المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البيِّنة والبرهان وصفان للنبي العدنان


انثى برائحة الورد
06-19-2020, 01:29 AM
الحمدُ لله، وأفضل الصلاة والسلام
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدُ:
فالبينات صفات الكلمات، والبرهان وليدُ اللسان
ولكن سبحان الله، ما أروع هذا البيان!
أن يعبَّر بالذات عن السِّمات، وهذا التعبير حق صادح
وصوت مادح؛ لأن الذات إذا استمكنت الأوصاف
أخذَت من هذه الألطاف، فتتحول الأعراض إلى جواهر
والمواضي حواضر، كيف لا وهذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم هو البينة والبرهان
والحجة والنور المستَبان؟
أوصافه سَنيَّة، وأفعاله مهديَّة، قد جمع رموز الأنبياء،
وعهود الأولياء، وخُصَّ بالخلَّة والبهاء
رفيق بما لا يبلغه الرفقاء، ورحيمٌ إذا قسى الرحماء.
ما الصبح إذا بان؟
ما السراج إذا ازدان؟
ما المشكاة في الأكوان؟
ما الشموس ما الأقمار في الأزمان؟
إذا ما بدا نورُ محمد صلى الله عليه وسلم للعيان؟
قُلتَ: هو النور وتلكم الكتمان؛
بل هو نور النور إذا ما النور استبان
فصلى عليه الله ما أشرقت شمس على الأكوان.
مضى على لسان المدعين والمختلفين في مسألةٍ ما قولُهم:
((البيِّنة على من ادَّعى واليَمين على مَن أنكَر))
وهو جزء من حديثٍ نطَق به المصطفى
صلى الله عليه وسلم لتأسيس
مبدأ إثبات الحق ونفيه عند الادعاء والاختلاف والتخاصم
وعلى هذا أقول: الألوهية - مع عظمتها للمعاندين -
دعوى بيِّنتُها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
وهذا من عظيم قدره عند ربِّه
أن جعَله الله بينتَه، قال تعالى في محكم التنزيل:
﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾ [البينة: 1، 2].
والبَيِّنَة: هي الدَّلالة، أو الحجة الواضِحة؛
عَقليَّة كانَت أو محسوسَة، وسُمِّيت شَهادةُ الشاهدَيْن بَيِّنة
لقولِه عليه الصلاة والسَّلام:
((البيِّنة على المدَّعي واليمينُ على من أنكَر))، والجمع بيِّنات.
وقيل: البيِّنة من القول والكون ما لا يُنازعه منازع؛
لوضوحه، وقال بعضهم: البينة: الدلالة الفاصلة
بين القضية الصادقة والكاذبة،
وقال بعضهم: البينة: ما ظهَر برهانه
في الطبع والعلمِ والعقل؛ بحيث لا مندوحة
عن شهود وجوده
والبينة هي: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
قال أبو السُّعود: عبر عنه عليه الصلاة والسلام بالبينة
للإيذانِ بغاية ظهورِ أمره، وكونه ذلك الموعودَ في الكتابَين
قال الألوسي: وتنوينه للتفخيم، والمراد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ في موضعِ الصفة له مفيدٌ للفخامة الإضافية؛ فهو مؤكِّد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية
وقال: إعرابه: بدلٌ من البينة، أو خبرُ ابتداء مضمَر
والبينة: صفة اسم الفاعل؛ أي: المبين للحق
أو هي بمعناها المعروف، وهو الحجة المثبتة للمدَّعي
ويُراد بها المعجِز، وعلى الوجهين فقوله تعالى: ﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ رسول: بدلٌ منها، بدل كلٍّ من كلٍّ، أو خبرٌ لمقدَّر؛ أي: رسول
قال أبو حيان: وجمع تعظيمًا له؛ لأنه
وإن كان واحدًا بالشخص فهو كثير بالمعنى
وقال البغوي: لفظة (تأتيهم)
مستقبل ومعناه الماضي أي حتى أتتهم
الحجة الواضحة يعني محمد
وقال ابو السعود: قوله تعالى: ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البينة: 2]
متعلق مضمر هو صفة لرسول مؤكد؛ لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية؛ أي: رسول، وأي رسول كائن منه تعالى، وقال: وقوله تعالى: ﴿ يَتْلُو ﴾ صفة أخرى له، أو حال من الضمير في متعلق الجار. ﴿ صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾؛ أي: منزهة عن الباطل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو من أن يمسه غيرُ المطهَّرين،
ونسبة تلاوتها إليه عليه السلام
من حيث إن تلاوة ما فيها بمنزلة تلاوتها
قال الرازي: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظمًا وتفسيرًا
وقد تخبَّط فيها الكبار من العلماء!
