مشاهدة النسخة كاملة : صحابيات : رملة بنت أبي سفيان


انثى برائحة الورد
06-12-2021, 03:48 PM
حديثنا اليوم سيكون عن صحابية من صحابيات الرسول؛ تنتمي إلى عائلة كان لها قبل الإسلام دور كبير في إيذاء المسلمين وشن الحروب الضروس عليهم وعلى دينهم وعلى نبيهم، وكان لها بعد الإسلام دور كبير يذكره التاريخ ولا يستطيع أحد تجاهله أو إهماله، -عجب هذا التاريخ من أعجب وساء من ساء- آمنت صحابيتنا الجليلة بالله تعالى وبرسوله العظيم لم تبالي في سبيل ذلك بما ستلاقيه من استنكار عائلتها المشركة ولم تأبه لأذى قومها الذين كانوا يصبون جام غضبهم على رأس كل من يؤمن بالإسلام ورسوله. إنه الإيمان؛ عندما يتذوق القلب حلاوته يستهين بكل شيء في سبيله، عندما حث النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على الهجرة إلى الحبشة فرارًا بدينهم وبإيمانهم، هاجرت هذه الصحابية الكريمة مع زوجها وتركت ديارها وأهلها في سبيل الله، هل عرفتم من هي هذه الصحابية؟ أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب؛ أبوها أبو سفيان الذي كان رأس الشرك في مكة وعدو الإسلام والمسلمين، نبدأ قصتنا مع أم حبيبة من رؤيا مزعجة رأتها ذات ليلة في الحبشة فاستيقظت منومها مذعورة واستعاذت بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثم قامت تصلي في جوف الليل تلجأ إلى ربها ضارعة أن يجيرها من شر تلك الرؤية، كانت ترجو من كل قلبها أن يكون ما رأته أضغاث أحلام لا أكثر، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أصبح الصباح فجلست رملة مع زوجها "عبيد الله بن جحش" وهو ابن عم نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخو زوجته زينب بنت جحش وحدثته عن حلمها قائلة: "يا أبا حبيبة لقد رأيتك في الحلم بأقبح صورة وقمت منزعجة منقبضة القلب، فقل لي أرجوك أن تصدقني القول أن كان في حياتك شيء مريب"، ضحك عبيد الله في البداية ضحكة صفراوية باهتة وراوغ في الكلام ثم صرح تصريحًا أذهل أم حبيبة، تركها حيرى لا تدري ما تفعل ودموعها تتساقط على وجنتيها بحرقة وألم ربما كانت تتصور كل شيء أن يتزوج زوجها عليها أن يخونها أن يطلقها لكن لم تصدق أن يرتد عن الإسلام ويتنصر، لم يستطع عقلها أن يستوعب هذا، كيف يترك الإسلام بعد أن ذاق حلاوته؟! وكيف يكفر به بعد أن خُبر سمو تعاليمه، أسئلة كثيرة كانت تنهال على عقلها المصدوم، لم تكن تدري وهي في بلاد الغربة ماذا تفعل؟ كيف تتصرف؟ كل ما كانت تملكه هو أن تحاول أن تقنع زوجها عله يعود إلى الإسلام. صور كثيرة متشابكة كانت تتراءى لها، صورة زوجها "عبيد الله" وهو يؤمن بدين الإسلام ويشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمد رسول الله كانت رملة يومها ما تزال مشركة، لن تنسى رملة أبدًا ذلك اليوم الذي شرح لها فيه زوجها عن الإسلام ومبادئ الإسلام السمحة وتعاليمه الراقية فتركت دين آبائها وأجدادها وتابعت زوجها على الإسلام بعد أن اقتنعت بما فيه حتى الصميم. لا تنسى رملة أيضًا الإيذاءات التي لحقت بها وبزوجها بعد إسلامهما سواء من قريش أو من أبيها زعيم قريش أبي سفيان بن حرب، لاحت لها صورة اليوم الذي قررت فيه هي وزوجها الفرار بدينهما إلى الحبشة منذ أكثر من 13 سنة يومها كانت حاملًا بابنتها "حبيبة" تذكرت أيام الغربة التي عاشتها في الحبشة، تبقى الغربة كربة تبقى أيامها مريرة على نفس الإسلام ولا يستطيع أن يهضمها، بل أن أكثر ما كان يحزن أم حبيبة أن يسلم النجاشي ويؤمن بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، طبعًا على خفية من قومه وبطاركة مملكته الذين رفضوا أن ينصاعوا للحق ويقبلوا دين الإسلام ثم بعد هذا كله يأتي زوجها اليوم ليرتد عن دينه، أمور كثيرة كانت تؤلم أم حبيبة وتقلقها. أولها: أنها تحب زوجها حبًا شديدًا، فكيف تتخلى عنه وتفارقه بعد سنوات من العشرة الطويلة المليئة بالمودة والمحبة والسكينة؟! ثانيها: ابنتهما حبيبة ذات الثلاثة عشر ربيعًا، تلك الطفلة التي ولدتها في الغربة بعيدًا عن عائلتها وعائلة زوجها، فأصبح أبوها وأمها هما كل شيء في حياتها فكيف تخبرها بما فعله أبوها؟! وكيف لها أن تبعدها عنه. ثالثها: إلى من ستلتجئ اليوم، أتعود إلى مكة؟ إلى أبيها المشرك أبو سفيان ليفتنها عن دينها؟ أم تبقى وابنتها في الغربة دون سند ومعين وكفيل، رنت في أذنيها كلمات زوجها قبل أن يخرج من البيت، ما رأيك يا أم حبيبة أن تتركي الإسلام وتتنصري فنحافظ على حبنا وزواجنا ولا نفترق أبدًا، كان الأمر بالنسبة إليها محسومًا فهي لن تترك دينًا اقتنعت به وأحبه قلبها وعقلها وجوارحها، سيتركها زوجها ويهدم عش الزوجية، ستعيش ابنتها كاليتيمة وأبوها على قيد الحياة، هذا لا يهم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إيمان أم حبيبة جعلها تقول لزوجها لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إني اخترت الله ورسوله، خرج عبيد الله من المنزل دون رجعة وبقيت أم حبيبة وابنتها وحيدتين تتجرعان مرارة الفراق وألم الغربة وحرقتها. رأت ذات ليلة رؤية جميلة لكنها لم تجد أمامها من تروي له هذه الرؤية، رأت كأن صوتًا لا تعرف مصدره يناديها فيقول لها: "يا أم المؤمنين، يا أم المؤمنين" لم تقف أم حبيبة عند هذه الرؤية وقفة طويلة فلقد كانت غارقة في أشجانها وأحزانها، كان في وجود عدد من صحابة وصحابيات الرسول ورعايتهم لأم حبيبة وابنتها شيء من الأنس والسلوى ولكن بصراحة لا أحد من الأهل أو الأخوة أو المعارف و الأصدقاء لا أحد يستطيع أن يملأ فراغ الزوج الحبيب والأب الغائب، يحلو لنا هنا أن نتأمل قليلًا في موقف هذه السيدة المؤمنة الصامدة أم حبيبة. لقد تركت مالها وأهلها وزوجها في سبيل الله ورسوله، واستعدت لمواجهة الحياة بكل ما فيها من متاعب ومنغصات، قد يقول قائل: صعب أن يواجه الإنسان الحياة بلا معيل ولا مؤنس ولا سند، ولكن من قال هذا؟ من قال أن أم حبيبة كانت بلا معيل ولا مؤنس؟ كانت ترى أم حبيبة أن معها خير معيل وخير أنيس وخير سند، معها ربها رب الناس أجمعين وكفى به حافظًا ومعينًا، يا له من إيمان ويا له من ثبات، ثمة فرق كبير بين ما رأيناه من مواقف أم حبيبة وبين ما نراه اليوم من مواقف، بعض الزوجات نرى منهن من تتنازل عن كثير من أمور دينها نزولًا عند رغبة زوجها!!، منهن من تخلع الحجاب لأن زوجها يكره الحجاب!!، منهن من تخالط الرجال وتدردش معهم ضاحكة مازحة لأن زوجها يعتبر ذلك تقدمًا ومدنية!!، منهن من تذهب إلى حفلات الكوكتيل لأن زوجها يحب ذلك!!، ويبدأ التنازل عن العبادات والطاعات، ثم يبدأ الانغماس أيضًا في سلك المعاصي والآثام، لا ترى إحداهن حرجًا في ذلك، ولا تقول إحداهن لزوجها: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لا تقول له: أنت غالٍ جدًا ولكن ديني وطاعة ربي أغلى وأعلى، بل نجد من تبرر تقصيرها وانحرافها عن الصراط المستقيم بقولها: الضرورات تبيح المحظورات. بعد انتهاء عدة السيدة رملة في فترة وجيزة زارتها جارية تدعى "أبرهة" من جواري قصر النجاشي ملك الحبشة وعرضت عليها الزواج، لم تدهش أم حبيبة لفكرة الزواج بمقدار ما دهشت من الخاطب -لنقل العريس- فلقد قالت لها "أبرهة" سيدي النجاشي يقرؤك السلام ويقول لك: أن نبي الإسلام قد كتب إليه ليزوجك منه فوكلي من ترغبين فيه ليزوجك، نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم يخطبها يا لروعة هذا الخبر! لم تسعها الدنيا من الفرحة في لحظة واحدة تذكرت الرؤيا المزعجة التي رأت فيها زوجها بأقبح صورة، وتذكرت الرؤيا الثانية ذات الصوت الذي يناديها "يا أم المؤمنين، يا أم المؤمنين". الآن فهمت أم حبيبة لماذا كان ذلك الصوت يناديها يا "أم المؤمنين" نعم؛ ستصبح الآن أمًا للمؤمنين فزوجات النبي كلهن أمهات للمؤمنين، هذا ما قاله الله عز وجل {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، لم تجد أم حبيبة أمامها ما تكرم به هذه الجارية إلا سوارين في يدها نزعتهما وأهدتهما لها حلاوة البشرى، ثم أرسلت على "خالد بن سعيد بن العاص" كبير مهاجري قومها من بني أمية ووكلته في أمر زواجها، وفي المساء تم عقد الزواج المبارك، وكان (النجاشي وكيل الزوج محمد بن عبد الله رسول الله عليه الصلاة والسلام)، و(خالد بن العاص وكيل الزوجة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان)، وأصدق النجاشي أم حبيبة 400 دينار ذهبًا نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكثر صداق تناله زوجة من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، واجتمع المسلمون مهاجروا الحبشة في قصر النجاشي ليتناولوا طعام الوليمة التي دعوا إليها على شرف ذلك الزواج المبارك. ما الذي جرى حتى خطب النجاشي رملة للنبي عليه الصلاة والسلام؟ في الحقيقة لقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي "عمر بن أمية الضمري" إلى النجاشي، وهذا النجاشي في ذلك الوقت هو غير النجاشي "أصحمة" الذي أسلم منذ 13 والذي انتقل إلى جوار ربه قبل سنوات. أرسل إذن إلى النجاشي الجديد رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام فأجاب ذلك النجاشي قائلا: "إني أعلم والله أن عيسى بشر -أي بالنبي المنتظر- ولكن أعواني بالحبشة قليل فانظرني حتى أكثر الأعوان وألين القلوب" مع تلك الرسالة التي جاء بها "عمرو" إلى "النجاشي" كان هناك طلبان آخران: أحدهما : أن يزوج النجاشي أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما: أن يرسل النجاشي إلى النبي عليه الصلاة والسلام كل من بقي في الحبشة من أصحابه المسلمين الذين لم يبلغهم بعد انتشار الإسلام واستقرار النبي وأصحابه في المدينة المنورة. سار المسلمون المهاجرون عائدين إلى نبيهم في بداية السنة السابعة للهجرة، كان عددهم قرابة 16 رجلًا مع نساءهم وأطفالهم وسارت أم حبيبة مع الركب وهي تحمل في جعبتها ذكرى سنوات طويلة قضتها في الحبشة فيها المر والقبيح من الذكريات وفيها الحلو والجميل منها كما حملت معها أيضا صداقها 400 دينار ذهبًا والهدايا التي أهدتها إياها نساء النجاشي من الطيب والعنبر، كانت الفرحة تغمر قلبها واختلطت مشاعر فرحها بزواجها من النبي عليه الصلاة والسلام بمشاعر فرحتها بالعودة إلى ديار الإسلام، ولكن يبقى السؤال؟ كيف علم النبي صلى الله عليه وسلم بطلاق أم حبيبة من زوجها وببقائها غريبة وحيدة رغم بعد المسافة بين الحبشة وبين المدينة؟! وفي ظل غياب المعلومات وصعوبة الاتصال، يبقى جواب هذا السؤال مبهمًا إذ لا تتطرق إليه كتب السيرة والتراجم وعلينا أن نسلم أن الله تعالى الذي يعلم السر وما أخفى لا يعجزه أن يبلغ نبيه بما جرى في الحبشة لأم حبيبة الصابرة المستسلمة لأمر الله تعالى. لا شك أن أم حبيبة لم يخطر ببالها من قبل أن تكون زوجة للنبي عليه الصلاة و السلام لعدة أمور: منها : أنها كبيرة في السن قد بلغت 37 عامًا. ومنها : أنها لا تملك جمال السيدة خديجة ولا حكمتها ولا شخصيتها. ومنها : وهو المهم أن أباها هو العدو اللدود للرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا يفتأ يؤلب قريشًا ضده إلى تلك الساعة حسب ما تعلم أم حبيبة، ولكن طالما أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها فلابد أن هناك حكمة من وراء ذلك، هكذا كانت السيدة رملة تفكرفيه وهي عائدة من الحبشة، كانت تدرك في قرارة نفسها أنه لم يتزوجها بسبب إعجابه بها بل ربما لأنه أراد أن يجبر خاطرها المكسور المطعون في الصميم. طبعًا هذا خاطرها كسر بسبب تنصر زوجها وفراقها له. أما الحكمة الثانية من هذا الزواج فقد أدركته بعد سنتين من زواجها، فقد أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يتألف قلب أبيها الذي سره أن يتزوج "محمد" ابنته فقال عنه لما بلغه أمر هذا الزواج، هو الفحل الذي لا يجدع أنفه، أقول بعد سنتين أدركت أم حبيبة هذه الحكمة، عندما رأت أباها أبا سفيان يعلن إسلامه بعد أن اجتث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من عداوته وحقده بهذا الزواج. وصل مهاجروا الحبشة إلى المدينة المنورة وكان بصحبتهم وفد من نصارى نجران، كان النبي عليه الصلاة والسلام راجعًا من غزوة خيبر عندما علم برجوع أصحابه المهاجرين فاستقبلهم بفرح وسرور وأنزل وفد النصارى في مكان ملحق بالمسجد، أعد لاستقبال الوفود واحتفى بهم وقام يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: «إنهم كانوا لأصحابي مكرمين فأحب أن أكرمهم». من الهام جدًا أن نتوقف قليلًا عند هذه الحادثة وعند هذه المقولة «إنهم كانوا لأصحابي مكرمين فأحب أن أكرمهم» لقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه درسًا عمليًا في كيفية التعامل مع أهل الكتاب المسيحيين أبناء أخيه عيسى عليه السلام الذي حدثهم عنه فقال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم والأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وشرائعهم شتى» (صحيح البخاري [3443]) -والإخوة لعلات هم الإخوة الذين يجمعهم أب واحد بينما تعدد أمهاتهم- نعم أراد أن يعلمهم بالقدوة لا بالمقال كيف يكون تعامل المسلمين مع غير المسلمين من أهل الكتاب، تعامل يفيض بالود و الرحمة والتسامح والمحبة، تلك الطريقة السمحة التي سطرها القرآن الكريم بقوله {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] إضافة إلا أنه أراد أن يرد على النجاشي الذي أكرم المسلمين، الإحسان بالإحسان. نعود إلى السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان لنراها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم زوجة مكرمة تجد من زوجها الرسول العطف والرعاية والمحبة، ونرى ابتنها حبيبة ربيبة النبي عليه الصلاة والسلام وتلاقي في ظله الحنان والمحبة اللذين افتقدتهما حين ارتد زوجها عن الإسلام، احتفلت المدينة كل المدينة بزواج "بنت أبي سفيان" بالنبي عليه الصلاة والسلام وبدخولها بيت النبي عليه الصلاة والسلام زوجة وأمًا للمؤمنين وأولهم ابن خالها "عثمان بن عفان" وليمة نحر فيها الذبائح وأطعم الناس اللحم، رغم الفرح العام الغامر الذي لف حياة السيدة رملة تلك الفترة من عمرها والذي محا ما ألمّ بها من حزن وألم وضياع إثر ارتداد زوجها السابق عن دينه وطلاقه لها. أقول رغم ذلك الفرح الكبير كان هناك دائمًا ما يؤرقها ويعكر صفوها، أن والدها أبو سفيان والدها ما زال مشركًا بالله كافرًا بالإسلام، مازال يحمل ضد زوجها حقدًا وضغينة وفي كل يوم هناك احتمال لحرب قد تقضي على زوجها أو على أبيها، هذا أمر فظيع يجعل أم حبيبة تعاني شرخًا مؤلمًا في عواطفها ومشاعرها، فهي تحب الإسلام بكل جوارحها وتحب نبي الإسلام زوجها محمد صلى الله عليه وسلم وتتمنى لو تفديه بنفسها وروحها، ولكنها أيضًا تحب أباها حبًا جمًا وتحب أمها أيضًا ولا تستطيع أن تتنكر لعواطف الأبوة والأمومة التي أحاط بها عندما كانت صغيرة، كانت تدعوا لهما دائمًا في صلاتها: "اللهم أهد والديّ إلى دين الإسلام إنك على كل شيء قدير يا الله". ها هو أبو سفيان يطرق باب ابنته "أم حبيبة" بدون سابق موعد أو إعلام، ما الذي حصل؟! لماذا أتى أبو سفيان لزيارة ابتنه؟! هل اشتاق إليها بعد عشرين سنة في سنة ثمان للهجرة أي بعد زواج أم حبيبة من النبي عليه الصلاة والسلام بعام واحد. غدرت قريش بقبيلة خزاعة التي دخلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية، كان هذا الغدر يتناقض مع بنود الصلح، نص الصلح باختصار على: (وقف القتال بين المسلمين وقريش لمدة 10 سنوات) على من أراد أن يدخل في عهد قريش من العرب دخله وحرم على المسلمين قتاله، ومن دخل في عهد المسلمين من العرب دخل وحرم على قريش قتاله، لذلك كان غدر قريش لخزاعة نقضًا لبنود الصلح، وأدركت قريش ما يمكن أن يجره غدرها من ويلات، فمحمد الذي كانت تحسبه ضعيفًا صار هو ومن معه من المسلمين قوة يحسب حسابها، لذلك ارتأت قريش أن ترسل إلى النبي عليه الصلاة والسلام من يجدد الهدنة وعهد الصلح ويمدده لعهد أبعد من 10 سنوات، لم تجد قريش في وجهها غير أبي سفيان لهذه المهمة، كان أبو سفيان يعرف أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم سيكون رفض طلب قريش، إذ لم يكن لمحمد بعقله وحنكته وذكائه أن يجرب المجرب ويمنح الغادر فرصة أخرى لكنه لم يجرؤ بمجابهة قريش بمخاوفه هذه وكان دائمًا رأس الحربة في عداوة محمد وعليه الآن أن يكون رجل المواقف الصعبة، تراءت له ابنته أم حبيبة واشتعلت فيه مشاعر الأبوة بعد أن قمعها سنوات طويلة، خطر في باله خاطر لماذا لا يذهب إليها قبل أن يدخل على محمد يروي عاطفته الأبوية من جهة ويرجوها أن تتوسط له ولقريش عند زوجها محمد من جهة أخرى. لا شك أن لها عند زوجها حظوة وكلمة مسموعة، أعجب أبو سفيان بهذا الخاطر وغز السير وطرق باب ابنته رملة، لم تفاجأ رملة بهذه الزيارة فقد كانت تتوقعها منذ أن سمعت بفعلة قريش، ولسنا نشك في ترحيبها بأبيها وحسن استقبالها له رغم شركه وكفره، فالإسلام يأمرها ببر الوالدين ولو كانا مشركين. حاول أبو سفيان أن يخفي عن ابنته سبب زيارته، إلا أن أم حبيبة أدركت بذكائها ما يريد، قطعت عليه الطريق وأفهمته أنها تحب الله ورسوله وأنها لا تساوم أحدًا عليهما ولو كان ذلك في سبيل أبيها وأمها والناس أجمعين. جرت خلال زيارة أبي سفيان لابنته حادثة بسيطة كان لها مغزى كبير، فلقد توجه أبو سفيان ليجلس على فراش كان أمامه، ولكن أم حبيبة وثبت إلى الفراش وطوته وهي تقول:"عذرًا يا أبتاه" سألها مستغربا أطويته رغبة بي عن الفراش أم رغبة بالفراش عني؟! استجمعت قوتها وإيمانها وقالت بلباقة وأدب: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك فلم أحب أن تجلس عليه. بهذا التصرف أفسدت أم حبيبة على أبيها ما كان يخطط له وخرج متأسفًا وهو يقول: لقد أصابك يا بنية بعدي شر، خرج أبو سفيان مغضبًا، وتوجهت أم حبيبة إلى الله بعينين باكيتين وقلب مكلوم تدعوه وترجوه أن يهدي قلب أبيها على الإسلام، طبعًا لم تجد مساعي "أبي سفيان" لدى النبي عليه الصلاة والسلام في تشديد الهدنة وتمديد المدة ورجع إلى مكة بخفي حنين، وأعد النبي صلى الله عليه وسلم عدته لفتح مكة وخرج معه عشرة آلاف مقاتل وها هو ذا يتوجه إلى الله تعالى قائلًا: «اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة» كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يفتح مكة دون أن يهرق دم أحد من الكفار أو من المسلمين، كان هدفه من فتح مكة أمرين: أن يعود المسلمون الذين خرجوا منذ 8 سنوات مقهورين مذلولين ليدخلوا بلادهم مرة أخرى آمنين مطمئنين. وأن ينشر دين الإسلام في بلده الحرام ليدخل فيه من يشاء {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} [البقرة:256]، لذلك أوصى جنوده أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وتم له صلى الله عليه وسلم ما أراد، دخل مكة دون أن تراق الدماء وهناك أسلم أبو سفيان ونادى منادٍ "من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن". فرحت أم حبيبة بإسلام والدها فرحًا شديدًا، لا شك أنها حفظت لزوجها رسول الله معروفًا حيًا "من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن" عاشت أم حبيبة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلام والدها مرتاحة البال بعد أن زالت عنها تلك المشاعر المضطربة والمتوزعة بين الولاء للدين والوفاء للوالدين. أحب أن أؤكد هنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعيرها بكفر والدها يومًا ما ولم يذكره أمامها بسوء أبدًا، هذا منصح عظيم يجب على كل زوج أن يفهمه أحسن الفهم وأن يقتدي به أحسن الاقتداء. أما عن علاقة السيدة "رملة" بضرائرها فلم تذكر كتب السيرة والتراجم قصصًا عن غيرتها منهن أو غيرتهن منها، كل ما وجدناه من ذلك أنه لما حضرتها الوفاة دعت عائشة فقالت لها: قد يكون بيني وبينك ما بين الضرائر، فهل تحلليني من ذلك -أي تسامحيني- فحللتها عائشة واستغفرت لها، فقالت أم حبيبة: سررتني سرك الله، وأرسلت بعد ذلك إلى "أم سلمة" فقالت لها ما قالت لعائشة، ثم فاضت روحها الطاهرة للقاء ربها في سنة 44 هجرية حسب أرجح الأقوال، بعد أن روت عن النبي صلى الله عليه وسلم قرابة 65 حديثًا، فرحمها الله وطيب ثراها ورزقنا الثبات على الإيمان والتقى كما رزقها وجمعنا بها وبنبينا في جنان خلده يوم القيامة.

