متناهي والجمال الخلاب والكلمة الراقية الفذه
صانع راقي للحروف تنسجها بإحترافية عالية تنم عن فكر متميز ومتفرد
اسجل اعجابي بقلمك ياطـهروسيكون لي موعد مع جديدك دوماالرائع

نبراس القلم
12-10-2018, 01:43 AM
يعطيك العافية.. على ألطٌرحً الرائع
ماننحرم منٌ جَدُيّدُكـ ألمميّز
هــذا مروِريّ ألبّسًيّطٌ بّمتُصِفُحًك الانيق وِألبّدُيّع
اتمنى لكـ دوام التالق والابداع
باقات الشكر والتقديراقدمها لك

كوثر
12-26-2018, 10:05 PM
تشكرين على روعة وجمال موضوعك أختي بالتوفيق للمزيد

منصور
01-19-2019, 06:28 AM
يعطيك العافيه
على طرحك الرائع
ألف شكر لك على مجهــودك
وننتظر جديدك القادم
تحياتي

فطوووم
01-23-2019, 10:33 PM
موضوع رائع ,
وطرح قيّم ومتميز ,,!
كل الشكر على روعة اختيارك ’’

فاتن علي
01-28-2019, 11:45 PM
مواضيعك سهل على القلوب هضمها و على الأرواح تشربها تألفها المشاعر بسهولة و يستسيغها وجداننا كالشهد كذاك كان ردكـ اخـــــــي وصديقي لك خالص احترامي
شكرا لك على الموضوع الجميل و المفيذ ? جزاك الله الف خير على كل ما تقدمه لهذا المنتدى ? ننتظر ابداعاتك الجميلة بفارغ الصبر