وجه الإشكال أن تقدير الآية:
﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 1]
التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يَذكر
أنهم منفكُّون عن ماذا، لكنه معلوم؛
إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير:
لم يكن الذين كفروا منفكِّين عن كفرهم
حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة
(حتى) لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا
منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول،
ثم قال بعد ذلك: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4]،
وهذا يَقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء
الرسول عليه السلام؛ فحينئذ يحصل بين
الآية الأولى والآية الثانية مناقَضةٌ في الظاهر
هذا منتهى الإشكال فيما أظن.
والجواب عنه من وجوه:
أوَّلها وأحسنُها: الوجه الذي لخَّصه صاحب "الكشاف" وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبَدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم: لا ننفكُّ عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد عليه السلام، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [البينة: 4]؛ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرَّقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لستُ أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغِنى. فلما رزقه الله الغنى ازداد فسقًا، فيقول واعظه: لم تكن منفكًّا عن الفسق حتى توسر، وما غمستَ رأسك في الفسق إلا بعد اليسَار؛ يُذكِّره ما كان يقوله توبيخًا وإلزامًا.
وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد؛ وهو أن قوله: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ﴾ عن كفرهم ﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 1] مذكورة حكاية عنهم، وقوله: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [البينة: 4] هو إخبار عن الواقع؛ والمعنى: أن الذي وقع كان على خلاف ما ادَّعَوا.
وثانيها: أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال، هكذا ذكره القاضي، إلا أن تفسير لفظة (حتى) بهذا ليس من اللغة في شيء.



وثالثها: أنَّا لا نحمل قوله: ﴿ مُنْفَكِّينَ ﴾ [البينة: 1] على الكفر؛ بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل؛ والمعنى: لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيَهم البينة، قال ابن عرفة: أي: حتى أتتهم، فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي، وهو كقوله تعالى: ﴿ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: ما تَلَت؛ والمعنى: أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم تفرقوا فيه، وقال كلُّ واحد فيه قولًا آخرَ رديًّا، ونظيره قوله تعالى: ﴿ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ [البقرة: 89].
والقول المختار في هذه الآية: هو الأول.
وفي الآية وجه رابع وهو: أنه تعالى حكَم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول، وكلمة (حتى) تَقتضي أن يكون الحال بعد ذلك بخلاف ما كان قبل ذلك، والأمر هكذا كان؛ لأن ذلك المجموع ما بقُوا على الكفر بل تفرقوا؛ فمنهم من صار مؤمنًا، ومنهم من صار كافرًا، ولما لم يبقَ حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم كما كان قبل مجيئه، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى.
وفيها وجه خامس وهو: أن الكفار كانوا قبل مبعثِ الرسول منفكين عن التردد في كفرهم، بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقتَه، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول؛ بل بقوا شاكِّين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان، ونظيرُه قوله: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ [البقرة: 213]، والمعنى: أنَّ الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمِهم ودمهم؛ فاليهودي كان جازمًا في يهوديته، وكذا النصراني وعابد الوثن، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم اضطربَت الخواطر والأفكار، وتشكَّك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته، وقوله: ﴿ مُنْفَكِّينَ ﴾ [البينة: 1] مشعرٌ بهذا؛ لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه؛ فمعناه: أن قلوبهم ما خلَت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم إن بعد المعبث لم يبقَ الأمرُ على تلك الحالة
والملاحَظ في هذه الآية الكريمة أن الله قدم أهل الكتاب على الكفار في الذم في هذا المقام، والمتبادر إلى الذهن أن يُقدَّم الكفار عليهم؛ لعدم تسليمهم بالألوهية أصلًا.