انثى برائحة الورد
06-12-2021, 03:49 PM
صحابيات - صفية بنت حيي


حديثنا اليوم عن زوجة من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، جمعت بين عطفيها قرابة لثلاثة أنبياء كرام فأبوها نبي الله هارون أخو نبي الله موسى عليهما السلام، إذ ينتهي نسبها إليه وعمها إذن موسى عليه السلام وزوجها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. إنها السيدة "صفية بنت حييّ بن أخطب" اليهودية أصلًا والمسلمة معدنًا، كيف تزوج النبي صفية؟ ولماذا؟ ما الحكمة من هذا الزواج؟ وكيف آمنت صفية بالنبي عليه الصلاة والسلام؟ هل كرهت دين اليهودية وعادته عندما دخلت في دين الإسلام؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها، وكي نجيب عنها يجب علينا أن نرجع إلى الوراء إلى حين كانت صفية طفلة صغيرة في العاشرة من عمرها، عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب الطبية والتي تنورت بقدومه وسميت بالمدينة المنورة، كان أبوها حييّ بن أخطب آنذاك زعيم قبيلة بني النضير اليهودية والتي كانت تقطن ضواحي يثرب إلى جانب سكانها العرب الأوس والخزرج، حين وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء في طريق هجرته إلى المدينة المنورة ذهب حييّ بن أخطب زعيم بني النضير ووالد السيدة صفية ومعه عمها أبو ياسر إلى قباء ليرياه ويسمعا منه طبعًا مرادهما أن يتأكدا من مطابقة أوصافه للأوصاف المذكورة في التوراة عن النبي المنتظر لما غربت الشمس عاد حييّ وأخوه إلى البيت مهمومين مغمومين يمشيان الهوينة والحزن بادٍ على وجهيهما، هرعت إليهما صفية فرحة ومرحبة كعادتها وكانت أحب ولد أبيها إليه وإلى عمها لكنها استغربت اللامبالاة التي استقبلها بها، وكان عهدها بهما أن يقبلاها ويحتفيا بها ويستمعا إلى ثرثرتها الحلوة رأتهما يتنحيان جانبًا الدار ويتحدثان، فلم تستطع أن تمنع نفسها من استراق السمع لتعرف الأمر الجلل الذي جعل أباها وعمها يستقبلانها بذلك الفتور الذي لم تعهده من قبل سمعتهما يتحدثان عن محمد بن عبد الله ذاك النبي الذي قدم يثرب كان عمها أبو ياسر يسأل أباها بلهجة حنقة حادة: "أهو هو يا حييّ ما ذكرته التوراة؟" قال حيي: "نعم والله"، قال: "أمتأكد أنت من ذلك؟" قال: "نعم طبعا متأكد"، قال: "فماذا تنوي أن تفعل؟" أجاب حييّ والغيظ ينبع من كلماته الحاقدة: "عداوته والله ما حييت"، دهشت صفية رغم صغر سنها من موقف أبيها وعمها من محمد بن عبد الله فلطالما كانت تسمعهما يتحدثان عن نبي اقترب زمان مبعثه وتستشف من خلال ذلك لهفتهما إلى مجيئه واستعدادهما للإيمان به، أفعندما يظهر ذلك النبي يغضبان ويصران على معاداته! لم تستطع صفية يومها أن تفسر ذلك الموقف الغريب لم تدرك أبعاده الحقيقية، ولكنها كانت تدرك في قرارة نفسها أن هناك أمر ما جعلهما ينقلبان من محبين إلى عدوين، عندما كبرت صفية أدركت السبب وراء هذه الكراهية والعداوة إنها العصبية والعنجهية واختلاف المصالح، كم هو أمر مقيت أن ينقاد المرء لأهوائه لأنه يقلب عند ذلك الحق إلى باطل، لقد كان اليهود ينتظرون مجئ النبي بفارغ الصبر وكانوا يتباهون على سكان عرب المدينة الأوس والخزرج قائلين: قد آن أوان مبعث النبي المنتظر وسنقاتلكم تحت إمرته ونخرجكم من دياركم مقهورين مذلولين، ولكنهم فوجئوا لما بعث النبي بأنه ليس من بني إسرائيل كما كانوا يظنون، فلقد أرسل الله خاتم أنبيائه من العرب ولذلك لم يؤمن به اليهود رغم قناعتهم بأن علامات النبوة موجودة تمامًا كما ذكرتها توراتهم. أدركت صفية فيما بعد كل هذا، لكن كل هذا لم يستطع أن يوقد في قلبها عداوة ذلك النبي، بل على العكس كانت تشعر بشيء من التعاطف نحو ذلك الدين الجديد والرسول المبعوث كأن شيئا ما كان يجذبها تجاهه لما استقر النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة وقع مع اليهود ميثاقًا تلخصه الجملة الآتية (لليهود ما لنا وعليهم ما علينا وهم أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)، كانت صفية فرحة بهذا الميثاق الذي يفيض بالعدالة والرحمة السلام بين المسلمين وبين قومها اليهود وكانت تأمل أن ينتزع هذا الميثاق عداوة قومها وحقدهم ولكن أمالها خابت وذهبت هباء الريح فمسيرة اليهود مع النبي عليه الصلاة والسلام ظلت مسيرة حاقدة منذ أول يوم وطئت فيه قدماه أرض يثرب. كانت تسكن المدينة المنورة آنذآك ثلاث قبائل يهودية (بنو قينقاع، بنو قريظة، وبنو النضير)، بنو النضير كما ذكرناهم قوم السيدة صفية رضي الله عنها، كان بنو قينقاع أول من غدر من اليهود بالنبي عليه الصلاة والسلام ونقض عهده وميثاقه كان ذلك بعد سنة واحدة من قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب -أي في السنة الثانية للهجرة- فعاقب النبي عليه الصلاة والسلام بنو قينقاع بأن أجلاهم عن المدينة بسبب غدرهم وظن المسلمون أن هذه العقوبة ستكون درسًا لبني النضير وبني قريظة، ولكن ظنهم خاب فالغدر طبع عند بعض الناس وخصوصًا اليهود فقد حاول بنو النضير قتل النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى دورهم زائرًا ولكن جهودهم والحمد لله باءت بالفشل فقد حمى الله رسوله من أن يناله أذى. اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قراره بإجلاء بني النضير عن المدينة المنورة إلى خيبر؛ خيبر هذه منطقة تبعد عن المدينة قرابة 150 كيلو متر شمالًا، فخرجوا وهم يحملون أموالهم وأمتعتهم ويحملون أيضًا حقدهم الأسود كانت صفية آنذاك متزوجة من "سلام بن مشكم" اليهودي وكانت فيمن أجلي إلى خيبر مع والدها حييّ وزوجها سلام، كان ذلك في السنة الرابعة للهجرة. يمكننا أن نتصور الحزن الشديد الذي ألم بالسيدة صفية وهي ترى مآل إليه حال قومها، ونتصور استغرابها أيضًا من العداء الشديد الذي يحمله قومها للنبي عليه الصلاة والسلام رغم تأكدهم من أنه هو النبي المنتظر. في السنة الخامسة من الهجرة -أي بعد سنة واحدة من إجلاء بني النضير عن المدينة- كانت غزوة الأحزاب وكان "حييّ بن أخطب" الذين ألبوا العرب على محاربة النبي عليه الصلاة والسلام، اتخذ "حييّ" من ديار بني قريظة مركزًا لتحركاته فبنو قريظة كانوا ما يزالون من سكان المدينة المنورة لم تؤثر خيانة بني النضير وبنو قينقاع على وضعهم، لم يخرجهم النبي عليه الصلاة والسلام كما أخرج بقية اليهود من مدينته؛ لأن الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] ويقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولكن الغدر والجحود وعض اليد التي تمتد بالإحسان طبعًا عند بعض الناس هذا الطبع تحرك عند بني قريظة فتعاونوا مع "حييّ بن أخطب" وتجاوبوا مع حقده وعداوته للإسلام ونبي الإسلام وكان غدرهم هذا مؤلمًا ومؤذيًا، فالأحزاب تهاجم وتحاصر المسلمين من الخارج وبنو قريظة يخونون ويتآمرون من الداخل ولا نعرف أن عدو الداخل أشد ضررًا وخطرًا وقدرة على الأذى، انتهت غزوة الأحزاب وصرف الله تعالى كيد المشركين عن المسلمين وحان وقت الحساب والعقاب. توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حصون بني قريظة وحاصرهم حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فاستسلموا دون قتال ماذا سيفعل النبي عليه الصلاة والسلام بهؤلاء الغادرين؟! سألهم؛ أتقبلون حكم سعد بن معاذ؟ قالوا: نعم سعد هذا كان حليفهم وصاحبهم قبل الإسلام فحكم عليهم سعد بما يرضي الله وبما يرضي رسوله لم يكن الحكم هذه المرة كما كان مع بني قينقاع وبني النضير لم يكتفي بإجلائهم عن المدينة، كان لابد من تلقين اليهود درسًا يحذرهم من التمادي في إيذاء الرسول والمسلمين وكان لابد للغادر أن يدفع ثمن غدره خاصة وأن غدره جاء في لحظات عسكرية خطيرة كان من الممكن أن تؤدي إلى نتائج خطيرة، حكم سعد بقتل المقاتلين الذين يحملون السلاح وبسبي النساء والذراري وفقًا لمنطق الحرب السائد آنذاك في العالم هكذا كأنه حكم سعد فيهم ونفذ فورا هذا الحكم فيهم فسيقت الرجال المقاتلون إلى خنادق المدينة وقتلوا هناك كان فيمن قتل مع بني قريظة والد صفية "حييّ ين أخطب" زعيم بني النضير. لاشك أن حزن صفية على مقتل والدها كان شديدًا، كان عمرها آنذاك حوالي 17 عامًا، زاد من حزنها وآلامها طلاقها من "سلام بن مشكم" الذي أمضت معه أعوامًا ولم تنجب منه أولادًا بعد فترة من طلاقها زفت إلى رجل اسمه "كنانة بن الربيع" بعد أيام من الزفاف استيقظت مبتسمة مسرورة، سألها كنانة ما الذي أبهجك يا صفية؟! أخبرته صفية برؤية رأتها فزرعت في نفسها شعورًا بالطمأنينة والأمن، رأت كأن قمر السماء قد سقط في حجرها كانت صفية تقص رؤياها تلك مسترسلة وفرحة، ولكن لطمة على وجها أطارت فرحها واستبشارها، صرخ بها زوجها "كنانة" بحدة وعيناه تقدحان بالشر والشرر، أتمنين ملك الحجاز محمدًا أن يصير زوجك يا صفية!؟ دهشت صفية من هذا الاستنتاج العجيب، نسيت ألم اللطمة وغضب الزوج وسرحت بخيالها نحو نبي الإسلام الذي كانت تتساقط أخباره وأخبار دينه ودعوته خفية عن أبيها وزجها، أيمكن أن يتحقق هذا الحلم كما فسره زوجها؟! يبدو هذا مستحيلًا وغير منطقي وغير معقول لا يوجد سبب واحد للتفكير بمثل هذا الموضوع ولكن هذا المستحيل غير المنطقي تحقق بعد بضعة أيام فقط. كان النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة يعد العدة لاستئصال قوة اليهود المتمركزة في خيبر؛ تلك القوة التي ألبت يهود بني قريظة في السابق والتي تشكل في الحاضر والمستقبل خطرًا على المسلمين فيما لو اتحدت مع الروم أو مع الفرس لقتال المسلمين، لابد من الخلاص من كل جيوب الغدر والخيانة صار النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعه 1600 مقاتل، فحاصر حصونها القوية وألقى الله تعالى في قلوب اليهود الرعب سقطت حصون خيبر واحدة تلو الأخرى على يد المسلمين، لم يعسر عليهم إلا حصنين "الوطيح والسلالم" فُتحا سلمًا في نهاية المطاف عندما استسلم اليهود المتحصنين فيهم ،ماذا عن صفية؟ وقعت صفية بأيدي المسلمين فيما وقع من سبايا اليهود، قتل زوجها "كنانة بن الربيع" وربما تساق هي وجميع الأسرى والسبايا ليمثلوا بين يدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم. يروي ابن إسحاق أن بلالًا كان يسوق صفية ومعها امرأة أخرى من نساء السبي إلى مكان من ناحية الجيش فمر بهما على قتلى اليهود فالمرأة التي مع صفية لم تتمالك نفسها أن ترى أهلها وقومها على هذه الحال فصكت وجهها وحفت التراب على رأسها، أما صفية لم تزد على أن ترقرقت الدموع في عينيها حزنا لما آل إليه حال قومها، وصل صوت المرأة التي تعول وتبكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بلالًا وعاتبه قائلًا: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟»، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى صفية فلفت نظره ثباتها ورباطة جأشها ورقة تعبيرها عن حزنها ربما استشف ما بداخلها من إيمان وصفاء وإنكار لمواقف قومها، فأقبل عليها وقال لها حسب ما يروي ابن سعد في طبقاته قال لها: «لم يزل أبوك من أشد اليهود عداوة حتى قتله الله» فقالت صفية: يا رسول الله أليس دينكم يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} طبعا جواب ذكي محنك، زاد في إعجاب النبي بصفية وعقلها وشخصيتها، فقال لها: «يا صفية اختاري؛ فإن اخترتِ الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن أخترتي اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك»فقالت: "يا رسول الله لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني ومالي في اليهودية، ومالي فيها والد ولا أخ، وقد خيرتني بين الكفر والإسلام فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي"، عند ذلك ألقى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ردائه فكان ذلك إعلامًا بأنه قد اصطفاها لنفسه، هناك رواية أخرى أوردها الإمام مسلم في صحيحه تختلف عن روايتي ابن سعد وابن اسحاق، بعض التفصيلات لكن النتيجة هي واحدة؛ اصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم "صفية" لنفسه واعتاقها إذا أعتقها ثم تزوجها وكان صداقها إعتاقها لم يسمع أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد هذا ذكر أباها بحرف مما تكره، احترامًا لمشاعرها وعواطفها. دفع النبي صلى الله عليه وسلم بصفية إلى زوجته أم سلمة وكانت أم سلمة معهم في الجيش فباتت عندها صفية فجهزتها له أم سلمة وزفتها إليه بعد أن حاضت واستبرأت رحمها من زوجها "كنانة بن الربيع". يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرس بصفية في طريق عودته فهو وعلى بعد 9 كيلو مترات من خيبر فتعللت صفية وتمنعت فلما ابتعد الجيش عن خيبر طاوعته على ما أراد فسألها عن سبب تمنعها فقالت: "يا رسول الله خشيت عليك قرب اليهود"، هنا يحلوا لنا أن نتسائل عن موقف صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من زواجه بيهودية وعن حكمة هذا الزواج؟ الواقع أن كثير من الصحابة لم يستسيغوا هذا الزواج بادئ الأمر بل ولقد أنكرته قلوبهم إلى جانب عقولهم، طبعا لما يعلمون من غدر اليهود وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللإسلام والمسلمين، ما الذي يدلنا على أن كثير من الصحابة لم يستسيغوا هذا الزواج؟ لنا على هذا شواهد كثيرة: أول الشواهد أن أبا أيوب الأنصاري بات يحرس النبي صلى الله عليه وسلم طوال الليلة التي دخل فيها بأم المؤمنين صفية، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح سأله: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: "يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة وقد قتلت أباها وقومها وهي حديثة عهد بكفر"، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وطمأن أبا أيوب ثم دعا له وقال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني». هناك حادثة ثانية حصلت عند مشارف المدينة وهم عائدون من خيبر؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أركب صفية خلفه وهي محتجبة بحجابها كباقي أمهات المؤمنين فعثرت الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبزوجته وخر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض وخرت معه صفية، ركض أبو طلحة نحو النبي صلى الله عليه وسلم يعنيه بينما وقف الجميع ينظرون إلى أم المؤمنين صفية وهي ملقاة على الأرض حتى قام إليها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وأعانها على النهوض، عندما قدمت نساء أهل المدينة لاستقبال الجيش ورأين صفية جعل بعضهن ينظرن إليها ويشتمنها أبعد الله تلك اليهودية. أما الحادثة الثالثة: فكانت لما استقر الركب في المدينة فقد أنزل النبي صلى الله عليه وسلم بادئ الأمر أم المؤمنين صفية في منزل للصحابي "حارثة بن النعمان" ريثما يهئ لها بيتًا بجانب المسجد كبيوت زوجاته وريثما تألف أيضًا نساؤه قدوم صفية ويتأكدن من حسن إسلامها طفق نساء الأنصار يفدن إلى بيت حارثة ينظرن إلى صفية اليهودية التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، كان من ضمن الوافدات بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت عائشة إحداهن وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تدخل متنقبة متخفية، فلما خرجت سألها: «كيف رأيت يا شقيراء؟» قالت: "رأيت يهودية من اليهوديات" فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تقولي هذا يا عائشة فإنها قد أسلمت وحسن إسلامها». أقول: لقد كان لكره الصحابة رضوان الله عليهم لليهود أسبابه المعروفة التي ذكرناها ولم يكن كرههم لهؤلاء اليهود المتألبين ضد الإسلام والمعادين لرسوله والمؤمنين غريبًا، ولكن الغرابة ربما تأتي في المستقبل حين ينسى المسلمون الأسباب الحقيقية لكراهية اليهود ويظنون أن النبي وصحابته كانوا يكرهون اليهود لأنهم يهود؛ الأمر الذي قد يتسبب في كرههم وإساءتهم لنبي اليهود موسى عليه السلام، لذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلم المسلمين بطريقة عملية كيفية التعامل مع اليهود. فمن حيث المبدأ اليهود هم قوم موسى عليه السلام ونحن كمسلمين لا يمكن أن يتم إيماننا ويكمل إسلامنا إذا لم نؤمن بنبي الله موسى عليه السلام ضمن سلسلة الأنبياء جميعهم على الرغم من مطالبة القرآن لأهل الكتاب أتباع موسى وعيسى عليهما السلام أن يضموا إلى إيمانهم بأنبيائهم الإيمان بخاتم النبيين عليهم السلام، إلا أنه لا يبيح إيذائهم حتى ولو لم يؤمنوا بني الإسلام بل يوجب على المسلمين معاملتهم بالعدل والمرحمة والبر والإحسان وأن يجادلوهم بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة بشرط أن لا يعتدي هؤلاء اليهود والمسيحيون على المسلمين وأن لا يكيلوا لهم الإيذاء والعداوة في هذا يقول القرآن القرآن {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] ويقول أيضًا: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9]، كما أباح القرآن الكريم للمسلمين الزواج من المحصنات العفيفات من الكتابيات أعني بالكتابيات المسيحيات واليهوديات اللواتي لا يعادين الإسلام وأهله وفي هذا يقول القرآن: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]. وقد كان في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية تأكيد لهذه المعاني السامية فأصهاره صاروا من يهود أهل الكتاب وحسن معاملة الأصهار كما تعلمون ولذلك كانت أم المؤمنين صفية رغم إسلامها تصل أرحامها اليهود وتبرهم وتحسن إليهم وعلى مرأى من النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ورضى منه. هنالك اليوم من يجهل هذه المعاني السامية ويقف على المنبر فيقول: اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، ولهؤلاء أقول: يجب أن نميز بين اليهود المقيمين مع المسلمين في أوطانهم والذين لا يعادونهم ولا يقاتلونهم وبين اليهود الإسرائيليين الصهاينة المعتدين الذين اغتصبوا فلسطين وانتهبوا المقدسات الإسلامية، وهؤلاء اليهود الصهاينة هم أعداؤنا ويجب علينا قتالهم إلى أن نرفع الظلم عنا وعن أهلنا وحرماتنا ومقدساتنا، أما المواطنون اليهود المسالمون الذين يقطنون في بلاد المسلمين فإن على المسلمين أن يحسنوا معاملتهم ويحذروا من الإساءة إليهم لئلا يكونوا من أولئك الذين سيخاصمهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حيث يقول عليه الصلاة والسلام «ألا من ظلم معاهدا» ، والمعاهد غير المسلم من أهل الكتاب المسيحي أو اليهودي «ألا من ظلم معاهدا» والذي بيننا وبينه معاهدة أمان «ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» (سنن أبي داود[3052]). نعود إلى أم المؤمنين صفية وهي في بيت النبي عليه الصلاة والسلام لنرى هل فهم الصحابة بشكل عام وزوجات النبي عليه الصلاة والسلام بشكل خاص هذا الدرس الذي أراد عليه السلام إفهامهم إياه؟ الواقع تغيير القناعات المتجذرة ليس بالأمر السهل أبدا؛ بل يحتاج إلى إرادة ومران ومراقبة ومتابعة لذلك نرى أم المؤمنين صفية ظلت تعاني من نظرات التعيير في حياة النبي وبعد وفاته ولكن على درجات متفاوتة. لنا أن نتساءل؟! كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج هذا الظلم الواقع على صفية بسبب هذه النظرات الاتهامية والتعيرية؟ عندما نتمعن في الحادثة التالية ندرك حكمته صلى الله عليه وسلم في معالجة الأمور فقد كان صلى الله عليه وسلم يدرك عامل الزمن في اجتثاث هذه الأفكار، فكان توجيهه آنذاك بشكل مباشر من خلال مداراته لصفية وتلطفه معها وتطييبه لخاطرها ومن خلال أيضًا تلقينها لحجتها. من هذا ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زوجته صفية فوجدها تبكي فسألها فأخبرته بكلام بلغها عن ضرائرها عائشة وحفصة يعيرانها فيه بأصلها اليهودي فقال لها عليه الصلاة والسلام: «هلا قلت لهما وكيف تكونا خيرا مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى» (سنن الترمذي[3892])، وظل النبي صلى الله عليه وسلم يُقوم تلك النظرة التعيرية التي كان ينظرها الصحابة وزوجات النبي إلى صفية ظل يقومها برفق ولين إلى أن جاءت حجة الوداع. عاشت صفية في بيت النبي ثلاث سنوات زوجة كباقي زوجاته الكريمات فكان يقسم لها كما يقسم لهم ويعاملها كما يعاملهن بالرفق واللين والحب والرعاية، ولما مرض النبي عليه الصلاة والسلام مرض الموت اجتمعت حول فراشه عليه السلام جميع زوجاته فبكت صفية رضي الله عنها حبيبها وحاميها ورسولها وقالت: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فتغامزت نساء النبي عليه السلام على مقالتها فقال صلى الله عليه وسلم: «مضمضن، فقلن: من أي شيء؟ فقال: من تغامزكن بها وإنها والله لصادقة» (الإصابة[4/347]). لم تسلم أمنا صفية من أذى المبغضين لليهود حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يروى أن جارية لها أتت أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" تقول له: "يا أمير المؤمنين إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث عمر إلى أم المؤمنين صفية فأجابت أما السبت فإني لم أحببه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحمًا فأنا أصلهم"، ولما سألت أم المؤمنين صفية جاريتها عن ما حملها على ذلك أجابتها الشيطان يا أمنا -الشيطان- فما كان من أمنا صفية إلا أن قالت لها: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. عاشت صفية بعد النبي صلى الله عليه وسلم عابدة متبتلة، يروى أن بعض الصحابيات اجتمعن في دارها مرة يقرأن القرآن ويتبتلن لله تعالى فقالت رضي الله عنها: "هذا السجود فإن البكاء من خشية الله". روت أم المؤمنين "صفية" عشرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفيت حوالي سنة 50 في خلافة معاوية عن عمر يناهز الستين عامًا، فسلام لك يا أم المؤمنين يا بنت هارون وقريبة موسى وزوجة محمد عليه وعلى أنبياء الله أحسن صلاة وأتم تسليم.

انثى برائحة الورد
06-12-2021, 03:50 PM
صحابيات : أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر

هي زوجة أحبها النبي صلى الله عليه وسلم من أعماقه وكان يقول عن حبها أنه كالعروة الوثقى في قلبه، كان يردد عائشة زوجتي في الجنة، زوجة صرح النبي بحبها أمام أصحابه، حتى علم بهذا الحب كل الناس، الصغار والكبار منذ عهد النبوة وإلى أن تقوم الساعة. حديث اليوم سيكون عن زوجة من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام احتلت في قلبه مكانة لم تصل إليها زوجة أخرى، سوى أم المؤمنين خديجة الكبرى، ثم لا أخرى سواها نافستها على قلب الحبيب. هي زوجة أحبها النبي صلى الله عليه وسلم من أعماقه وكان يقول عن حبها أنه كالعروة الوثقى في قلبه، كان يردد عائشة زوجتي في الجنة، زوجة صرح النبي بحبها أمام أصحابه، حتى علم بهذا الحب كل الناس، الصغار والكبار منذ عهد النبوة وإلى أن تقوم الساعة، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخفي ذلك الحب بل كان يعلنه أمام الناس؛ لأنه كان يريد أن يعلمهم بهذا، أن أحبوا نساءكم وترنموا بهذا الحب وأفصحوا عنه، فهو أمر يرضي الله ورسوله وهو غاية المودة بين الزوجين في الدنيا والآخرة إن شاء الله. لاشك أنكم عرفتم من هي هذه الزوجة ذات الحظوة عند زوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام إنها عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، سألت عائشة زوجها النبي مرة: "يا رسول الله كيف حبك لي؟" كأنها تريد أن يعرف من حولها بأمر هذا الحب السامي العظيم فأجابها: «كعقد الحبل يا عائشة»، لم تكتف عائشة بهذا بل كانت تريد دائمًا كأي أنثى أن تسمعه يتردد على لسان الحبيب على مبدأ ما قال الشاعر: أدم ذكرى من أهوى ولو بالملام *** فإن أحاديث الحبيب مدام فكانت لا تفتأ تسأله كيف العقدة يا رسول الله فيجيبها مبتسمًا: هي على حالها يا عائشة. رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم كل المهام الرسالية والدعوية الكبيرة التي يحملها كان يروي ظمأ الزوجة العاشقة إلى سماع ما يطمأنها عن الروابط العاطفية يذكرنا هذا اليوم ببعض الأزواج الذين يفتقدون الرومانسية الزوجية، عندما تسأل الزوجة زوجها: أتحبني؟ يقول لها: نعم، طبعًا، تكرر عليه السؤال ذاته يجيب: طبعًا لقد أخبرتك أني أحبك، فإذا سألته مرة ثالثة أو رابعة أجابها بغيظ: "يوه كم مرة يجب علي أن أخبرك أني أحبك" وإذا ما حدث أن شاع بين أفراد الأسرة أو من بين المقربين من الزوج أنه يحب زوجته يسارع الزوج إلى نفي هذا الاتهام، كأن حب الزوج لزوجته عار أو عيب أو أن فيه ما يشين. النموذج الإسلامي الأعلى قدم لنا سلوكًا عظيمًا يجب أن نقتدي به، حب النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجته عائشة شاع وانتشر بين الصحابة جميعهم، ومع هذا كان عليه الصلاة والسلام يبتسم ويقول بصراحة إني قد رزقت حبها، إنها عائشة التي رآها النبي عليه الصلاة والسلام في المنام لمدة ثلاث ليال ورأى ملكًا كريمًا يسوقها إليه وهو يقول هذه امرأتك، فيجيب عليه الصلاة والسلام إن يكن هذا من عند الله يمضي كمن تهلل وجهه عليه الصلاة والسلام فرحًا وانتشى طربًا لتحقق تلك الرؤية. لما ذكرتها له الصحابية الجليلة خولة بنت حكيم لتخطبها له كان ذلك بعد مدة من وفاة الحبيبة الراحلة خديجة بنت خويلد، كابد فيها عليه الصلاة والسلام في هذه المدة ما كابد من مرارة الفراق ولهيب الشوق وشجو البعاد، تمت الخطوة المباركة على صداق قدره 500 درهم فضة، كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل بسنتين واستمرت فترة الخطوة ثلاثة سنوات أخرى بالتحديد بعد الهجرة، أي إلى أن استقر النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، فزفت إليه عائشة الشابة الفتية وكانت عروسًا حلوة خفيفة الجسم خفيفة الظل، ذات وجه مشرب بالحمرة، يحلو لبعض المستشرقين وبعض المفتونين بهم أن يتصيدوا في الماء العكر، ويتوقفوا عند نقطتين في زواج النبي بعائشة أولهما هي صغر سنها، والأخرى الفارق الكبير بينهما في السن، من خلال هاتين النقطتين يعيبون على الإسلام أنه يغمط المرأة حقوقها، وحين يبيح لوليها أن يزوجها وهي في سن صغيرة لم تنضج بعد ولم تخبر الحياة، الحق يقال إن قياسات الزواج التي تمت منذ خمسة عشر قرنًا بمقاييس اليوم هو خطأ فاحش لفهم الأمور على حقيقتها علينا أن نرجع إلى الزمان الذي تمت فيه، أي الزمن الذي تم فيه زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها لنرى كيف كان المجتمع ينظر إلى مثل هذا الزواج، يخبرنا التاريخ أن أهل جزيرة العرب كانوا يألفون الزواج المبكر، ولقد تزوج عبد المطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام تزوج من هالة ابنة عم السيدة آمنة أم النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها في نفس اليوم الذي تزوج فيه ولده الأصغر عبد الله من آمنة قرينة هالة وترب هالة، كما أن عائشة كانت قبل أن يخطبها النبي عليه الصلاة والسلام مخطوبة للجبير بن مطعم بن عدي، لم يستطع أبو بكر الصديق أن يعد خولة بنت الحكيم بالموافقة على خطبتها من النبي حتى مضى فتحلل من وعده للمطعم بن عدي. حضرت مرة إحدى الندوات النسائية وكانت إحدى السيدات تتحدث عن الزواج المبكر وأضرار هذا الزواج، فقام شاب متدين عقب المحاضرة وألقى مداخلة اتهمها أنها تناقض تعاليم الإسلام حين تهاجم الزواج المبكر، لأن الإسلام حسب رأيه يأمر بالزواج المبكر للفتيات، استشهد هذا الرجل المتدين الشاب استشهد على كلامه بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها، بالطبع ضجت القاعة الممتلئة بالنساء استنكارًا لهذا الكلام، بل