مشاهدة النسخة كاملة : القرآن كائن حي....


عطر الزنبق
10-21-2019, 11:37 PM
في اللغة الدارجة نخلط دائماً بين النفس و الروح ، فنقول إن فلاناً طلعت روحه ..
و نقول إن فلاناً روحه تشتهي كذا ، أو أن روحه تتعذب
أو أن روحه توسوس له ، أو أن روحه زهقت ، أو أن روحه اطمأنت ،
أو أن روحه تاقت و اشتاقت أو ضجرت و ملت .. و كلها تعبيرات خاطئة ،
و كلها أحوال تخص النفس و ليس الروح ،
فالتي تخرج من بدن الميت عند الحشرجة و الموت هي نفسه و ليست روحه.
يقول الملائكة في القرآن للمجرمين ساعة الموت..
(( أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون )) (93 – الأنعام )
و التي تذوق الموت هي النفس و ليس الروح
(( كل نفس ذائقة الموت )) (185 – آل عمران )
و النفس تذوق الموت و لكن لا تموت ..
فتذوقها الموت هو رحلة خروجها من البدن ، و النفس موجودة قبل الميلاد ،
و هي موجودة بطول الحياة ، و هي باقية بعد الموت ،
و عن وجود الأنفس قبل ميلاد أصحابها يقول الله :
إنه أخذ الذرية من ظهور الآباء قبل أن تولد و أشهدها على ربوبيته
حتى لا يتعلل أحد بأنه كفر لأنه وجد أباه على الكفر.
(( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين،
أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذريةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون،
و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون )) ( 172، 173، 174 – الأعراف )
فذلك مشهد أحضرت فيه الأنفس قبل أن تلابس أجسادها بالميلاد ،
و ليس لأحد عذر بأن يكفر بعلة كفر أبيه ،
فقد كان لكل نفس مشهد مستقل طالعت فيه الربوبية ..
و بهذا استقرت حقيقة الربوبية فطرتنا جميعاً ..
ثم إن الروح لا توسوس ، و لا تشتهي و لا تهوى و لا تضجر و لا تمل
و لا تتعذب ، و لا تعاني هبوطاً و لا انتكاساً ،
إنما تلك كلها من أحوال النفس و ليس الروح..
يقول القرآن :
(( فطوعت له نفسه قتل أخيه)) (30 – المائدة)
(( و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه)) (16 – ق)
(( و نفس و ما سواها، فألهمها فجورها و تقواها)) (7، 8 – الشمس)
(( بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل)) (18 – يوسف)
(( و ضاقت عليهم أنفسهم و ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه)) (118 – التوبة)
(( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم)) (55 – التوبة)
(( و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)) (130 – البقرة)
(( و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (9 – الحشر)
(( و أحضرت الأنفس الشح) (128 – النساء)
(( و ما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)) (53 – يوسف)
فالنفس هي المتهمة في القرآن بالشح و الوسواس و الفجور و الطبيعة الأمارة ،
و للنفس في القرآن ترق و عروج ، فهي يمكن أن تتزكى و تتطهر ،
فتوصف بأنها لوامة و ملهمة و مطمئنة و راضية و مرضية ..
(( يأيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ،
فادخلي في عبادي ، و ادخلي جنتي )) ( 27 : 30 – الفجر )
أما الروح في القرآن فتذكر دائماً بدرجة عالية من التقديس و التنزيه و التشريف ،
و لا يذكر لها أحوال من عذاب أو هوى أو شهوة أو شوق أو تطهر
أو تدنس أو رفعة أو هبوط أو ضجر أو ملل ،
و لا يذكر أنها تخرج من الجسد أو أنها تذوق الموت ..
و لا تنسب إلى الإنسان و إنما تأتي دائماً منسوبة إلى الله..
يقول الله عن مريم:
(( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا)) (17 – مريم)
و يقول عن آدم:
(( فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (29 – الحجر)
يقول (( روحي )) و لا يقول روح آدم
فينسب ربنا الروح لنفسه دائماً
(( و أيدهم بروح منه)) أي من الله (22 – المجادلة)
و يقول عن القرآن و نزوله على النبي عليه الصلاة و السلام:
(( و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا)) (52 – الشورى)
و يقصد بالروح هنا الكلم الإلهي القرآني
(( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق)) (15 - غافر)
(( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده)) (2 – النحل)
و الروح هنا هي الكلمة الإلهية و الأمر الإلهي..
و الروح دائماً تنسب إلى الله ، و هي دائماً في حركة من الله و إلى الله
و لا تجري عليها الأحوال الإنسانية و لا الصفات البشرية ..
و لا يمكن أن تكون محلاً لشهوة أو هوى أو شوق أو عذاب..
و لهذا توصف الروح بأوصاف عالية
فيقول القرآن عن جبريل: إنه روح القدس.. و الروح الأمين
و يقول عن عيسى إنه
(( رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه )) أي روح من الله..
أما النفس فهي دائماً تنسب إلى صاحبها:
(( و ما أصابك من سيئة فمن نفسك)) (79 – النساء)
(( و من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه)) (15 – الإسراء)
(( و ضاقت عليهم أنفسهم)) (118 – التوبة)
(( و ما أبرئ نفسي)) (54 – يوسف)
(( و كذلك سولت لي نفسي)) (96 – طه)
(( و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (9 – الحشر)
(( و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)) 130 – البقرة)
و حينما تنسب النفس إلى الله فتلك هي الذات الإلهية
(( و يحذركم الله نفسه)) (28 – آل عمران)
ذلك هو الله ليس كمثله شيء و هو مما لا يستطيع الإنسان أن يتخيل له شبيهاً
و لا يصح أن نقيس النفس الإلهية على نفوسنا
فالنفس الإلهية هي غيب الغيب
يقول عيسى لربه يوم القيامة:
(( تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك )) (116 – المائدة )
فالنفس الإلهية لا تتشابه مع النفس الإنسانية إلا في اللفظ و لكنها شيء آخر البتة..
(( ليس كمثله شيء)) (11 – الشورى)
(( لم يكن له كفوا أحد)) (4 – الإخلاص)
و السؤال إذن.. ما نصيب كل منا من الروح؟
و ماذا نعني حينما نقول إن لنا روحا و جسداً ؟
ثم ما علاقة نفس كل منا بروحه و جسده ؟
أما نصيبنا من الروح فهو النفخة التي ذكرها القرآن في قصة خلق آدم
(( إني خالق بشراً من طين ، فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين))
(71، 72 – ص)
و ما حدث من أمر التسوية و التصوير و النفخ في صورة آدم يعود
فيتكرر في داخل الرحم في الحياة الجنينية لكل منا ..
فيكون لكل منا تسوية و تصوير ، ثم نفخة ربانية حتى تتهيأ الأنسجة
و يستعد المحل لتلقي هذه النفخة ، و ذلك يكون في الشهر الثالث من الحياة الجنينية ،
و ينتقل الخلق بهذه النفخة من حال إلى حال
يقول ربنا عن هذه المراحل :
(( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحما
ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين )) ( 14 – المؤمنون )
فيقول عند النفخة : ((ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)) ..
إشارة إلى نقلة هائلة نقل بها المضغة المكسوة بالعظام إلى مستوى لا يبلغه
و لا يقدر عليه إلا أحسن الخالقين .. و ذلك بالنفخة الربانية.
و يتكلم عن هذا النفخ في الجنين بعد تسويته في آية أخرى عن نسل آدم..
(( ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه و نفخ فيه من روحه
و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة )) ( 8 ، 9 – السجدة )
و نفهم من هذا أن السمع و البصر و الفؤاد هي من ثمار هذه النفخة الروحية ..
و إنه بهذه المواهب ينقل الإنسان من نشأة إلى نشأة
و من مستوى إلى مستوى ، و هذا هو معنى ..
ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.
إن نصيبنا من هذه الروح إذن هو نصيبنا من هذه النفخة ..
و كل منا يأخذ من هذه النفخة على قدر استعداده و بفضل هذه النفخة
يصبح للواحد منا خيال و ضمير و قيم و عالم من المثل ..
و الجسد و الروح فينا أشبه بأرض الواقع و سماء المثال..
و علاقة نفس كل منا بروحه و جسده هي أشبه بعلاقة ذرة الحديد
بالمجال المغناطيسي ذي القطبين.
و الذي يحدث للنفس دائماً هو حالة استقطاب ، إما انجذاب و هبوط إلى الجسد ،
إلى حمأة الواقع و طين الغرائز و الشهوات ،
و هذا هو ما يحدث للنفس الجسدانية الحيوانية حينما تشاكل الطين
و تجانس التراب في كثافتها ، و إما انجذاب و صعود إلى الروح ،
إلى سماوات المثال و القيم و الأخلاق الربانية ،