والجواب: أن هذا المقام مقام رِفعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدَّم الله بالذم مَن أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخَّر كُفر مَن كفر به، وهو من باب تقديم حق النبي على حق الله! وإلى هذا أشار الرازي رحمه الله وهو يفسر سورة "الكافرون" فقال:

أنسيتَ يا محمدُ أني قدمت حقَّك على حق نفسي، فقلتُ: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ﴾ [البينة: 1] ، فقدَّمتُ أهل الكتاب في الكفر على المشركين؛ لأنَّ طعن أهل الكتاب فيك وطعنَ المشركين فيَّ، فقدمتُ حقك على حق نفسي، وقدَّمت أهل الكتاب في الذم على المشركين، وأنت أيضًا هكذا كنتَ تفعل؛ فإنهم لما كسَروا سنَّك قلتَ: ((اللهم اهد قومي))، ولما شغَلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت: ((اللهم املَأْ بطونهم نارًا))؛ فهاهنا أيضًا قُدِّم حقي على حق نفسك، وسواءٌ كنت خائفًا منهم، أو لستَ خائفًا منهم فأظهِرْ إنكار قولهم، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الكافرون: 1، 2]
وفصَّل ذلك بوضوح في سورة البينة، فقال:
لِم قدَّم أهل الكتاب على المشركين في الذِّكر؟
الجواب مِن وجوهٍ:
أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام، كان يقدِّم حق الله سبحانه على حق نفسه؛ ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته، قال: ((اللهم اهد قومي؛ فإنهم لا يعلمون))، ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق، قال: ((اللهم املأ بطونهم وقبورهم نارًا))؟! فكأنه عليه السلام قال: كانت الضربة ثَمَّ على وجهِ الصورة، وفي يوم الخندق على وجه السِّيرة التي هي الصلاة!
ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال: كما قدمتَ حقي على حقك فأنا أيضًا أقدم حقَّك على حق نفسي، فمَن ترك الصلاة طولَ عمره لا يَكفر، ومن طعن في شعرةٍ من شعراتك يَكفر.
إذا عرفتَ ذلك فنقول: أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله؛ بل في الرسول، وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله، فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أوَّلًا في النكاية بذكر مَن طعن في محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ وهم أهل الكتاب، ثم ثانيًا بذِكر مَن طعن فيه تعالى؛ وهم المشركون.
وثانيها: أنَّ جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم؛ لأن المشركين رأوه صغيرًا ونشأ فيما بينهم، ثم سفَّه أحلامَهم وأبطل أديانهم، وهذا أمرٌ شاقٌّ، أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته، ويُقرُّون بمبعثه، فلما جاءهم أنكروه مع العلم به، فكانت جنايتهم أشد
وإذا قررنا ذلك فأقول: الألوهية دعوى مشرَّفة، دليلها وحجتها الواضحة هي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ من أجل ذلك سماه برهانًا:
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 174، 175].
والبرهان: الحجَّة الفاصلة البيِّنة، يقال: برهَن يُبرهِن برهنةً: إذا جاء بحجَّة قاطعة للَدَدِ الخَصم، فهو مبرهِن؛ يقال للذي لا يبرهِن حقيقته: إنما أنت متمنٍّ، فجعل يبرهن بمعنى: يبيِّن، وجمع البرهان بَراهينُ، وقد برهن عليه: أقام الحجةَ، والبرهان عند المنطقيِّين: قياس مؤلَّفٌ من مقدِّمات يقينية، وعند الرياضيين: ما يُثبت قضية من مقدَّمات مسلَّمٍ به
قال ابن رجب الحنبلي:
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والصلاة نور والصَّدقة برهان والصبر ضياء))، وفي بعض نُسخ "صحيح مسلم": ((والصيام ضياء))؛ فهذه الأنواع الثلاثة من الأعمال أنوارٌ كلها، لكنَّ منها ما يختصُّ بنوعٍ من أنواع النور؛ فالصلاة نورٌ مطلَق، ورُوي بإسنادين فيهما نظَر عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلاة نور المؤمن))؛ فهي للمؤمنين في الدنيا نورٌ في قلوبهم وبصائرِهم، تُشرِق بها قلوبهم وتستنير بصائرهم؛ ولهذا كانت قرةَ عين المتقين، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((جُعلَت قرة عيني في الصلاة))، وقال أيضًا: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له: حفظَك الله كما حفظتَني، وصعد بها إلى السماء ولها نور تنتهي إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها))، وهي نورٌ للمؤمنين، ولا سيما صلاة الليل؛ كما قال أبو الدرداء: "صلوا ركعتين في ظُلَم الليل؛ لظُلمة القبور"، وكانت رابعةُ قد فتَرَت عن وِردها بالليل مدة، فأتاها آتٍ في منامها فأنشدَها:
صلاتُكِ نورٌ والعباد رقودُ ♦♦♦ ونومُك ضدٌّ للصلاة عنيدُ
وهي في الآخرة نورٌ للمؤمنين في ظلمات القيامة وعلى الصراط؛ فإنَّ الأنوار تقسم لهم على حسب أعمالهم، وفي "المسند" و"صحيح ابن حبان" عن عبدالله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكَر الصلاة فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة))، وخرج الطبراني بإسناد فيه نظرٌ من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الصلوات الخمس في جماعة جازَ على الصراط كالبرق اللامع في أول زُمرة من السابقين، وجاء يوم القيامة ووجهُه كالقمر ليلة البدر)).