ومن الناس من تجرأت على مقام النبوة الكريم، فقمت في هذه الضجة وألقيت مكالمة قلت فيها؛ حتى نفهم الزواج المبكر الذي كان يتم في ذلك الزمان علينا أن نؤكد على مسألتين: أن البنت كانت في الجزيرة العربية ذات المناخ الصحراوي تنضج بسرعة وفي وقت أكبر بكثير من الوقت الذي تنضج فيه بنات الدول الأخرى البعيدة عن خط الاستواء كدول الأوربية الباردة مثلًا، الأمر الآخر هو أن لم يرد في شأن الزواج المبكر آية كريمة أو سنة شريفة تحض عليه أو تنهى عنه، مما يجعلنا نؤكد أن سن الزواج في الإسلام متروك تقديره للناس حسب ظروفهم وعاداتهم الاجتماعية، هذه الظروف تتغير من بلد إلى آخر من زمان إلى آخر، فإذا كانت مصلحة الناس في تزويج بناتهم في سن مبكر فلهم الحق في ذلك، وإن رأوا أن مصلحتهم تقتضي تأخير الزواج لسبب أو لآخر فلهم ذلك أيضًا، والواقع أن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة وهي في سن صغيرة نسبيًا له حكمة هامة يمكن أن ندركها عندما نتمعن فيما أثبته السيدة عائشة رضي الله عنها للأمة الإسلامية من معروف، حين حفظت الكثير الكثير من الأحداث ومن الأحاديث النبوية الشريفة، لدرجة جعلت الإمام الحاكم يقول عنها حملت عن عائشة ربع الشريعة، والحقيقة أنها لو لم تكن في سن فتي يتمتع فيه الإنسان في هذا السن براحة البال وقوة الذاكرة وصفاء الذهن وأيضًا الاستعداد الجيد لتلقي العلم ما تهيأ لها ذلك، المفارقة العجيبة أن نرى الغرب الذي يهاجم اليوم الزواج المبكر في بلاد المسلمين نراه يتحدث في بلاده عن ضرورة تأمين الجنس الآمن وحبوب منع الحمل للمراهقات ويطالب بإباحة الإجهاض لهن فيما لو حصل لهن حمل وما هذا فعلًا إلا دعوى للإباحية والفوضى الجنسية التي تتنافى مع تعاليم الأديان السماوية ومع كل التعاليم الأخلاقية العقلية والنقلية، ويؤسفنا أن نرى الغرب يحاول تسويق هذه الفوضى والإباحية إلى بلادنا العربية والإسلامية وأن يجد له في بعض الأحيان أعوانًا على ذلك، ولكن ماذا نقول الله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين. نعود إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضها، لنراها في بيت الزوجية عروسًا مميزة، ذكاءها الحاد وبديهتها الحاضرة روحها المرحة، كل ذلك أفسح لها مجالًا واسعًا في قلب زوجها النبي عليه الصلاة والسلام، ولعلكم تتساءلون معي كيف استطاع النبي الكريم وهو في سن الكهولة في الثالثة والخمسين من عمره أن يتعامل مع زوجته عائشة الفتية الشابة؟ الجواب هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أرق الناس طبعًا مع جميع زوجاته، فرحًا دائم البشر يداعب أهله ويضاحكهم، إذا كان هذا حاله مع جميع زوجاته فإنه مع عائشة كان أكثر مرحًا وملاطفة؛ لأنها كانت أصغرهن سنًا وأمرحهن طبعًا. تروي السيدة عائشة كيف سابقها النبي عليه الصلاة والسلام وسابقها فتقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، قال لأصحابه «تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي تعالي أسابقك، فسابقني فسبقته فلما حملت اللحم وبدنت خرجت معه في سفر فسابقني فسبقني، فجعل يضحك ويقول هذه بتلك يا عائشة» أليس لنا أيها الإخوة الكرام في هذا الهدي النبوي قدوة لكل زوجين ينغمسان في مشاغل الحياة وهمومها وينسيان أن مداعبة أحدهما للآخر وملاطفته وتمضية بعض الوقت معه في أحاديث جانبية تزيد من قوة ذلك الرباط المقدس الذي بينهما، وترفع من وتيرة الحب والمودة والسكينة، ما أجمل وأروع هذا الحديث الشريف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة، رجل يرمي عن قوسه، تأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق. نعود إلى أم المؤمنين عائشة وهي في بيت النبوة، كانت مسرورة مبتهجة بحظوتها عند النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن كان هناك دائمًا ما يعكر صفوها، الغيرة الشديدة التي كانت تتصف بها، والحقيقة أن أغلب النساء وربما كل النساء يحملن طبع الغيرة بدرجات متفاوتة، لكن هذا الطبع في السيدة عائشة كان شديد الظهور وواضع التأثير على نفسيتها وسلوكها، أول غيرتها كانت من السيدة خديجة أم المؤمنين الأولى رضي الله عنها، رغم من مضي أكثر من 4 سنوات على وفاتها عندما جاءت السيدة عائشة إلى بيت النبوة، إلا أن عائشة كانت تغار من الحب العميق الذي كان يسكن سويداء النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته الراحلة خديجة، كانت تغار من شدة وفائه لها ولكل من يمت لها بقرابة أو صداقة ولو كانت خديجة راقدة بعيدًا تحت الثرى، مما كان يزيد في حزنها أن السنين كانت تمر مسرعة دون أن تتمكن عائشة من إنجاب الأولاد، وازدات غيرتها شدة عندما توافدت على بيت النبوة زوجات أخريات شاركنها حصتها في كل شيء، لم تستطع عائشة بما يفيض به قلبها من حب لزوجها الرسول أن تكتم غيرتها، رغم تيقنها من محبة النبي لها وحظوتها عنده، ورغم معرفتها أنها البكر الوحيدة بينهن، ولكل زواج تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بعدها حكمة وضرورة، الأمر الذي كان يهم عليها ما تشعر به حيال ضرائرها من غيره، ولكن كل ذلك لم يستطع أن يطفئ تلك الغيرة أبدًا. أنا على يقين من أن كثيرًا من المشاهدين يتساءلون في سرهم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع غيرة نساءه الضرائر وعلى رأسهم عائشة؟ الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأنثى والغيرة التي فطرت عليها، فكان يقف أحيانًا موقفًا حياديًا إذا كانت الغيرة في حدودها الطبيعية، قد يكتفي بالوجيه المباشر أحيانًا وأحيانًا أخرى بالتوجيه غير المباشر، يروى في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم في بيت عائشة وكان عنده نفر من صحابته، وذلك قبل أن يفرض الحجاب على أمهات المؤمنين، فأرسلت إحدى نساءه قصعة فيها طعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فثارت غيرة عائشة، فضربت يد الخادمة الممسكة بالقصعة، فوقعت القصعة على الأرض فكسرت نصفين، موقف محرج، ربما لو حصل أمام زوج غير النبي صلى الله عليه وسلم لصرخ وشتم وربما ضرب قد يصل الأمر لحد الطلاق أحيانًا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفته للنفس البشرية قد عالج الأمر بحكمة بالغة، نزل بنفسه إلى الأرض حيث القصعة المسكورة وجمعها بيديه، ثم جمع الطعام وهو يقول مبتسمًا «غارت أمكم، غارت أمكم» ( صحيح البخاري [5225])، كأنه يريد أن يوجد لها مبررًا ليس فقط في نفسه بل في نفوس أصحابه الذين شهدوا هذا التصرف من أم المؤمنين، بعد أن جمع النبي القصعة دعا أصحابه إلى الطعام، وأكل معهم وكأن شيئًا لم يكن، ثم بعد ذلك دفع للخادمة قصعة صحيحة بدل القصعة المكسورة تعويضًا عن التي كسرتها عائشة، وطالما كان عليه الصلاة والسلام أن يوجد لغيرة عائشة مبررًا، يروى عنه أنه قال عن بعض تصرفاتها الغيرة ويحها لو استطاعت ما فعلت، ويروى أنه سألها مرة: «ما لك يا عائشة أغرت؟»، فأجابت: "وما لي لا يغار مثلي على مثلك!" ( صحيح مسلم[2815])، طبعًا لم تكن باقي زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بمنأى عن الغيرة وخصوصًا يغرن من السيدة عائشة، ربما كان عذرهن في ذلك ما ذكرناه من شدة حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، رغم أنه كان عليه الصلاة والسلام يقسم بين نساءه بالعدل في كل شيء في المبيت وفي الملبس والمطعم ولكن القلب بيد الله وحده، لا يمكن لأحد أن يتحكم فيه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك، ولا أملك» (بلوغ المرام[315])، ويعني في قلبه فيما يملك الله عز وجل نبينا عليه الصلاة والسلام لعائشة، كان يزيد في غيرتهم من عائشة أن الناس يتحرون تقدي هداياهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يكون فيه عند عائشة، فاجتمعت نساء النبي عليه الصلاة والسلام يومًا عند زوجته أم سلمة يشكون إليها ذلك، وطلبن إليها أن ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكواهن، ليأمر أصحابه أن يهدوا إليه حيثما كان، تقول أم سلمة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين. فأعرض عني، وفي الثالثة قال لي يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، «فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في رحاب امرأة منكن غيرها» (صحيح البخاري[3775]). ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صابرًا على غيرة نساءه تلك طالما كانت في حدود المعقول، وطالما أنها ضمن حدود الشرع ليضرب بهذا قدوة حسنة للرجال في معالجة غيرة النساء، ولكن لما زاد الأمر وطفح الكيل وبلغت غيرة النساء حدًا لا يحتمل وكادت أن تبلغ حد المرض ومجاوزة الشرع، وتوافقت هذه الغيرة مع الإلحاح في طلب زيادة النفقة، وذلك في وقت لم يكن فيه النبي صلى الله عليه وسلم يملك فيه القدرة المادية على هذا، وعند هذا كان لابد من العلاج الناجب، قد تتساءلون ماهو هذا العلاج؟ لم يكن العلاج ضربًا ولا شتمًا كما يفعل كثيرًا من الأزواج اليوم ولم يكن أيضًا طلاقًا، لقد كان اعتزالًا لهن جميعًا، نعم حلف أن يهجرهن شهرًا عسى أن يكن في هذا فسحة لهن ليراجعن أنفسهن ويكتشفن أخطائهن، كان شهرًا قاسياً على نساء النبي صلى الله عليه وسلم جميعهن بل وعلى الصحابة أيضًا، وأصيبت الضرائر بالهلع وأحسسن بالندم، واشتد الأمر على عائشة فما عساها أن ترى الحبيب صلى الله عليه وسلم مهمومًا مغمومًا، وهي التي ما ساقها إلى الغير إلا أنها لا تستطيع أن ترى أحدًا يشاركها في حبها الأول والأخير، فكيف بها اليوم تكاد تفقد الحبيب، ومضى الشهر على نساء النبي على وجه العموم وعلى عائشة على وجه الخصوص وكأنه سنوات، إلى أن جائتهن البشرى أن النبي راجع إلى بيوته ونساءه، أحست عائشة بالفرح يغمر كيانها لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها أول نساءه بعد العزلة الطويلة، ولكنها مع هذا لم تستطع إلا أن تعاتبه عتابًا رقيقًا وهي تقول: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد قلت كلمة لم ألق لها بالًا، فغضبت علي"، ثم أردفت مداعبة: "أقسمت أن تتركنا شهرًا ولم يمض منه سوى 29 يومًا"، ويبتسم الرسول لدلال زوجته يجيبها بأن شهرهما هذا هو 29 يومًا، ولما تلى عليها قول الله تعالى في آية التخيير {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب من الآية:28] بكت عائشة وهي تقول بل أريد الله ورسوله كذلك فعلت باقي نساء النبي عليه الصلاة والسلام. أمضت أم المؤمنين عائشة في بيت الرسول الكريم أحلى أيام عمرها حتى إذا ما مرض عليه الصلاة والسلام مرض الموت وآن أوان الرحيل طابت نفوس أمهات المؤمنين أن يمرض في بيتها لما يعلمن من حبه لها، سهرت عائشة على الحبيب تمرضه بود وحب، ومات الرسول صلى الله عليه وسلم ورأسه على صدر عائشة بين سحرها ونحرها -والسحر هو الرئة- بين سحرها ونحرها كما وصفت هي، وكان عمرها آنذاك ثماني عشرة سنة. وماذا بعد ذلك، هل أسدل الستار عن أم المؤمنين وانتهى دورها عند ذلك، يروي التاريخ سيرة تلك المرأة المتميزة ويؤكد أنها كانت المرجع الأول في الحديث النبوي الشريف وأنها كانت الفقيهة والمفتية الأولى في الإسلام، كانت تحسن القراءة في الوقت الذي كانت فيه معرفة القراءة والكتابة أمرًا محدودًا بين الصحابة نساءًا ورجالا، لقد كانت عائشة بعد النبي عليه الصلاة والسلام معلمة النساء والرجال، وأي الرجال! كان من تلاميذها كبار الصحابة رضوان الله عنهم، يقول عنهم الإمام سفيان الزهري لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، يقول الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري ما أشكل علينا أمر نحن صحابة رسول الله فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها فيه علمًا، روي عنها من الأحاديث النبوية الشريفة في الكتب الستة وحدها 2110 حديث. العبرة التي نستلها من الحديث عن أم المؤمنين عبرة وأي عبرة، إنها رسالة تمضيها تلك السيدة الطاهرة بعملها لا بقلمها، ترسلها إلى كل امرأة مسلمة في العالم عبر العصور جميعها تخبرها فيها عن دورها في هذه الحياة، وأن كونها امرأة لا يمنعها أبدًا من أن تضيف إلى هذا العلم والتعليم، وأن كونها امرأة لا يعني أن تبقى حبيسة في منزلها يقتصر عملها على الطبخ وعلى الغسيل وعلى الكي، فقد كانت في انتظارها مهمة قال الله تعالى فيها: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:39]، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (صحيح الجامع [3914]). وإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع النساء تدلنا على أهمية تعليم النساء، كما أن سيرته مع السيدة عائشة تدلنا على أهمية تعليم الزوج لزوجته، وفتح المجال أمامها لتنهل من جميع العلوم الشرعية والدنيوية، وهل كان علم عائشة يقتصر على العلوم الشرعية؟ لقد كانت عائشة عالمة في الأدب والشعر والنسب إلى جانب علوم الدين، روي أنها روت للبيد الشاعر ألف بيت من الشعر، كما روي عنها جملة من الخطب البليغة التي تجاري خطب البلغاء والأدباء، هذا المنطق الذي يعنى بتعليم المرأة عمومًا وتعليم الزوج لزوجته خصوصًا، ولكننا للأسف نسمع عكسه ونقيضه منذ بداية عصور الانحطاط والبعد عن الإسلام وهدي الإسلام، حتى صار بعض الأزواج ينصحون بعضهم بعضًا بقولهم عن زوجاتهم اتركها جاهلة أفضل لا تفتح علينا أبوب مغلقة. حقا أنها لسيرة عطرة؛ حملت فيها السيدة عائشة أم المؤمنين لواء نشر الرسالة الإسلامية بكل ما تستطيعه، فوفت الأمانة وأدت الرسالة وظلت تقوم بدورها خير قيام إلى أن وافتها المنية سنة 57 للهجرة، فتوفيت رضي الله عنها عن عمر يناهز السادسة والستين، فلك منا يا أم المؤمنين أزكى سلام وأطهر تحية إلى يوم الدين، وجمعنا الله سويًا تحت لواء سيد الناس والخلق أجمعين.