و هو ما يحدث للنفس حينما تشاكل الروح و تجانسها في لطفها و شفافيتها ..
و النفس طوال الحياة في حركة و تذبذب
و استقطاب بين القطب الروحي و بين القطب الجسدي ..
مرة تطغى عليها ناريتها و طينتها ، و مرة تغلبها شفافيتها و طهارتها.
و الجسد و الروح هما مجال الإمتحان و الإبتلاء ، فتبتلى النفس
و تمتحن بهاتين القوتين الجاذبتين إلى أسفل و إلى أعلى لتخرج سرها ،
و تفصح عن حقيقتها و رتبتها و ليظهر خيرها و شرها..
و من هنا نفهم أن حقيقة الإنسان هي ((نفسه)) ،
و الذي يولد و يبعث و يحاسب هو نفسه ، و الذي يمتحن و يبتلى هو نفسه ،
و ما يجري عليه من الأحوال و الأحزان و الأشواق هي نفسه ..
أما جسده و روحه فهما مجرد مجال تماماً مثل الأرض و السماوات
في كونهما مجال حركة بالنسبة للإنسان لإظهار مواهبه و ملكاته ..
فكما أعطى الله لهذه النفس عضلات ( جسداً ) كذلك أعطاها روحاً لتحيا ،
و تعمل و تكشف عن سرها و مكنونها و تباشر خيرها و شرها.
و بهذا المعنى تكون كلمة (( تحضير الأرواح )) كلمة خاطئة ،
فالأرواح لا تستحضر ، و لا يمكن لأي روح أن تستحضر ،
لأن الروح نور منسوب إلى الله وحده ، و هو ينفخ فينا هذا النور لنستنير به ..
و هذا النور من الله و إلى الله يعود و لا يمكن حشره أو استحضاره ..
أما ما يحشر و يستحضر فهي الأنفس و ليس الأرواح ..
هذا إذا صح أن هؤلاء الناس يستحضرون أنفساً في جلساتهم ..
و أغلب الظن أن ما يحضر يكون من الجن المصاحب لهذه الأنفس في حياتها ( القرناء ) ،
و كل منا له في حياته قرين من الجن يصاحبه ،
و هو بحكم هذه الصحبة الطويلة يعرف أسراره و يستطيع أن يقلد صوته
و إمضاءه ، و هذا الجن هو الذي يلابس الوسيط في غرفة التحضير المظلمة ،
و يدهش الموجودين بما يحسبونه خوارق.
أما الأرواح فلا يمكن استحضارها
أما الأنفس فلا يحشرها و لا يحضرها إلا ربها
و النفس لا يمكن أن تتحول إلى روح ، و إنما هي في أحسن أحوالها
ترتقي حتى تشاكل الروح و تجانسها بقدر ما تتخلق بالأخلاق الربانية ،
و بقدر ما تقترب من المثال النوراني ( الروح التي نفخها الله في الإنسان )
كذلك يمكن لهذه النفس أن تتدنى و تهبط حتى تشاكل الشياطين ،
و تجانس إبليس في ناريته.
و النفس التي تتطهر و تتزكى حتى تشاكل و تجانس الروح في لطفها
هي التي يقربها الله من عرشه يوم القيامة ،
و هي التي يقول عنها إنها ستكون :
(( في مقعد صدق عند مليك مقتدر )) | 55 – القمر
لأنها بهذا التطهر و الترقي تصبح نفسا ربانية مكانها إلى جوار الله..
أما النفوس المظلمة التي تهبط بفجورها و غلظتها إلى الدرك الشيطاني
فهم الذين يقول عنهم ربهم يوم القيامة:
(( إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)) (15 – المطففين)
و هؤلاء سيكون مكانهم مع النفوس النارية السفلية في قاع الظلمة و الجحيم ،
أما الروح فلا مكان لها في جنة أو جحيم ،
و إنما هي نور من نور الله تنسب إليه ، و هي منه و لا يجري عليها ابتلاء
و لا محاسبة و لا معاقبة و لا مكافأة .. و إنما هي المثل الأعلى..
(( و له المثل الأعلى و هو العزيز الحكيم)) (60 – النحل)
(( و له المثل الأعلى في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم)) (27 – الروم)
و ذلك عالم المثال النوراني الذي يستمد قدسيته و نورانيته من كونه من الله و من أمر الله..
(( و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي
و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا )) ( 85 – الإسراء )
..

د. مصطفى محمود
من كتاب : القرآن كائن حي.

نهيان
10-22-2019, 02:43 PM
https://beautyy.org/wp-content/uploads/2016/07/20160720-220.gif

عطر الزنبق
10-22-2019, 03:20 PM
اقتباس:



المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نهيان http://www.skoon-elamar.com/vb/S-QMR2019/buttons/viewpost.gif (http://www.skoon-elamar.com/vb/showthread.php?p=466432#post466432)
https://beautyy.org/wp-content/uploads/2016/07/20160720-220.gif
https://wir.skyrock.net/wir/v1/resize/?c=isi&im=%2F9389%2F59949389%2Fpics%2F2849414010_1_2_yk1R WrjU.gif&w=600