وأما الصدقة فهي برهان، والبرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس، ومنه حديث أبي موسى: أن روح المؤمن تخرج من جسده لها برهانٌ كبرهان الشمس، ومنه سُميت الحجة القاطعة برهانًا؛ لوضوح دلاتها على ما دلت عليه، فكذلك الصدقة برهانٌ على صحة الإيمان، وطيبُ النفس بها علامةٌ على وجود حلاوة الإيمان وطعمه، كما في حديث عبدالله بن معاوية العامري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ مَن فعَلهن فقدْ طَعِم الإيمانَ؛ مَن عبَد الله وحدَه، وأنه لا إله إلا الله، وأدى زكاة ماله طيِّبةً بها نفسُه وافدةً عليه في كلِّ عام...)) وذكَر الحديث؛ خرَّجه أبو داود.
وقد ذكَرنا قريبًا حديثَ أبي الدرداء فيمن أدى زكاة ماله طيبةً بها نفسه، قال: وكان يقول: لا يفعل ذلك إلا مؤمنٌ، وسبب هذا: أن المال تحبُّه النفوس وتبخل به، فإذا سمحَت بإخراجه لله عز وجل دل ذلك على صحة إيمانها بالله ووعده ووعيده؛ ولهذا منعَت العربُ الزكاة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتلَهم الصِّديقُ على منعها.
والصلاة أيضًا برهانٌ على صحة الإسلام، وخرَّج الإمام أحمد والترمذي من حديث كعب بن عُجرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلاة برهان))، وقد ذكَرنا نحو ذلك في شرح حديث: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة))
أقول: هذه الآية جمعَت الأنوار كلَّها، ولله المثل الأعلى، ولرسوله المقام الشريف؛ فالآية ذكرَت لفظ الجلالة ونعتَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالبرهان، والقرآنَ بالنور.
فإذا أردتَ أن تُبرهن على صدق الألوهية فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه النور وهو القرآن، ويَستمد نوره من الله. والله أعلم بالصواب.
وما من نبي إلا وأعطاه الله آية وبرهانًا؛ ليتمَّ به الحجة على أمته، وبُرهانُهم غيرُ أنفسهم منفصلٌ عنهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جعَله الله برهانًا، والبرهان لم ينفصل عنه، فهو برهانٌ بالكلية:
فبرهانُ عينه قولُه صلى الله عليه وسلم: عن أنس بن مالكٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيموا الصفوف؛ فإني أراكم خلفَ ظهري))، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((استَووا، استووا؛ فواللهِ إني لأراكم من خلفي كما أراكم مِن بين يديَّ)
وبرهان بصَرِه صلى الله عليه وسلم قولُ الله فيه: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17].
وبرهان أنفه صلى الله عليه وسلم: قولُ سلَمةَ بن نُفيلٍ السَّكونيِّ: دنوتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كادت رُكبتاي تمسَّان فخده، فقلت: يا رسول الله، تُركَت الخيل، وأُلقي السلاح، وزعَم أقوامٌ أن لا قتال! فقال: ((كذَبوا؛ الآن جاء القتال، لا تَزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ على الحق، ظاهرةٌ على الناس، يُزيغ الله قلوبَ قومٍ قاتَلوهم لينالوا منهم))، وقال وهو مُولٍّ ظهرَه إلى اليمن: ((إني أجد نفَسَ الرَّحمن من هاهنا...))