انثى برائحة الورد
06-12-2021, 03:51 PM
صحابيات : زينب بنت جحش
شابة حسناء ذات حسب ونسب تهافت الخطباء على بابها راغبين لها وطالبين يدها، ولكنها ردتهم جميعهم حتى كبرت وصار عمرها ثلاثة وثلاثين عامًا وقيل ثلاثة وعشرين، وباتت تدعى بأيم قريش بدلًا من أن يكون عريسها بعد الدلال والرفض شابًا من بني هاشم أو ما يماثلهم ويوازيهم في الحسب. ربما كنتم تتساءلون عن الصحابية التي سنطوف في رحابها لنعبأ معًا من المعاني العظيمة والمواعظ الجليلة التي يفيضها علينا الحديث عن صحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن أرفع الستار وأفصح لكم عن هوية جلستنا لهذه الليلة أحب أن أذكر لكم هذه القصة عنها: خرج زوجها من بيته مغضبًا بعد أن تشاجرا وظلت كلماتها التعيرية الاستفزازية تلاحق سمعه وتصك أذنيه، زوجها هذا كان عبدًا مملوكًا حرره الله تعالى على يد نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وأكرمه بالزواج من سيدة قرشية رفيعة، لكنه اليوم ثائر غضبان من هذه السيدة القرشية الرفيعة، كان يردد في سره وهو يمشي كيف تعيرني بأيام العبودية بعد أن سوى الإسلام بيني وبينها!! ألم تسمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لبيض على أسود إلا بالتقوى» (الصحيح المسند[1536])، والله لأشكونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قصة هذين الزوجين غريبة وعجيبة حقًا، عبد معتق أسمر البشرة أفطس الأنف يتزوج من شابة حسناء ذات حسب ونسب تهافت الخطباء على بابها راغبين لها وطالبين يدها، ولكنها ردتهم جميعهم حتى كبرت وصار عمرها ثلاثة وثلاثين عامًا وقيل ثلاثة وعشرين، وباتت تدعى بأيم قريش بدلًا من أن يكون عريسها بعد الدلال والرفض شابًا من بني هاشم أو ما يماثلهم ويوازيهم في الحسب، كان عريسًا عبدًا أسود أو شبه أسود ليس له بين العرب حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، لا شك أنكم تتشوقون لمعرفة هذين الزوجين من هما؟ لم ترفضه كما رفضت غيره، وكيف تمكن هذا العبد المعتق من الظفر بتلك الهاشمية الحسناء، أنا أتكلم اليوم عن زواج بطولي فدائي غريب، غريب في بدايته غريب في نهايته وغريب فيما بعد نهايته، لكنه ملئ بالدروس الفائقة والعبر الشائقة. أنا أتكلم اليوم عن الزوجين الفدائيين: زيد بن حارثة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما، وقد سميتهما بالفدائيين لأن إقدامهما على أمر هذا الزواج لم يكن عن رغبة منهما بل تنفيذًا لأمر إلهي، أريد من ورائه حكمة وأي حكمة بل حكم، وأي حكم؟! في السنة الرابعة للهجرة أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يزوج زينب لزيد بن حارثه، في ذلك الوقت لم يكن "زيد" ينسب لأبيه حارثة بل كان يدعى "زيد بن محمد" فلقد كان زيد عبد عند "خديجة بنت خويلد" زوجة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بعثت النبي عليه الصلاة والسلام، فوهبته خديجة لزوجها "محمد بن عبد الله" ليصبح عبدًا له. زيد هذا كان من قبيلة عربية قحطانية غزت قومه بعض القبائل العربية فاستلبوه من أمه، وباعوه في سوق من أسواق العرب عبدًا مملوكًا، بحث عنه أبوه "حارثة بن شراحيل" حتى وجده عند "محمد بن عبد الله" فأراد افتدائه بالمال ولكن زيدًا رفض أن يترك سيده، وقال لوالده -الذي ذهل لأن ابنه يفضل العبودية على الحرية-: "إني رأيت من هذا الرجل شيئًا عجبًا ولن أفارقه أبدًا"، عند ذلك أخذ محمد بن عبد الله بيد زيد ودار في دور قريش يشهدهم أنه قد تبناه، وأن زيدًا أصبح ابنه اليوم وارثًا وموروثًا ومنذ ذلك اليوم وزيد يدعى بـ"زيد بن محمد". لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان زيد من أوائل من آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام وصدقه، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه حبًا كثيرًا كان يقول فيه: «وأيم الله إنه كان خليقًا للإمارة وإنه لمن أحب الناس إلي» (صحيح ابن حبان [7044])، تروي السيدة عائشة عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لزيد أن زيد قدم إلى النبي وهو في بيتها فقام إليه النبي حتى عانقه وقبله، مشت الحياة بزيد مشيًا طبيعيًا فقد تزوج أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ولدت له ابنهما أسامة الفتى الذي كان يلقبه النبي الكريم بالحب ابن الحب، أسامة الذي صار فيما بعد أصغر قائد يعينه النبي صلى الله عليه وسلم على رأس جيش، سيتوجه إلى بلاد الشام لفتحها ونشر كلمة الله فيها، هذا هو زيد هذه هي عائلته الصغيرة، وحياته البسيطة الهادئة الهانئة، ولكن الأمور لا تسير دائمًا بالطريقة التي يخطط لها المرء في حياته. شيء ما يحدث في السنة الرابعة من الهجرة كان له في حياة زيد أثر عميق وحقًا أمر يستحق أن نقف عنده مطولًا أن نتأمل فيه وفي نتائجه وتفصيلاته تأملًا دقيقًا، استدعى النبي صلى الله عليه وسلم على عجل وكان زيد آنذاك في التاسعة والأربعين من عمره، وعرض عليه أو لنقل أمره أن يتزوج من ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تسمى آنذاك (بره بنت جحش) فوجئ زيد بهذا العرض، لكنه رضخ لأمر النبي عليه الصلاة والسلام فلسان حاله ومقاله هو دائمًا سمعًا وطاعة يا رسول الله ولسنا نعرف مشاعر زيد آنذاك، وإن كنت أرجح أنه كان خائفًا مشفقًا من الإقدام على تلك الخطوة، لما يعرفه من استحالة زواج كهذا حسب العادات العربية عمومًا وعادات قريش خصوصًا، إذ لا تكافؤ بينه وهو عبد معتق فقير وبين زينب القرشية الهاشمية. أما زينب بنت جحش فكان وضعها أصعب شعرت بسهام تصيب كبريائها وتطعنها في الصميم، العرب الذين كانوا يتفاخرون بالأحساب والأنساب وتقوم عاداتهم على التمييز بين الأسياد والعبيد، لم يكونوا يألفون أو يقبلون زواجًا كهذا فكيف لزينب إذن أن تخرق هذه العادات المتحزرة في أعماق قومها وفي عقول قومها، أمام هذه المشاعر بدت لزينب رغبة جادة بالرفض، ولكن نظرة واحدة في وجه النبي عليه الصلاة والسلام كانت كفيلة بأن تدفع زينب للرضوخ لأمره، فهو رسول الله وأمره من أمر الله وعصيانه من عصيان الله، لربما كانت زينب تدرك في قرارة نفسها أن هناك حكمة من هذا الزواج، ولكنها في نفس الوقت لم تهضم أن تكون زوجة لمولى معتق لا يملك مفخرة واحدة من مفاخر الدنيا مهما يكن موقفها من هذا الزواج في بداية الأمر فإنها رضخت أخيرًا لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره، هذا ما جاء في كتب السيرة والتاريخ، لكن بعض الروايات تذكر أن زينب وأخواها "عبدالله وحمنة" رفضا هذا الزواج بشدة فنزل قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وأن زينب وأهل زينب استجابوا لله ورسوله بعد نزول تلك الآية، فرضوا بزيد زوجًا. أقول هنا هذه الروايات لم ترد في كتب الحديث الصحيحة، أما كتب التفسير فقد ذكرت سببين لنزول تلك الآية أحدهما ما ذكرناه من أنها نزلت بسبب رفض زينب الزواج من زيد، وأسانيد هذا القول لاترقى إلى درجة الصحة، والآخر هو الأرجح أنها نزلت لسبب آخر لا شأن لزينب به ولذلك فإننا نرجح أن زينب رضخت لرغبة النبي طواعية، رغم ما في قلبها من خوف من هذا الزواج، لذلك يمكن أن نسمى هذين الزوجين بـ(الفدائيين)، فلقد ضحت زينب بشبابها ونسبها لتخوض تجربة زواج يفتقر إلى الكثير من مواصفات، ولكن كان لابد من التضحية فقد كانت تدرك أن أمر النبي واجب التنفيذ وأن تنفيذ هذا الأمر الصعب هو المحك الأساسي لإيمانها والتزامها، ربما لم يدر في خلدها أن حكمة الإسلام من هذا الزواج تهدف إلى إلغاء العادات والامتيازات الطبقية الذميمة المتأصلة في عقول الناس ودمائهم وطبائعهم، ولكنها كانت تدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل حكيم موحى إليه من ربه، وأن اختياره لها لتكون زوجة لزيد له سببه ربما لم تكتشفه بعد: * قد يكون هذا السبب أنها قريبته وله عليها دال ووجاهة. * وقد يكون السبب ما تتميز به زينب من حب وطاعة لله ورسوله. * وقد يكون، وقد يكون.. تذكرت زينب أيام الإسلام الأولى يوم دخلت في دين الله هي وأمها عمة النبي صلى الله عليه وسلم (أميمة بنت عبد المطلب، ووالدها جحش بن رئاب، وأخوتها حمنة وعبد الله وأبو أحمد و عبيد الله) كلهم أحبوا الإسلام ونبي الإسلام ويودون لو يفتدون ذلك النبي بأرواحهم أفحين يطلب إليهم شيئًا من هذا الفداء يتخلون عنه، لا والله. إذن رضيت زينب بزيد زوجًا باركت عائلتها هذا الزواج وزفت العروس القرشية إلى زوجها العبد المولى المعتق، كان صداقها عشرة دنانير وستين درهمًا وخمارًا وملحفة ودرعًا، حاولت زينب جهدها أن تكون زوجة صالحة وأن تكون عند حسن ظن النبي صلى الله عليه وسلم بها، لكنها لم تستطع أن تحب زيدًا ولم تستطع أن تنسى أنها كانت مطمح وجهاء القوم وساداتهم، فكانت تسيء في بعض الأحيان إلى زيد فتجفوه وتتمنع عليه وتتعالى عليه دون قصد منها، وكان زيد يحس منها ذلك هذه الفجة وذلك التعالي، الأمر الذي أدى إلى التباعد النفسي والعاطفي بينهما، فلم يستطع هو الآخر أن يسكن إليها ويتقرب منها ويتودد إليها، انقلبت حياة الزوجين إلى جحيم لا يطاق رغم محاولة كل منهما التلاؤم مع الآخر ولكن {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، بعد سنة كاملة من المعاناة تيقن زيد أنه لن يستطيع أن يكمل حياته مع زينب ففكر أن يطلقها، فلما عيرته واستفزته قرر أن ينفذ ما فكر به هرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أمره، ويخبره بما عقد عزمه عليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك وقال له: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» (صحيح البخاري [7420])، قد يبدو أن الطلاق في نهاية الأمر هو مصير الزواج عندما يستحيل التفاهم وينعدم الانسجام، وهذا حق. هذه بداية قصة السيدة زينب بنت جحش وقبل أن نكملها لابد لنا من التوقف هنا عند نقطة هامة يسيء الكثيرون فهمها هذه النقطة هي (الكفاءة بين الزوجين) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تخيروا لنطفكم انكحوا الأكفاء انكحوا إليهم» (صحيح الجامع [2928])، عندما نتساءل عن معنى الكفاءة التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم بين الخاطب والمخطوبة؟ نجد تعاريف كثيرة متناقضة: * البعض يعتبر التساوي في الحسب والنسب بين الزوجين هو الكفاءة. * آخرون يجعلون الحالة المادية أمرًا أساسيًا في الكفاءة بينما. * يفهم آخر أن الدين والأخلاق هي المعيار، عندما نوازن هذه الآراء بما يفهم من الحديث الشريف السابق نقول: الحكمة من طلب الكفاءة بين الزوجين هي: (الحرص على كل ما يؤدي على استمرار الحياة الزوجية السعيدة بينهما) هذا ما يجعلنا نرجح أن الكفاءة هي (كفاءة الدين والأخلاق، وليست كفاءة النسب والمال) طبعًا لا يمكننا أن ننكر أهمية التكافؤ بين العروسين من الناحية العلمية والثقافية لما في هذا من استمرار التفاهم والوئام بين الزوجين، ولما له من دور في هذا كم شهدت أعيننًا وسمعت آذاننا قصصًا عن زيجات ينقصها التكافؤ المادي ولكن كتب لها النجاح بسبب وجود التكافؤ الديني والعلمي. بالمقابل كم سمعنا ورأينا قصصًا أخرى لزيجات باءت بالفشل بسبب افتقارها للدين وللعلم والأخلاق واعتمادها على النسب والجاه والمال وحده، الحقيقة أن التكافؤ في المادة والنسب أمر هامشي ثانوي ليس شرطًا من شروط الزواج وتقديره متروك للحالات الفردية، قصة زينب وزيد خير برهان على ذلك فقد كان الإسلام يهدف من هذا الزواج أن يؤكد أن ترك عادات العرب وموازين العرب التي تجعل التكافؤ في هذه المسائل من أولويات الزواج، واكتفى بالدين وحده مقياسًا للكفاءة أو عدمها، أو القبول أو الرفض. طبعًا رضا الفتاة وأهل الفتاة بالعريس أو الفتى وأهله بالعريس متروك لهم ولما تهوى أنفسهم بشرط أن لا يكون التكبر هو السائق إلى اعتبارا الزواج غير متكافئ من جهة النسب أو المادة، قد يكون من الأمور المقبولة اليوم أو المنطقية أن ترفض البنت وأهلها أو الشاب وأهله الزواج ممن لا يتكافئون معهم حسبًا ونسبًا أو مادة منبتًا اجتماعيًا ما يسمى (البرستيج الإجتماعي) قد يمكن أن يرفضوا هذا خوفًا من فشل هذا الزواج، لما قد يعلمونه عن ابنتهم من عدم القدرة على التأقلم مع الوضع الجديد أخذًا بمبدأ درهم وقاية خير من قنطار علاج، ولكن هذا لا يعني أن هذه هي القاعدة الوحيدة والمثلى بل ينبغي أن ينظر في الزواج إلى الدين والأخلاق أولًا، فإن اجتمعت معها باقي الأمور فهي نعمة، وإلا فالجاه والمال والحسب بمعزل عن الدين والخلق، سيكون طامة وفجيعة يقاسي لها الزوج والزوجة وأهلهما معًا، أحب أن أذكر -الإخوة- بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (صحيح ابن ماجه [1614]). نعود إلى الفدائيين (زينب، وزيد) وقد تم الطلاق بينهم بعد زواج دام قرابة سنة ونصف اعتدت زينب عدة الطلاق في بيت الزوجية حتى إذا ما انتهت عدتها أرسل عليه الصلاة والسلام يخطبها لنفسه بناء على أمر الله تعالى له، كان ذلك في السنة الخامسة للهجرة، كان عمرها آنذاك خمسة وثلاثين وقيل خمسة وعشرين عامًا، تكثر الروايات الضعيفة والمغرضة حول خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لزينب ،منها روايات تذكر (أن النبي صلى الله عليه وسلم طرق باب بيت زيد قبل طلاق زيد لزينب، فتحت زينب الباب وأنها كانت تلبس ملابس سيدة متزينة في دارها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعجب بها، فولى عائدًا وقد وقعت زينب في قلبه موقعًا، فلما أراد زيد طلاقها قال له عليه السلام: «امسك عليك زوجك واتق الله»، وأخفى في نفسه أنه يرغب بزينب زوجة له، بناء على هذه الروايات الضعيفة فسر البعض قول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاه} [الأحزاب:37]، راقت هذه الروايات في الحقيقة الضعيفة للمستشرقين فتبنوها واتخذوها مطعنًا استدلوا من خلاله، على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج حبًا بالنساء وإرضاء للشبق، ولكن منطق العقل السليم والروايات الصحيحة تفسد على المستشرقين ما يحاولونه من طعن في ذلك النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام. النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف زينب حق المعرفة قبل تزويجها لزيد هي ابنة عمته، شبت أمام عينيه وعلى مرأى منه، وهو الذي خطبها لزيد وزوجه إياها ولو كان مغرمًا بالنساء كما يصفون لأعجبته منذ أن رآها ولتزوجها وهي بكر، ولم يزوجها لزيد ولا لغير زيد، هذا فضلًا عن أن في حالة خروجها بثياب تظهر مفاتنها أمام من يطرق باب بيتها، ولو كان الطارق النبي عليه الصلاة والسلام الروايات الصحيحة تفسر قول الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} بأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيتزوج زينب حينما يطلقها زيد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كتم هذا عن الناس، فزيد كان ولده بالتبني قبل أن يفسد الإسلام التبني، كان من غير المقبول في ذلك المجتمع أن يتزوج الأب زوجة ابنه إن طلقها ولو كان هذا الابن ابنه بالتبني فكيف يقدم النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج من مطلقة ابنه زيد؟! لقد خشي عليه الصلاة والسلام مما سيتقوله الناس في هذا الزواج، فكتمه حياءً وحرجًا فنزلت الآية الكريمة تعاتبه في ذلك، لأن أحد أهداف الإسلام من هذا الزواج هو إعلان إبطال الإسلام لمفهوم وعادة التبني من أساسها، وإثبات أن زوجة المتبني ليست كزوجة الابن، وأن من كان متبنيًا لشخص فإن هذا التبني باطل هو وكل آثاره الاجتماعية والعرفية لذلك يقول "أنس بن مالك" في هذه الرواية حسب رواية مسلم: "لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي، لكتم هذه الآية بما تحتويه من المعاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم" بالمناسبة هذه الآية من سورة الأحزاب التي تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على كتمان خبر السماء وتتبعها بالتزويج من زينب، لم تنزل حين جاء زيد من النبي شاكيًا يريد طلاق زينب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وامسك عليك زوجك»، بل تأخر نزولها إلى أن مضت عدة زينب من زيد تأكيدًا من أن الإسلام لا يجوز لأحد أن يخطب المرأة أثناء عدتها. عندما انتهت عدة طلاق زينب أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يخطبها له حسب ما أراده الله تعالى؟ من الذي تولى أمر هذه الخطبة؟! لم تتصوروا!! أنه زيد بن حارثة الزوج السابق أو الطليق كما يقال اليوم أو كما يسمى!!، ذهب زيد إلى مطلقته زينب وعرض عليها الزواج برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك أن زينب لم تكن تتوقع هذا العرض من قريب ولا من بعيد لست أشك أن الفرحة غمرت قلبها، ولكأني بها عندما سمعت عن ذلك الخبر لم تسعها الدنيا من الفرحة والسرور، ولكن إنها كشأن أي أنثى وقالت لزيد موارية فرحتها: "لست بصانعة شيئًا حتى أستخير ربي"، ذهب زيد من عندها قامت زينب لمصلاها تسجد بين يدي ربها حامدة شاكرة وهي تتذكر أيامًا قاسية على نفسها مضتها مع زيد، لم تشعر فيها بطعم الهناءة والسعادة حقًا، لقد تركت زينب متع الحياة الدنيا لله فلن يضيعها الله، وكان ثوابها الزواج من خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم. عاد زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بجواب زينب وأنها تريد أن تفكر وتستخير، لكن الأمور أسرع منه ومن زينب ومن تفكيرهما ومن استخارة زينب، عندما كان زيد يتحدث مع زينب، يخطبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، نزل جبريل إلى النبي ليخبره بأن الله تعالى زوجه من زينب، فكأن الله تعالى ولي زينب في هذا الزواج، وكان جبريل سفيره، وذاك أمر لم يحصل مع زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل زينب، ولا بعد زينب، هنا في هذا الوقت الذي نزل فيه جبريل بأمر السماء هذا نزلت أيضًا الآية في سورة الأحزاب التي تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على إخفاء إخبار الله له، لأنه سيتزوج زينب بسبب خشيته من قول الناس. طبعًا أخفى هذا بسبب خشيته من قول الناس بأنه تزوج زوجة متبناه، وتخبره أيضًا بأن الله تعالى قد زوجه زينب من فوق سبع سماوات، ما هي الآية الكريمة التي زوج الله تعالى به رسوله الكريم من زينب، اسمعوا معي قوله تعالى في سورة الأحزاب {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [37] أما في سورة الأحزاب أيضًا إبطال حكم التبني في الإسلام وجوب أن ينسب المرء لأبيه، فإن لم يعرف من هو أبوه فلا ينسب إلى أحد بل هو أخ لجميع المسلمين بالإسلام الجامع بينهما، يقول تعالى أيضا في سورة الأحزاب: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [4] ويقول: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}[الأحزاب:5]. أريد هنا أن أتوقف عند الحكمة من تحريم الإسلام للتبني؛ هذا التبني الذي كان سائدًا في الجاهلية وصدر الإسلام، والتبني: إلحاق نسب شخص غريب بنسب عائلة ما ليصبح ابنا لها يخالط أفرادها الإناث والذكور يعيش معهم ويرث منهم ويقاسمهم حياتهم كأنه أحد محارمهم أي كأنه أخوهم مثلًا مع أنه في الحقيقة ليس أخاهم وليس بمحرم عليهم، لا يخفى ما في هذا التبني من أخطار شرعية واجتماعية على العائلة والمجتمع، إذ يدخل على الأسر عناصر غريبة عنها مما يؤدي إلى: * اختلاط الأنساب. * وضياع الأموال. يطرح بعض الناس هنا مسألة إنسانية دقيقة تتعلق بتربية اللقطاء أو أبناء الميادين والملاجئ، يتساءلون هل يحرم الإسلام على المسلم أن يمد يد المساعدة لهؤلاء المحتاجين الذين كتبت عليهم أقدار الله تعالى أن يفتحوا عيونهم على الدنيا فيجدوا أنفسهم بلا أب أم وبلا معين؟! أقول: التبني الذي حرمه الإسلام هو خلط الأنساب ببعضها زورًا وبهتانًا بشكل ينافي ويجافي الحقيقة، أما تربية اللقطاء واحتواءهم في العائلة دون إلحاقهم بنسب العائلة فهذا أمر رغب فيه الإسلام وحث عليه، لأنه إحياء لنفس بشرية محتاجة للعون ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيى الناس جميعًا، ولكن بشرط تطبيق الأحكام الشرعية كـ (الحجاب، ومنع الخلوة بين ذلك الشخص وبين أفراد العائلة من الجنس الآخر، وحساب الميراث بدون أن يكون للغريب فيه حصة مقسومة) طبعًا لم يمنع الإسلام من تحسين أوضاع هؤلاء الناس بالإحسان إليهم وتخصيصهم بوصية تجبر خواطرهم وترفع من مستواهم المعيشي، ولكن ضمن الحدود الشرعية المعروفة عند السادة الفقهاء والعلماء.

انثى برائحة الورد
06-12-2021, 03:51 PM
صحابيات : جويرية بنت الحارث


حديثنا اليوم سيكون عن أمٍّ أخرى من أمهات المؤمنين، أمٌّ لها قصةٌ غريبة جمعتها بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، تبدأ القصة عندما سيقت (برّة بنت الحارث) سيدة بني المصطلق أسيرةً إلى المدينةِ المنوّرة، وبني المصطلق: هي قبيلةٌ عربية تنتسب إلى بني خزاعة، فكيف تسبى بنت زعيمهم إذن؟ لو وقف الأمر عندها وحدها ربّما هان قليلًا، لكنّها لم تكن الأسيرة الوحيدة في جيشِ المسلمين، فقد سيقت مئةٌ من عوائل بني المستلق برجالها ونساءها وأبناءها إلى المدينةِ المنوّرة، ومصير مجهولٌ ينتظرهم جميعًا، أمّا زوجها مسافئ ابن صفوان فقد تضرّج بدمائه إثر ضربةٍ قاتلةٍ من سيفِ أحدِ المسلمين وانتهى أمرهُ قتيلًا، فكيف سينتهي أمر بقيّة الرجال من قومها؟ ما هو مصيرهم يا ترى الرقُّ والعبوديّة أم الموتُ قتلًا، كل شيءٍ ممكنٌ ووارد ولكن ماذا فعل هؤلاءِ الأسرى ليواجهوا مثل هذا المصير؟ برّة تتذكّر جيّدًا ما حدث، طبعًا لم تكن مسلمة في ذلك الوقت، لكنّها كانت تعرف أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يظلم ولا يبطش ولا يعتدي على أحدٍ ولكنّ ما جناه قومها كان أكبر من الحلمِ والعفوِ والمسامحة. عادت بذاكرتها قليلًا إلى الوراء وتذكّرت والدها الحارث وزوجها مسافئ وقد اجتمعا قبل أشهرٍ وخطّطا للقضاء على محمدٍ وأصحابهِ في عقر دارهم يثرب، بعد التخطيط جاء دور التنفيذ، فقد جهّز والدها جيشًا لكي يغزو يثرب بعد أن اتّفق مع قبائل عربية أخرى لتمدّه بالعدّة والعتاد، كما أنّ برّة تعرف أن عداوة أباها وزوجها لمحمّد ليست جديدة فلطالما سمعت أبيها وزوجها يتحدّثان عن محمّد بحقدٍ وكراهية عن الدينِ الجديد الذي جاء بهِ هذا الرجل، وتذكرُ أيضًا كيف ساهم قومها في قتال المسلمين في غزوةِ أحُد وكان لهم يدٌ في إلحاقِ الهزيمةِ بالمسلمين، إذن العداوة قديمة ومتجذّرة بين قومها والمسلمين ونبيّهم، ولكن أين هي من هذا العراكِ كلّه؟ على الأقل أين تتّجه عواطفها، هل تتمنّى أن يستأصل قومها شأفة المسلمين ويريحوا جزيرة العرب من هذه البدعةَ الوافدة التي يسمونها الإسلام؟ أم أنّها تتعاطف مع المسلمين لو كانوا لقومها أعداء ومقاتلين؟ في الحقيقة لم تشعر برّة شخصيًّا يومًا في الحقد على الدين الجديد وعلى رسوله محمّد ابن عبد الله، ولكن أين هي من هذا العراك؟ هذا الذي ما لم تكن قادرة على تحديده في هذه الفترة بالذّات، مشاهد مختلطة كانت تغزو عقلها وقلبها، مازالت تلوح بمخيّلتها صورة أبيها وهو يهرولُ هاربًا من المعركة ناجيًا من الأسر تاركًا ابنتهُ برّة وأخويها وباقي قومها يلاقون ذلّ الهزيمة والأسر، نظرت لعشيرتها وهم يمشون بالأسر مشية الذليلِ المكسور، شعرت بنظراتهم إليها بأنّها أسهمٌ من العار تريد أن تفتك بها، فهي ابنة الحارث السيّد الذي تركَ قومه وفرّ وتركهم يواجهون مصيرهم الأسود بعد أن كان هو سبب الحرب كلها كيف يفرّ ويجبن؟ تجاهلت برّة نظرات القوم إذ ليس عندها ما تبرّر بهِ فعلةَ أبيها. وسرحت لتتساءل بسرّها لماذا يكره أبيها وزوجها الإسلام والنبيّ محمد ابن عبد الله؟ لماذا كانا يخططان للقضاء عليه؟ كانت تظنّ أن الخوف على المنصب والجاه والمال والرغبة في المحافظة على عقائد الآباء والأجداد هو ما كان يمنع أباها وزوجها من قبول الإسلام، كانت برّة تظنّ ذلك ظنًا لكنّها الآن على يقينٍ بأنّ ظنّها في محلّه، لأنّها منذ أن سيقت أسيرة لم ترى من هؤلاء المسلمين إلاّ أحسن الأخلاق، لم يكن المسلمون يعاملون أسراهم بالجفوة والغلظة وسوء الأخلاق كما كان شائعًا في التعامل مع الأسرى آنذاك وكما كان قوم برّة يعاملون أسراهم، وكان يتطرّق إلى سمعها حديث صحابة الرسول وهم يتحدّثون فيما بينهم وهم يتواصون أحسنوا إلى الأسرى هكذا أمر رسول الله، كانوا يسهرون على راحة الأسرى وإطعامهم وحمايتهم أكثر من حرصهم على أنفسهم لأنهم وصية رسولهم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم. كانت تسمع حديثهم عن الرسول الكريم وتعجب لحبهم له أشدّ العجب، أحدهم يتمنّى أن يفديهِ بنفسه وأمواله وأولاده ما هذا الحب ولماذا؟ ربّما كانت تسأل نفسها هذا السؤال، سمعت برّة بنت الحارث بأنّ الأسرى سيعرضون على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الغد ليرى فيهم رأيه، غدًا إذن سترى عيناها محمّدًا الذي طالما سمعت عنه وتمنّت رؤيته، ولكن لم يخطر في بالها يومًا ما أنّها ستراه وهي أسيرة ذليلة يعتصرها الخوف والذعر، أسئلةٌ كثيرة كانت تشغل تفكيرها وتستولي على لبّها، ماذا سيكون حكم النبي الكريم فيها وفي قومها المأسورين وهل سيحكم عليهم بما كان جاريًا آنذاك، حين يفوز المحاربون يقتلون الرجال أو في أحسن حالٍ يسترقونهم ويجعلونهم عبيدًا تمامًا كما يسترقون النساء والأطفال، أم أنه سيكسر هذه القاعدة المألوفة ليمنّ عليها وعلى قومها بإطلاقِ سراحهم وإعادة حرّيتهم إليهم، كادت تضحك في نفسها حول خيالها الجامح نحو الحريّة فالعين بالعين والسنّ بالسّن، فإن قتل محمّد رجال قومها لا يلومه أحد فقد كانوا حريصين على قتله ولو استطاعوا أن يسبوا نساء المدينة المنوّرة وأطفالها لاتّخذوا منهم العبيد والجواري، فما الداعي لأن يعفو محمّدٌ عنهم وعن نساءهم وعن أطفالهم، مناقشةٌ منطقيّة للأمور تدور في عقل برّة لكنّ ما رأته من كرم المعاملة وحسن الأخلاق معها ومع الأسرى من قبل أصحاب النبي لم يسمح لها بالضحك من هذا الاحتمال واستبعاده، ما الذي حدث بعد ذلك مع برّة وقوم برّة؟ يروي ابن اسحاق أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وزّع الأسرى بين المسلمين على أنّهم غنائم حرب ووقعت برّة غنيمة لثابتٍ ابن قيس وسألته أن يكاتبها، وهو أن يشتري العبد نفسه من سيّدهِ مقابل مالٍ يؤدّيه إليه، طبعًا لم تكن برّة تملك شيئًا من هذا المال الذي كاتبت نفسها عليه لكنّها كانت تخطّط لشيء، أتعرفون ما هو؟ تروي أم المؤمنين عائشة أن برة بنت الحارث أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: "يا رسول الله أنا برة بنت الحارث سيدة قومي و قد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك وقد وقعت في السهم لثابت بن قيس فكاتبته على نفسي فجئتك أستعين على مكاتبتي"، وقع كلامها هذا من النبي صلى الله عليه وسلم موقعًا سليمًا فهي سيدةً في قومها وذات حسب ونسب وقعت في الأسر وتريد منه وهو زعيم جيش العدو أن يساعدها ليفك أسرها، هذا منطقٌ عجيب لكنه منطق عظيم، منطق يعكس بوضوح وجلاء النظرة السامية والراقية التي كان أعداء الإسلام وأعداء النبي صلى الله عليه وسلم يكنونها تجاهه. كم تشبه هذه النظرة قول قريش عندما يطل عليهم محمد بن عبدالله قبل البعثة والنبوة فيقولون جاء محمد جاء الصادق الأمين، كم تشبه جواب قريش أيضًا للنبي عندما أمره الله تعالى بالجهر بدعوة الإسلام فسألهم قائلًا: «لو أني أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقين، فقالوا: نعم ما جربنا عليك كذبًا قط» (صحيح البخاري[4770]). هاهو التاريخ يعيد نفسه على يد برّة بنت رئيس جيش المشركين تريد من رئيس جيش المسلمين أن يساعدها لتفكّ نفسها من الأسر، لو لم تكن تراه رمزًا للسلام والمحبة والعفو والجود والنبل والشهامة لما طلبت منه هذا الطلب، بماذا أجابها النبي عليه الصلاة والسلام، الأرجح حسب مجريات الأحداث التي وقعت فيما بعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عز عليه ما آل إليه حال بني المصطلق، ففكر بطريقة ترضي أصحابه الذين ينتظرون توزيع الغنائم كما هي العادة في الحروب بما في ذلك الأسرى والنساء، وفي نفس الوقت يجعلهم يتنازلون عن حقهم بكامل رغبتهم وإرادتهم فيعيدون إلى بني المصطلق حريتهم وكرامتهم، الأمر الذي قد يلفت نظرهم للإسلام ويرغبهم بالدخول فيه. عرض النبي صلى الله عليه وسلم على برة حلًا عظيمًا لا يخرج إلا من رجلٍ عظيم، عرض عليها أن يقضي عنها مال مكاتبتها وأن يتزوجها، تذكرت عند هذه اللحظة رؤية رأتها منذ خمس سنوات عندما قدم محمد بن عبدالله إلى يثرب، رأت قمرًا يمشي من يثرب يقع في حجرها، وهل غير النبي محمد صلى الله عليه وسلم يستحق أن يكون قمرًا، ولكن الزواج يحتاج إلى مهر وما هو مهرها؟ كان صداقها إعتاق جميع من استرق من قومها رجالًا ونساءً، يا له من صداق لم يقع من قبل ولا من بعد لامرأةٍ غيرها، يروي الرواة أن بعض نساء النبي عليه الصلاة والسلام افتخرن على برة بنت الحارث بأنهن حرائر وأنه ما جرى عليهن رقٌ يومًا من الأيام، فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها وهو يطيب خاطرها «أو لم أعظم صداقك» (مجمع الزائد[9/253]). كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من برة في السنة الخامسة للهجرة كان عمرها عشرين عامًا وأسماها جويرية كان اسمها برة وصار اسمها جويرية، لأن النبي كره أن يقال خرج من عند برة ودخل عليها فقد كان عليه السلام لا يحب اسم برة تعرفون لماذا؟ لأنه يعتبر اسم برة فيه تزكية النفس على الله، والله تعالى يقول {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. ثمة سؤال هنا، كيف أتم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصداق؟ مع أنه وزع على أصحابه جميع الغنائم بما فيها الأسرى والسبايا، الواقع أن المسلمين سمعوا نبيهم الحبيب أعتق برة وتزوجها فعز عليهم أن يكون قوم زوجة نبيهم عبيدًا أرقاء، لم سيسببه هذا من جرحٍ لكرامتها وخدشٍ لعزتها فأقبلوا على من بأيديهم من أسرى بني المصطلق وأرسلوهم أحرارًا وهم يقولون أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة في معرض امتداحها لجويرية: "ما أعلم امرأةً أعظم منها بركةً على قومها"، هذه إحدى الروايات الواردة في كتب السيرة النبوية عن خبر السيدة جويرية، وهناك روايات أخرى لا مجال لتناولها الآن، هذه الروايات وإن اختلفت في مقدمتها عن هذه الرواية إلا أنها تتفق معها في النتيجة والخاتمة، وهي إطلاق المسلمين لسراح جميع الأسرى إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم وإكرامًا لزوجته التي أصبح اسمها أم المؤمنين جويرية بنت الحارث وهم يقولون أصهار رسول الله أفلا نكرمهم! ورد في بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تزوج جويرية قدم أبوها وهو لا يعلم بعد بزواجها، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن ابنتي لا يفدى مثلها فخل سبيلها، فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت، قال: بلى، فأتاها أبوها يسألها فقالت: اخترت الله ورسوله» (تهذيب التهذيب [12/407])، على كل حال فإن الذي تؤكد عليه جميع الروايات هو عودة بني المصطلق لأهلهم أحرارًا وقد أكرمهم الله بالإسلام بعدما رأوه فيه من تعاليم سامية وأخلاق عظيمة لم تعهدها الجزيرة العربية قبل هذا. يحلو لنا قبل أن نتصور السيدة جويرية أم المؤمنين وهي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن نعلق على أمرين: الأول: هو مباغتة النبي صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق في ديارهم، إذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس جيشٍ صغير لقتالهم لما بلغه خبر استعداد بني المصطلق لقتال المسلمين في المدينة، طبعًا لم يعلم بنو المصطلق بمسير النبي إليهم وفوجئوا به وهو يهاجمهم في عقر دارهم، والأمر الثاني: الذي سنتباحث فيه هو مسألة الأسرى الذين يسترقون ليصبحوا عبيدًا، أقول هناك اليوم من يصطاد بالماء العكر فيتهم الإسلام بأنه دين الإرهاب والاستعباد ولكن هؤلاء المتهمين كالنعامة تدفن رأسها بالمال فلا ترى الصياد فهل يعني أن الصياد لا يراها؟ وكذلك هؤلاء أغمضوا أعينهم عن رؤية الحق فهل يتغير الحق وينقلب إلى باطل بسبب تعاميهم عن رؤيته؟ أبدًا الحق يظل حقًا لا يتغير مهما قيل فيه ومهما افتري عليه. والحق أن بني المصطلق كانوا يبيتون الغدر ضد الإسلام كما رأينا ويعدون العدة للقضاء عليه فهل من العدالة أن يغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف عنهم و يتسامى عن قتالهم؟ وإذا فعل هذا ماذا ستكون النتيجة؟ ببساطة ستكون النتيجة أن يغزوا بنوا المصطلق المسلمين في عقر دارهم فيقتلوهم ويشردوهم وعندها لا تنفع حسرة ولا تفيد ندامة. من سمات القائد الحكيم أن يتدارك المصيبة قبل وقوعها ويرد العدوان قبل حصوله وخاصةً إذا تأكد من مؤشرات حصوله، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يغزو بني المصطلق إلا بعد أن تأكد من خلال عيونه الذين كان عليه الصلاة والسلام يبثهم، بأنهم كانوا جادين في حربهم وعدوانهم، هل يسمى هذا اعتداءً أو إرهابًا؟ طبعًا لا فجزاء سيئةٍ سيئة بمثلها. أما بالنسبة لمسألة الأسرى الذين يسترقون ليصبحوا عبيدًا فإن هناك اليوم من ينظر لمسألة العبودية والرقيق بمنظار القرن العشرين والواحد والعشرين حيث تحرم الآن القوانين والعهود الدولية الاسترقاق، وبناءٍ على هذا التحريم للاسترقاق يتهمون الإسلام أنه أجاز هذا النظام اللاإنساني وسكت عنه بل ومارسه أيضًا، هؤلاء ينسون أو يتناسون أن عليهم عند الحديث عن الرقيق في الإسلام أن يرجعوا إلى ما كانت عليه الدنيا قبل ألفٍ و خمسمائة سنةٍ تقريبًا، كان الاسترقاق في ذلك الوقت والاستعباد سائدًا في العالم كله كنتيجة حتمية للحروب ومخلفات الحروب وكان الاقتصاد آنذاك يعتمد في جزءٍ كبير منه على بيع الرقيق واستخدامهم، و قبل أن يأتي الإسلام كان الرقيق أمرًا شائعًا اعتياديًا ولم يكن للعبيد قبل الإسلام أي حقٍ من الحقوق المدنية، كان العبد بيد سيده كأنه آلة من الآلات التي يمتلكها وإذا حصل أن امتلك هذا العبد مالاً بهبةٍ أوهديةٍ أوعمل فإن هذا المال ينتقل من يده إلى يد سيده المالك بشكلٍ تلقائي. أقول إذن أسرى الحرب هم الرافد الأساسي لمسألة الرقيق، وعندما يتحدث القرآن الكريم عن الأسرى يخير المسلمين بشأنهم بين أمرين فيقول: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد:4]، المن هو إطلاق سراح الأسير بدون عوض والفداء إطلاق سراحه مقابل عوض مادي، المتأمل في هذه الآية الكريمة لا يجد فيها حضًا على استرقاق الأسرى بل يجد فيها حضًا على إطلاق سراحهم، واسترقاق المسلمين للأسرى كان يجري على مبدأ المعاملة بالمثل لم إعتاده العالم آنذاك وهو ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم القوانين والعهود الدولية السارية. ليس من المعقول أن يلغي النبي استرقاق أسرى أعداءه في الوقت الذي يسترق فيه الأعداء أسرى المسلمين ولذلك نرى النبي عليه الصلاة والسلام يطبق هذا القانون ثم يطبق بعده قاعدة إطلاق الأسرى مننًا أو فداءً أو غير ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة أوالحكمة، خلو آية الأسرى من الحض على الاسترقاق دليل واضح وصريح على أن الإسلام يسعى لتحرير العبيد وإلغاء الرق، لذلك نرى الآية تقول {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} لم نراها تذكر الاسترقاق، و لذلك وضع الإسلام أكثر من طريقة وأكثر من مناسبة حث فيها على فك الرقاب أي على إعتاق العبيد مثل كفارة كثير من الذنوب،عندنا مثلًا كفارة اليمين والظهار وكفارة الإفطار المتعمد في رمضان وكفارة القتل الخطأ. جعل الإسلام إعتاق العبيد في قمة هذه المكفرات كما وضع أنظمةً تؤدي إلى إلغاء الاسترقاق ومن هذه الأنظمة المكاتبة أي أن يشتري العبد نفسه من سيده ومنها أيضًا نظام أم الولد أي أن يحرر الولد أمه من الرق إذا حملت تلك الجارية من سيدها وولدت له فيولد الولد حرًا طبعًا ولكنه يحرر أمه من الرق بمجرد موت سيدها. إضافة إلى أن الإسلام حث دائمًا على إعتاق الرقيق بشكل عام مسلمين كانوا أو غير مسلمين وجعل هذا الإعتاق من أفضل القربات إلى الله تعالى، يقول تعالى في هذا {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} وفك رقبة أي إعتاق تلك الرقبة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبةً أعتق الله بكل عضوٍ منها عضوٌ من أعضائه من النار» (صحيح مسلم[1509]). نقول أليس هذا سعيًا بالطرق العلمية إلى تحرير الرقيق وإلغاء الرق، ولذلك نقول إن ما ذهبت إليه القوانين والعهود الدولية الحديثة من تحريم الاسترقاق وإلغاء العبودية يتفق مع مبادئ الإسلام ومع مقاصده الأساسية ولا يتناقض معها، بل وأكثر من هذا أقول إن الإسلام بموقفه من الرق و بدعوته المتكررة لإعتاق الرقيق هو الذي مهد الطريق أمام المنظمات الدولية المعاصرة لكي تتمكن من إلغاء العبودية بين الناس ولولا هدي الإسلام وجهود رجاله المخلصين عبر مئات السنين لم يكن لنا أن نعرف كيف سيكون شكل وشأن العالم اليوم. نعود إلى أم المؤمنين جويرية بنت الحارث وهي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتحت جنحه وعصمته خمس سنوات؛ عاشتها أم المؤمنين جويرية مع الزوج الكريم والرسول النبي وهي تستمتع بصحبته وتنهل من علمه قدر ما تستطيع، كان جل اهتمامها منصبًا على عبادة الله عز وجل فكانت تقطع نهارها صائمةً وذاكرةً لله تعالى وتقطع ليلها مصلية، كانت تستأنس بالله تعالى وتستغني به عن كل أنيس، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أحاديث على الرغم من أنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قرابة الثلاثين سنة، ويمكن أن نقول قلة رواية نساء النبي صلى الله عليه وسلم للأحاديث باستثناء طبعًا أم المؤمنين عائشة التي روت أكثر من ألفي حديث، نقول هذا أمرٌ مستغرب ولكن إذا ما عدنا إلى طبائع الناس ورأينا اختلاف اهتماماتهم وتنوع إمكانياتهم أمكننا أن ندرك سبب قلة رواية الكثير من صحابة النبي وصحابياته بما فيهن نسائه عليه الصلاة والسلام، بينما يتفرد البعض الآخر وهم قليل برواية عدد كبير منها، أضف إلى ذلك أنه ليس كل شخصٍ هو صالحٍ تقيٍ هو بالضرورة عالم أو فقيه أو متحدث فللعلم أهله الذين يمتازون بصفات قد لا يمتلكها الكثيرون غيرهم من أهل التقوى والصلاح. يحلو لنا هنا أن نقتبس من مرويات السيدة جويرية هذا الحديث يروي الإمام مسلم عن أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها أنها قالت: «أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسبح غدوةً ثم انطلق لحاجته ثم رجع قريبًا من نصف النهار وأنا أسبح، فقال: أما زلت قاعدة، قلت: نعم، فقال: ألا أعلمك كلمات لو عدلت بهن وزنتهن -أي تساوت معهن- سبحان الله عدد خلقه ثلاثة مرات، سبحان الله زنة عرشه ثلاثة مرات، سبحان الله رضاء نفسه ثلاث مرات، سبحان الله مداد كلماته ثلاث مرات» (صحيح ابن حبان[828])، هذا الحديث الشريف يدلنا على إرشادٍ هام هو ضرورة عدم التشدد ولو بالعبادة، هذا ما جادت به علينا روحانيات أم المؤمنين جويرية بنت الحارث ومن بركتها. لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر أمته إلى التوازن والوسطية في جميع الأمور بما فيها الأمور العبادية لتكون شطرًا أساسيًا في الحياة كلها، توفيت السيدة جويرية سنة خمسين هجرية وعمرها خمسةٌ وستون عامًا، رحم الله أم المؤمنين جويرية المتبتلة العابدة الصائمة القوامة فسلامٌ لك يا أمنا سلامٌ لك يا زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنك وأرضاك، ولك منا تحيةٌ عطرةٌ تبقى إلى يوم الدين.