وبرهان لسانه: قولُ الله فيه: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
وبرهان بُصاقه صلى الله عليه وسلم: عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه أنَّه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: ((لأعطينَّ الرايةَ رجلًا يفتح الله على يديه))، فقاموا يَرجون لذلك أيُّهم يُعطى، فغدَوا وكلهم يرجو أن يُعطى، فقال: ((أين عليٌّ؟)) فقيل: يَشتكي عينيه، فأمَر، فدُعي له، فبصَق في عينيه، فبرَأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيءٌ، فقال: نُقاتلهم حتى يكونوا مثلَنا؟ فقال: ((على رِسْلك حتى تَنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام وأخبِرهم بما يجب عليهم؛ فوالله لأَن يُهدَى بك رجلٌ واحد خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم))
وعن سعيدِ بن مِيناءَ، قال: سمعتُ جابر بن عبدالله يقول: "لما حُفر الخندقُ رأيتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم خمَصًا، فانكفأتُ إلى امرأتي فقلتُ لها: هل عندكِ شيءٌ؛ فإني رأيتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم خمَصًا شديدًا؟ فأخرجَت لي جرابًا فيه صاعٌ من شعيرٍ، ولنا بهيمةٌ داجنٌ"، قال: "فذبَحتُها وطحَنتُ، ففرغتُ إلى فَراغي فقَطعتُها في بُرمتِها ثم ولَّيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه"
قال: "فجئتُه فسارَرتُه، فقلت: يا رسول الله؛ إنا قد ذبحنا بهيمةً لنا، وطحَنت صاعًا من شعيرٍ كان عندنا، فتعال أنت في نفَرٍ معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا أهل الخندق؛ إنَّ جابرًا قد صنَع لكم سُورًا فحيَّهلًا بكم))، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنزِلُنَّ بُرمتَكم ولا تَخبزُنَّ عجينتَكم حتى أجيء))، فجئتُ وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْدُم الناسَ، حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك! فقلتُ: قد فعلتُ الذي قلتِ لي، فأخرجَت له عجينتنا فبصَق فيها وبارك، ثم عَمد إلى بُرمتِنا فبصَق فيها وبارك، ثم قال: ((ادعي خابزةً فلتَخبِز معكِ، واقدَحي مِن بُرمتِكم ولا تُنزِلوها))، وهم ألفٌ، فأقسم بالله، لأكَلوا حتى ترَكوه وانحرفوا، وإنَّ بُرمتنا لتَغِطُّ كما هي، وإنَّ عجينتنا - أو كما قال الضحَّاك - لتُخبَز كما هو"
وبرهانُ يده صلى الله عليه وسلم: قولُ الله فيه: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 17].
وعن أبي ذرٍّ الغفاري قال: "إني لشاهدٌ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حلقة، وفي يده حصًى فسبَّحْنَ في يده، وفينا أبو بكر وعمرُ وعثمان وعليٌّ فسَمِع تسبيحَهن مَن في الحلقة، ثم دفعَهن النبيُّ إلى أبي بكر، فسبَّحن مع أبي بكر، سَمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبيِّ فسبَّحن في يده، ثم دفعهن النبيُّ إلى عمر فسبَّحن في يده وسمع تسبيحَهن مَن في الحلقة، ثم دفَعهن النبيُّ إلى عثمان بن عفان فسبَّحن في يده، ثم دفعَهن إلينا فلم يُسبِّحنَ مع أحدٍ منا"
وعن البَراء قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ، فأتينا على رَكيٍّ ذَمَّةٍ - يَعني: قليلةَ الماء، قال: - فنزَل فيها ستةٌ أنا سادسُهم ماحَةً، فأُدلِيَت إلينا دلوٌ - قال - ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شَفَة الرَّكي، فجعَلْنا فيها نصفها أو قِرابَ ثُلثَيها، فرُفعَت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال البراء: "فكِدتُ بإنائي هل أجد شيئًا أجعلُه في حَلقي؟ فما وجَدتُ، فرُفعَتِ الدلوُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمس يدَه فيها، فقال ما شاء اللهُ أن يَقول، فعِيدَت إلينا الدلوُ بما فيها"، قال: "فلقد رأيتُ أحدَنا أُخرِج بثوبٍ خشيةَ الغرَق!" قال: "ثم ساحَت؛ يَعني: جرَت نهرًا"
وبرهانُ أصابعه صلى الله عليه وسلم: عن أنسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "دعا بإناءٍ من ماء، فأُتي بقَدَحٍ رَحْراح، فيه شيءٌ من ماء، فوضع أصابعه فيه"، قال أنسٌ: "فجعلتُ أنظر إلى الماء يَنبع من بين أصابعه"، قال أنسٌ: "فحَزَرتُ مَن توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين.