انثى برائحة الورد
06-12-2021, 03:52 PM
صحابيات - أم سلمة هند بنت أمية

صحابيةٍ جليلة صبرت على المحن والأهوال في سبيل تمسكها بدينها وطاعتها لرسولها، صحابية بدأت حياتها امرأةً عادية وانتهى بها المطاف لأن تكون أمً للمؤمنين رجالهم ونسائهم إلى يوم الدين إنها السيدة أم سلمة هند بنت أبي أمية ماهي قصتها وكيف ولماذا اختارها النبي الكريم زوجةً له؟ سنتحدث اليوم عن صحابيةٍ جليلة صبرت على المحن والأهوال في سبيل تمسكها بدينها وطاعتها لرسولها، صحابية بدأت حياتها امرأةً عادية وانتهى بها المطاف لأن تكون أمًا للمؤمنين رجالهم ونسائهم إلى يوم الدين إنها السيدة أم سلمة هند بنت أبي أمية ماهي قصتها وكيف ولماذا اختارها النبي الكريم زوجةً له؟ أعود إلى الوراء قليلًا إلى زمنٍ كانت فيه أم سلمة جالسةً في بطحاء مكّة ترفع يديها بضراعةٍ وابتهال تدعو ربّ السماء، فكل يوم تأتي هند بنت أبي أمية ابن المغيرة المخزوميّة والملقّبة بأم سلمة إلى هذا المكان تعتكف فيه من الصباح وحتى المساء لا تبالي بحر الشمس ولا لهيب الرمال تبكي وتبكي وتشكو بثّها وحزنها إلى الله ترفع يديها وتقول بصوتٍ مرتجف: "ياالله ياغياث المستغيثين يا مجير المستجيرين يا أمان الخائفين فرّج كربتي يارب واجعل لي مع العسر يسرًا يا أرحم الراحمين". كانت أم سلمة تردد ياالله ياالله والشعور بالأمان والفرج القريب يتسرب إلى نفسها القلقة المضطربة فَيَهَبُها الثبات والطّمأنينة والسكينة. مابالها تردد بصرها تجاه المدينة المنورة تارة وصوب مكّة تارةً أخرى، كتب التاريخ والسيرة تخبرنا أن لها بمكّة ابنًا اسمه سلمة بينما زوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد هناك في المدينة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ابن عمّته وأخيه من الرضاعة من ثُويبة مولاة أبي لهب في اليوم الذي عزم فيه أبو سلمة على الهجرة إلى المدينة المنوّرة بعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على الهجرة إلى المدينة هربًا بدينهم وإيمانهم من إيذاءات قريش المتوالية، ركب أبو سلمة وزوجته على بعير ومعهما ابنهما سلمة، خرج أبو سلمة يقود بعيره خلسةً عن أعين قريش، عند انبلاج الصباح. وإن رجالًا من بني المغيرة أي من عشيرة أم سلمة لمحوهم فقاموا إليه وهم يصيحون بأبي سلمة قائلين: "نفسك غلبتنا عليها فعلامَ تصطحب معك صاحبتنا هذه وعلامَ نتركك تسير بها في البلاد!" ثمّ نزعوا خِطام البعير من يده وقادوه بعيدًا عن أبي سلمة وعلى ظهر البعير أم سلمة وابنها الطفل الصغير الذي لاحول له ولا قوة، عندما فشل أبو سلمة في إقناعهم بترك زوجته وابنه يهاجران معه لم يجد بُدّاً من الفرار وحده بدينه إلى الله إذ لا طاقة له بقتال القوم فولّ وجهه شطر يثرب ودموعه تكسو وجهه البائس وقلبه يهتف: "إلهي لقد استودعتك زوجتي وابني وأنت خير راحم وآمن مستودع"، توجه أبو سلمة نحو المدينة وحده وقلبه مملوءٌ ثقةً وإيمانًا بالله الذي توكّل عليه وأوكل له زوجته وابنه. أرادت أم سلمة أن تعود إلى دار أهلها وعشيرتها محزونة الفؤاد باكية العين لكن مشكلتها لم تنتهي عند تفريقها عن زوجها فهاهم أهل زوجها بنو عبد الأسد يهرعون إليها يريدون انتزاع ابنها سلمة من رعايتها، صاح أحدهم: "والله لا نترك ابننا عندها". لكن أم سلمة تمسّكت بابنها ضمّته إلى صدرها فجذبه منها قوم زوجها وتجاذبت أم سلمة ورهط أبي سلمة الغلام حتى كانت الغلبة لرهط أبي سلمة فانتزعوه منها بعد أن خُلِعت يده. بقيت أم سلمة عامًا كاملًا تتلوّى بين شوق الأمومة وحنانها وبين لوعة فراق الأحبّة الثلاثة الولد الغالي والزوج الحبيب والنبي العظيم. رغم صعوبة الأيام وبطء سيرها إلّا أن الفرج يأتي بأمر الله وتقديره فبعد سنةٍ من العسر الطويل الشاق جاء اليسر المنتظر فقد رقّق الله تعالى قلب قومها بني الغيرة فقال أحدهم: "ألا ترحمون هذه المسكينة فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها"، الحمد لله لاقت هذه النصيحة آذانٌ صاغية لديهم فقالوا لها: "ألحقيه بزوجك إن شئتِ" ردوا عليها بعيرها وأيضًا رد قوم أبي سلمة ابنها إليها فركبت هي وابنها يجدان السير باتجاه المدينة دون معين ولا معيل ولاصاحب ولا أنيس إلا الله تعالى سبحانه أنيسًا ومعيلًا. كانت الفرحة فرحة الفرج وفرحة اللقاء المرتقب تملأ قلبها، لم تكن المسافة الشاقة الطويلة بين مكة والمدينة والتي كان عليها أن تقطعها بمفردها هي وابنها بالتي تفسد على أم سلمة فرحتها رغم مخاطر السفر ومخاوف السفر، لعل أم سلمة تذكرت وهي تودع مكة وبيت الله الحرام، اليوم الذي هاجرت فيه إلى الحبشة بناء على نصيحة النبي عليه الصلاة والسلام بصحبة بضعة عشر رجلًا من المسلمين ومعهم أربع نسوة، لعلها تذكرت أيضًا عودتها إلى مكة من الحبشة برفقة زوجها وابنها سلمة الذي أنجبته هناك عندما وصلتهم الأخبار الزائفة تنبئهم بإسلام مكّة يومها، لم يستطع أحد من هؤلاء أن يدخل مكة إلّا تحت جوار أحد ساداتها أو متخفيًا تحت جنح الظلام والكتمان، يومها دخلت أم سلمة وزوجها وابنهما في جوار أبي طالب عمّ الرسول عليه الصلاة والسلام، ظلّ المسلمون في مكّة يعانون صنوف الأذى وألوان العذاب إلى أن أذن الله تعالى لرسوله والمسلمين بالهجرة إلى يثرب دار الأمن والإيمان وشوق أم سلمة إليها، بعد أيام ستصل إليها بإذن الله وستحظى برؤية الزوج الحبيب وبرؤية النبي الكريم الّذين طال الشوق لرؤيتهما واكتوى القلب لهفةً إليهما. لاحت لأم سلمة ولإبنها معالم التنعيم من بعيد إنها على وشك أن تبتعد عن مكة المكرمة إذن، ومع ذلك تسير مبتهجةً مسرورة لا تشعر بخوف رغم خيوط الليل التي تستعد لتغطّي الدنيا بسوادها الحالك، كان قلبها المملوء إيمانًا ويقينًا وشوقًا وحنينًا أكبر من القلق ومن الخوف. قبل أن تغادر أم سلمة حدود التنعيم لقيها أحد وجهاء مكة وساداتها عثمان بن طلحة، استغرب من سفرها وحدها فسألها: "إلى أين يا بنت أبي أمية؟" فقالت: "أريد زوجي في المدينة"، سألها: "فهل معكِ أحد؟" أجابت: "لا والله إلا الله وابني هذا" عندها أخذته الحمية وكان لا يزال كما ذكرنا مشركًا فانطلق يقود بعيرها أيامَ ولياليَ حتى أوصلها إلى المدينة، طبعًا هذا موقف شهامة ونخوة من رجلٍ مشرك -بتنا اليوم نفتقده من كثيرٍ من الناس الذين لم يبقَ فيهم من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه-. دخلت أم سلمة وابنها قباء استقبلهم أهل قباء بالترحاب حتى قبل أن يعرفوا من هما، يكفي أنهما مهاجران في سبيل الله قطعا الفيافي هربًا بدينهما من الفتنة والإيذاء، لا تسَلْ عن فرحة الزوجين باللقاء فذلك أمرٌ يفوق الوصف والخيال. ما أريد قوله هنا هذا ما فعلته الصحابية الجليلة أم سلمة تلك الصادقة المخلصة التي عانت ماعنته في هجرتها امتثالاً لأمر الله تعالى وطلبًا لرضائه. السؤال ماذا فعلنا نحن؟ هل هاجرنا في سبيل الله ولو لمرةٍ واحدةٍ في عمرنا؟ لربّ قائلٍ يقول قد انتهى عهد الهجرة وولّى منذ أن فتحت مكّة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاهجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية» (صحيح البخاري[2825])، لهذا القائل أقول: المقصود بهذا الحديث أن الهجرة من مكة إلى المدينة لم تعد مفروضة بعد الفتح لأن مكة بذاتها صارت دار إسلام أما هجرة المعاصي وبلد المعصية التي لا يستطيع المسلم أن يمارس فيها شعائر إسلامه بحريةٍ فيها فذلك فرضٌ واجبٌ باقٍ إلى قيام الساعة، وإذا كنا نتحدث اليوم عن هجرة أم سلمة فإن أم سلمة لم تنفرد وحدها بشرف الهجرة فجميع الصحابة من أهل مكة هاجروا إلى يثرب دار الإسلام والتي سميت فيما بعد بالمدينة المنورة. حقًّا إنه لجهاد وأي جهاد، تركوا المال والوطن والأهل والدور والأمتعة تركوا كلّ ذلك في سبيل الله، في سبيل أن يسلم دينهم وإيمانهم وعقيدتهم كل شيءٍ دون ذلك هيّن وسهلٌ ومحتمل، نعم أخي المؤمن وأختي المؤمنة إنه والله لبيعٌ رابح فهلّا بعنا أنفسنا لله تعالى لنربح جزاء الدنيا والآخرة. هلّا هجرنا المعاصي وجاهدنا أنفسنا في عمل الصالحات، قد يستصعب أحدٌ أن يهجر فراشه ليلًا لأداء صلاة الليل أو صلاة الفجر يستصعب أن يهجر بيته إلى المسجد لحضور مجالس العلم والذكر إن أحدنا لَيجبُن على العدو أن يقاتله وعن المال أن ينفقه وعن البصر أن يغضّه وعن الحرام أن يجتنبه ثمّ بعد ذلك يرجو أن ينال ثواب العابدين المهاجرين المجاهدين، لله درّ الشاعر حين قال: تضع الذنوب على الذنوب وترتجي *** درج الجنان وطيب عيش العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدمًا *** منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ الحقيقة أن للهجرة ثوابًا لا يحصله إلا من يهاجر في سبيل الله حسب المفهوم الواسع للهجرة لاهجرة المكان فقط بل هجرة المعاصي والآثام، يقول الله تعالى في ثواب المهاجرين: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:9]. في يثرب التي سميت بعد هجرة النبي إليها والصحابة بالمدينة المنورة جمع الله تعالى شمل أم سلمة بعائلتها وهناك أنجبت أم سلمة ثلاث أولاد في غضون أربع سنوات عمر وزينب ودرّة وعملت على تربيتهم مع أخيهم سلمة تربيةً صالحة زرعت فيهم حبّ الله وحبّ رسوله، كانت أم سلمة شديدة الحرص على مجالس العلم التي كانت تعقد في المسجد النبوي بينما تفرغ زوجها أبو سلمة للجهاد في سبيل الله تعالى فشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوتي بدرٍ وأُحد وأصيب في غزوة أحد في سهمٍ في عضده مكث بعد ذلك يداويه مدّةً طويلة حتّى ظنّ أنه التأم، في السنة الرابعة للهجرة عقد النبي عليه الصلاة والسلام لواءً على سريّةٍ لبني أسد وذلك عندما بلغ النبي أنهم عازمون على محاربته في دار هجرته، كان النصر حليف المسلمين في تلك السرية وفرح المسلمون بنصر الله وتهيّأت زوجات المجاهدين لاستقبالهم خفق قلب أم سلمة فرحًا بالنصر وطربًا بلقاء الحبيب المجاهد ولكن فرحتها لم تدم طويلًا فقد جاء زوجها متّكئًا على اثنين من رفاقه وقد لفّت عضده بخرقةٍ ينفر منها الدم كان جرحه الذي أصابه يوم أحد قد انفضّ من جديد لم تستطع الجهود المبذولة إيقاف الدم النازف وأخلد أبو سلمة إلى فراشه وقامت أم سلمة بتمريضه، لم يغمض لها جفن ولم يرقأ لها دمع. كان شبح الموت يؤرّقها لم يكن قلبها يحتمل فكرة أن يفارقها زوجها الحبيب إلى غير رجعة، أفكار كثيرة كانت تشغل بال أم سلمة لم تكن أم سلمة تتصور نفسها في كنف زوج آخر ولذلك آلت على نفسها أن تعرض عن الأزواج بعد أبي سلمة ففي رأيها لا رجل على وجه الأرض يوازي أبا سلمة في أخلاقه وفي محبته. يروي ابن سعد في طبقاته أن أم سلمة أرادت أن تعاهد زوجها على أن لا تتزوج بعده طمعًا في أن يكون هو وحده زوجها في الجنة فسألها الزوج الرفيق: "أتطيعينني يا أم سلمة؟" فقالت: "نعم"، قال: "فإذا متُّ فتزوجي" ثمّ رفع يديه إلى السماء ودعا: "اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلًا خيرًا مني لايحزنها ولايؤذيها"، لم تطل الحياة بأبي سلمة فما هي إلا مدةٌ وجيزةٌ حتى وافته المنية وانتقل إلى خير جوار؛ جوار ربه الرحمن وحسن مقامًا ومستقرًا، وقعت تلك المصيبة على أم سلمة موقعًا عظيمًا حسّت بالدنيا تضيق عليها مارحُبت، شعرت بسهام الألم والحسرة تصيبها في الصميم، قفز إلى ذهنها حديث النبي صلى الله عليه وسلم «ما من عبدٍ يُصابُ بمصيبةٍ فيَفزعُ إلى ما أمرهُ الله بهِ من قول إنّا لله وإنّا إليه راجعون, اللهم أجُرني في مصيبتي وعوّضني خيراً منها إلّا آجره الله في مصيبته وعوّضه خيرًا منها» (صحيح ابن ماجه [1309])، أحسّت أم سلمة ببرودة الإيمان واليقين بوعد الله فتوجهت نحو القبلة ورفعت يديها الواهنتين وردّدت: "إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وعوّضني خيرًا منها"، ومع ثقتها بوعد الله وبكلام النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن نفسها العاشقة لأبي سلمة جعلتها تردد في سرّها وأنّ أُعاضُ خيرًا من أبي سلمة ولكني أرجو أن يكون الله قد آجرني في مصيبتي. صبرت أم سلمة على فراق الحبيب ووجدت في استسلامها لأمر الله ورضاها بقدره خير بلسمٍ وأفضل شفاء لقد زادت تلك المصيبة في عزم أم سلمة جرّاء صبرها واحتسابها لمصيبتها عند الله، أما أجرها الثاني فكان بعد أن انقضت عدتها وحين تهافت الخُطّاب على دارها وهي المرأة الأرملة ذات الأربعة أولاد كان من خطابها أبو بكرٍ وعمر وكانت أم سلمة تردّ الخُطاب عنها برفق فقد كان أبو سلمة في نظرها خيرًا منهم جميعًا فكيف إذن تقبل بأن يحلّوا بديلًا عنه لكن لكل آتٍ قريب، جاء اليوم الذي تحقق فيه دعاء أبي سلمة: "اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلًا خيرًا مني لا يحزنها ولا يؤذيها". فقد أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخطبها لنفسه وعقدت الدهشة لسانها حقًّا إن رسول الله خيرٌ من أبي سلمة فأنّ لها إذن أن ترفض زوجًا تتىمناه كل مسلمةٍ على وجه الأرض تذكرت أم سلمة في تلك الحظة الدعاء الذي توجهت به إلى ربّها بناءً على تعاليم الرسول الكريم: "اللهم أجُرني في مصيبتي وعوضني خيرًا منها" تذكرت أيضًا ما رددته في سرّها آن ذاك وأنّ أُعاض خيرًا من أبي سلمة وفاض جبينها خجلًا من الله تعالى. هذا درسٌ جديد من دروس العبر والعظات تتحفنا به أم سلمة هند بنت أبي أمية أمنا أم المؤمنين -جعلنا الله منهم أجمعين- درسٌ لكل مصابٍ مبتلى بفقد حبيبٍ غالٍ ليدعو ربه بهذا الدعاء لابدّ أن يتحقق وعد الله أن يؤجره في مصيبته وأن يخلفه خيرًا منها ولكن يبقى أن نقول للمؤمن المبتلى أخي المؤمن قد يعوضك الله في الدنيا وفي الآخرة وقد يعوضك فقط في الآخرة