وبرهان صدره: عن مُطرِّفٍ، عن أبيه، قال: "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولِصَدرِه أزيزٌ كأزيزِ المِرجَل"
وفي روايةٍ: "... وفي صدره أزيزٌ كأزيز الرَّحى مِن البكاء؛ صلى الله عليه وسلم"
وبرهان قلبه صلى الله عليه وسلم: قولُه تعالى: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11].
وعن عائشة: قالت: يا رسول الله، أتَنام قبل أن تُوتِر؟ فقال: ((يا عائشةُ، إنَّ عيني تنامان ولا ينام قلبي)).
وبرهان خُلقه صلى الله عليه وسلم: قولُه تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
وبرهانُه كلِّه: قولُ الله تعالى فيه: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
قال النَّيسابوري: "ومنه: برهان لسانه: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 3]، وبرهان بُصاقه: بصق في العجين وفي البُرمة، فأكَلوا من ذلك وهم ألفٌ حتى ترَكوه والبرمةُ تفور كما هي، والعجين يُخبَز، وبرهان تَفْله: تفل في عين عليٍّ كرم الله وجهه وهي تَرْمد، فبرَأ بإذن الله، وذلك يومَ خيبر، وبرهانُ يده: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ [الأنفال: 17]، وسبَّح الحصى في يده، وبرهانُ إصبعه: أشار بها إلى القمر فانشقَّ فلقتين، وقد جَرى الماء من بين أصابعه حتى شرب ورفع منه خلقٌ كثير، وبرهان صدره: كان يصلِّي ولصدره أزيزٌ كأزيز المرجل؛ ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]، وبرهان قلبه: ((تنام عيناي، ولا ينام قلبي))، وقولُه تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]، وبرهانُ كلِّه: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1]، اللهم، ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان، والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان".
وصلى الله وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شايان
06-19-2020, 01:34 AM
الف شكر لكِ على الروعة وجمال الانتقاء
سلمت يداك على طرحك الاكثر من رائع
و الله يعطيك الف عافيه...
وفي انتظاااار جديدك...
.*. دمتِ بسعاده لاتغادر روحك.*.

منصور
06-19-2020, 05:53 AM
جزاك الله خير
وبارك الله فيك
وجعلها في موازين حسناتك
وأثابك الله الجنه أن شاء الله
على ما قدمت

نهيان
06-19-2020, 09:23 PM
جزاك الله عنا بخير الجزاء
والدرجة الرفيعه من الجنه
بارك الله فيك ونفع بك
وجعله في موازين حسناتك
اضعاف مضاعفه لاتعد ولاتحصى

انثى برائحة الورد
06-20-2020, 03:42 PM
أمام حضور قلمكم
أسكب الشكر لك بـود

عاشقة الكروان
06-22-2020, 01:40 AM
http://s4.picofile.com/file/8169246434/28057710.gif

انثى برائحة الورد
06-24-2020, 08:22 PM
لكم في القلب والمكان
عرش يشبهكم ابيض
تحيه من القلب

عطر الزنبق
06-26-2020, 09:16 PM
جزاك المولى خير الجزاء ونفع بك
وألبسك لباس التقوى والغفران
وجعلك ممن يظلهم الله في يوم لا ظل إلا ظله
وعمر الله قلبك بالإيمان
على طرحك المحمل بنفحات إيمانية
تحيتي لك

انثى برائحة الورد
06-27-2020, 10:05 PM
كلماتكم شهادة اعتز بها
شكرا لكم الف شكر لمروركم