جناتٍ عرضها السموات والأرض أعدّت للصابرين فهو القائل عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وفي كلٍّ من الجزاءين خير ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع. نعود إلى أم سلمة ماذا كانت ردة فعلها أمام هذه المفاجأة الحقيقة أنها رغم فرحها بهذا العرض غير المتوقع طبعًا فقد كان يصدّها عن قبوله إشفاقها على النبي عليه الصلاة والسلام فهي امرأةً تجاوزت سن الشباب تكاد تقارب الأربعين من العمر معها أربعة عيالٍ صغار وهي فوق هذا امرأةٌ غيورة لابد من طرح هذه النقاط على بساط البحث السريع، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره بهذه الصفات فقال لها عليه الصلاة والسلام: «أما أنّكِ مسنة فأنا أسنّ منك وأما الغيرة فيذهبها الله عنكِ وأما العيال فإلى الله ورسوله» لم يبقى لها في هذه الحالة إلا أن توافق أو ترفض فوافقت والفرحة تغمرها. تمّ الزواج المبارك عام أربعةٍ للهجرة وانتقلت أم سلمة هي وأولادها الأربعة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبقها إليه سودة بنت زمعة ثمّ عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق ثمّ حفصة بنت عمر ثم زينب بنت خُزيمة وكانت هي الخامسة في ترتيب زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم طبعًا إذا استثنينا أم المؤمنين خديجة التي لم يضم النبي عليه الصلاة والسلام زوجة أخرى حتى توفّيت. يحلو لنا هنا أن نتساءل كيف كان موقف الضرائر من هذا الزواج وخصوصًا عائشة وحفصة، طبيعة المرأة تجعلنا نؤكّد أنّهنّ لم يكنّ مسرورات، تروي كتب السيرة شيئًا عن حزن عائشة وامتعاضها من هذا الزواج لكنّ أمّ سلمة كانت حيادية مع نساء النبي اللواتي سبقنها واللواتي جئن بعدها لم ينقل عنها أي موقفٍ يدل على غيرتها من ضرائرها رغم أنها امرأةٌ غيورةٌ كما وصفت نفسها إلا أن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لها بأن يُذهب الله غيرتها قد تحققت فعاشت بين باقي ضرائرها لاتشغر تجاههنّ إلا بهناءة السريرة وصفائها، كانت حياتها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم حياة الزوجة الصالحة التقية المخلصة المطيعة، الأمر الذي كرّس لها مكانةً مرموقة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام. وقد ساندت السماء أيضًا أم سلمة فشاركت أم سلمة مع عائشة في شرف نزول الوحي على النبي وهو في بيتها بعد أن كانت عائشة تنفرد بتلك الميزة وتتباهى بها على ضرائرها، من هذا آياتٌ هامّة من سورة الأحزاب بدأت بقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيْ} ووصلت إلى قوله تعالى: {إنَّمَا يُريدُ االلهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرَا} [الأحزاب:32-33]، مما يعني أن أمهات المؤمنين نساء النبي هنّ أهل بيته المقصودون في هذه الآية الكريمة وهو معنى كثيرًا ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكّده لأم سلمة حين يصفها بأنها من آل البيت رضوان الله على آل البيت أجمعين وعلى الصحابة الأكرمين وعلى من تبع هديَ النبي إلى يوم الدين. أما أولاد أم سلمة فقد تربّوا جميعهم في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يعتني بهم ويوليهم اهتمامه فهم أولاد زوجته أولًا وأولاد أخيه من الرضاعة ثانيًا ومسلمون من أمته ثالثًا، يروي كُتّاب السيرة كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب زينب بنت أم سلمة ويقول لها يا زُوَيْنِب ويمضح الماء في وجهها مداعبًا حتى إن أثر ذلك الماء زيّن وجهها بنضارة الشباب حتى كبُرت وعجّزت. يحلو لنا هنا أن نذكر أمرًا هامًا، كان لأم سلمة شرف مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم في غزواتٍ كثيرة منها غزوة خيْبَر وفتح مكة وفي غزوة هوازٍ وثقيف و صحبته أخيرًا في حجّة الوداع ولكن في صحبتها له في صلح الحُدَيبية وقعًا خاصًّا سجلها لها التاريخ؛ يوم دعمٍ ونجاةٍ وخلاصٍ للمسلمين - معظم الأخوة- يذكرون أن قريشًا منعت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من أداء العمرة بعد أن وصلوا إلى حدود الحديبية محرمين بالعمرة وقّع النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش عقد صلحٍ من ضمن شروطه أن لا يعتمر المسلمون ذلك العام بل يؤجّلون العمرة للعام المقبل، وقّع النبي عليه الصلاة والسلام عقد الصلح هذا وهو يرى بعين حكمته ونور بصيرته في ثنايا هذا الصلح نصرًا مؤزّراً للمسلمين ولأن الصحابة رضوان الله عنهم كانوا توّاقين للطواف بالبيت الحرام وللسعي بين الصفا والمروة كانوا ينظرون من هذه الزاوية فيرون أنه يمنعهم من تحقيق مايصبون إليه وكان من الطبيعي إذن أن يروا غير ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام وأكثر من هذا فلقد رآى بعضهم في ذلك الصلح خَزيًا ومهانةً وإذلالًا للمسلمين حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بأن يتحللوا من الإحرام فينحروا إبِلهم ويحلقوا رؤوسهم لم يتحرّك منهم أحد رغم تكرار النبي عليه الصلاة والسلام لذلك ثلاث مرات لم يستوعبوا أن يتحللوا من إحرام العمرة دون أن يؤدّوها، كيف سيعودون إلى المدينة مكسوري الخاطر بعد أن منعتهم قريش من دخول مكّة؟! دخل النبي عليه الصلاة والسلام خيمته مغمضًا مهمومًا وهو يقول هلك المسلمون يا أم سلمة أمرتهم فأعرضوا ولم يستجيبوا، عند هذه اللحظة الحساسة الحرجة في تاريخ الدعوة الإسلامية الفتية، برز ماتملكه أم سلمة من عقلٍ راجح ومشورةٍ صائبة وحكمةٍ نافذة فقالت مواسية: "اعذرهم يارسول الله" ثم أردفت: "أتحب أن يفعلوا ما أمرتهم؟" قال: «نعم يا أم سلمة» فقالت: "اخرج إليهم ولاتكلم أحدًا منهم حتى تنحر إبلك وتدعو حالقك فيحلق لك"، استصوب النبي عليه الصلاة والسلام هذا الرأي الوجيه فخرج ولم يكلّم أحدًا، نحر ناقته ودعا حالقه فحلق له فلما رآى ذلك الصحابة قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق شعر بعض حتى كاد بعضهم أن يؤذي أخاه وهو يحلق له غمًا وهمًا. هنا تبرز مسألةٌ هامة هي إعجاب النبي عليه الصلاة والسلام بمشورة أم سلمة واستجابته لهذه المشورة واستجابته لها أيضًا وهو رسول الله وهي إمرأة. كانت نظرة المجتمع الجاهلي إلى المرأة في غالب الأحيان على أنها متاعٌ موروث أو أدنى من المتاع لكن نظرة الإسلام ونبي الإسلام إليها لم تكن كذلك، لم يقل النبي لأم سلمة أتشورين عليّ وأنا رسول الله، لم يقل لها أنا الذكر وأنتِ الأنثى وعلى الذكر أن يأمر وعلى الأنثى أن تطيع، لم يقل كما يزعم بعض الناس شاورهنّ وخالفهنّ، فهاهو ذا عليه الصلاة والسلام يشاور زوجته ويتبنّى رأيها لما وجد فيه من الحكمة والصواب، كيف يقول هذا والدين الذي أتى به يرفع المرأة إلى درجة المساواة مع الرجال، كان النبي عليه الصلاة والسلام مافتئ يعلم أصحابه إنما النساء شقائق الرجال وهذه القصة التي ذكرناها عن مشورته لأم سلمة هي خير برهانٍ على أن للمرأة في الإسلام دورًا لا يقل عن دور الرجال، هي أيضًا دليلٌ على أن شاورهنّ وخالفهنّ كلامٌ لا أصل له في الإسلام بل هو من اختراع مخترعٍ ما في عصرٍ ما، ظنّه الناس لشهرته حديثًا نبويًّا ولكنه ليس بحديث. إلى جانب هذا كله كانت أم سلمة عالمة وفقيهة وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها ويستفتونها في كثير من الأمور، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمئةٍ وسبعةً وثمانين حديثًا، توفيّت أم سلمة هند بنت أبي أمية سنة إحدى وستين من الهجرة عن عمرٍ يناهز التسعين عامًا وهي آخر من مات من أمهات المؤمنين رضوان الله عنهم أجمعين. هذه هي أم سلمة أم المؤمنين المناضلة المجاهدة في سبيل الله، فسلامٌ عليكِ يا أمنا يا أم المؤمنين وتحيّةٌ مفعّمةٌ بعبير الحبّ وعبق الاحترام والتقدير.

انثى برائحة الورد
06-12-2021, 03:52 PM
صحابيات : حفصة بنت عمر

من هي تلك الزوجة التي استحقّت أن ينزل جبريل لتزكيتها بأمرٍ من ربّ العزّة تبارك وتعالى ويشهد لها شهادة تظلّ على مدى الأيام مفخرة الدنيا وسعادة الآخرة، من تلكُم الصوّامة القوامة التي حازت الشرف في أن تكون زوجةً للنبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة. حديثنا اليوم سيكون عن زوجةٍ من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام وصفها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إنّها صوّامةٌ قوامة وإنّها زوجتك في الجنة. من هي تلك الزوجة التي استحقّت أن ينزل جبريل لتزكيتها بأمرٍ من ربّ العزّة تبارك وتعالى ويشهد لها شهادة تظلّ على مدى الأيام مفخرة الدنيا وسعادة الآخرة، من تلك الصوّامة القوامة التي حازت الشرف في أن تكون زوجةً للنبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة؟!، لعلّكم عرفتم من هي إنها أمّ المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، وُلِدت قبل البعثة بخمس سنوات نشأت في بيت يعج بالإيمان والتقى والصلاح والدها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمها الصحابية زينب بنت مصعون ابن الصحابي الجليل عثمان بن مصعون رضي الله عنهما. تزوجت السيدة حفصة من الصحابي خُنَيس بن حذافة السهمي أحد السابقين إلى الإسلام وأحد المهاجرين إلى الحبشة وقد عاد مع من عادوا عندما سمع الخبر المزعوم عن إسلام قريش، كان زواج خنيس من حفصة بعد عودته من الحبشة، مكثت حفصة عند خنيس سنوات عديدة وهاجرت معه إلى المدينة المنورة لما أذن الله ورسوله بالهجرة. مع أن حفصة لم ترزق بولدٍ من زوجها خنيس إلّا أنها كانت صابرةً محتسبةً فالله في خلقه شؤون {وَعَسَىظ° أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ غ– وَعَسَىظ° أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة:216]، عكفت حفصة على تعلم العلم والأدب فتعلمت القراءة والكتابة على يد الصحابية الجليلة شفاء العدوية وكانت حفصة إحدى فصيحات قريش وبليغاتها. في سنة ثلاث للهجرة وبالتحديد بعد غزوة أحد على الأرجح وقيل بعد غزوة بدر استشهد زوجها خنيس إثر جراحات أصابته في تلك الغزوة وعانت حفصة مرارة الترمّل وفقد الحبيب الأنيس، طبعًا تأثر عمر بن الخطّاب والدها لمّا رآى ابنته الشابة ذات العشرين عامًا تعاني من الوحدة والترمّل، أحزنه أن يراها باكية متألّمة فبدى له بعد تفكيرٍ طويل أن يختار لها زوجًا يؤنس وحدتها ويزيل وحشتها. كان ذلك طبعًا بعد فترةٍ بسيطةٍ من انتهاء عدّتها، وقع اختياره أول ما وقع على صديقه وأخيه في الله أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه فإنّ أبا بكر في رزانة كهولته وسماحة خُلُقه كفيل بأن يتحمل من حفصة ما ورثته عن أبيها من شدة الغيرة وصرامة الطبع. فعلًا سعى الوالد الشغوف عمر إلى صديقه أبي بكر يعرض عليه الزواج من حفصة، استمع أبو بكرٍ رضي الله عنه إلى عمر في عطفٍ ومواساة ولكنّه لم يُجبه بشيء بخصوص زواجه من حفصة، أحسّ عمر بشرخٍ في كرامته أمام ردّة فعل أبي بكر، أيعقلُ أن يردّه أبو بكر خائبًا وهو الّذي جرّأ ما جرّأه على أن يعرض ابنته على أبو بكر إلا أمران: أولهما أن ابنته شابة مؤمنة تملك مقومات الزوجه الناجحة، والأمر الثاني أنه يحبّ أبا بكرٍ ويرغب في مصاهرته، ورغم استياء عمر من أبي بكر لكنه استطاع أن يهدّئ من غضب نفسه حين تذكّر قول الله تعالى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]، علّل عمر نفسه بأنّ أبا بكرٍ ربما لا يصلح لها زوجًا والخير فيما يختاره الله فلا بأس أن يبحث لها عن زوجٍ آخر، فكّر مليًّا واهتدى إلى زوجٍ ممتاز إنه عثمان بن عفّان رضي الله عنه فقد تُوفيّت أيضًا زوجته رُقيّة بنت النبي عليه الصلاة والسلام إثر حصبةٍ ألمّت بها، إذن لا شكّ أن ألم عثمان هو نفس ألم ابنته وعلى الأرجح أيضًا أن عثمان سوف يرحبّ بهذا الزواج خصوصًا وأنّه يعلم كم يحبّه عثمان ويحترمه، تقدّم الوالد العطوف عمر من عثمان وعرض عليه الأمر ولكنّ عثمان استمهله أيامًا جاءه بعدها وهو يقول: لاأريد أن أتزوج اليوم. شقّ على عمر أن يلقاه كلّ من أبي بكرٍ وعثمان بهذا الرد القاسي وهو صاحبهما ورفيقهما وهاجت به مشاعر الغضب وتألبّت عليه نفسه الجريحة، أمثل حفصة في شبابها وتقواها وشرفها من يُرْفَض وممّن؟ من أبي بكر وعثمان صاحبي الرسول عليه الصلاة والسلام وأولى المسلمين بأن يعرفا قدر عمر وأحقّ الصحابة بأن لا يردّا مثل مصاهرته أبدًا. قرّر عمر رضي الله عنه أن يشكوَ أمره للنبي عليه الصلاة والسلام وهناك بين يدي الرسول ألقى عمر بكلّ ما أزعجه وأقض مضجعه، ابتسم النبي الكريم وهو يقول: «يتزوج حفصة من هو خيرٌ من عثمان ويتزوج عثمان من هي خيرٌ من حفصة»، ذُهِل عمر أو كاد يذهل كأنّه فهم أن النبي صلى الله عليه وسلّم يريد أن يخطب حفصة، المسألة لا تُفهم إلا هكذا، نعم فرسول الله خيرٌ من عثمان وأمّ كلثوم بنت النبي خيرٌ من حفصة، أحسّ عمر بروحه وكرامته ترتدّ إليه من جديد وهروَل إلى ابنته حفصة مبشّرًا بالخاطب الجديد، لقيه أبو بكر وهو في طريقه إلى حفصة وأدرك من سرور وجهه ولهفة مشيته أنّ النبي عليه الصلاة والسلام فاتحه بموضوع الخطبة فمدّ يده إلى عمر وهو يقول: "لا تجد عليّ يا عمر -أي لا تغضب- فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة ولم أكن لأفشي سرّ رسول الله ولو تركها لتزوجتها" وكذلك قال له عثمان هذا لا يهم عمر الآن فرسول الله صهرهُ زوجُ ابنته فيا للشرف ويا للكرامة. وتمّ الزواج المبارك بين النبي صلى الله عليه وسلّم وبين حفصة بنت عمر على صداقٍ قدره بساط ووسادتان وكساء يفترشانه في الصيف والشتاء ورداءان أخضران. لنا هنا وقفةُ تأمّل نتحدّث فيها عن أمرين أوّل هذين الأمرين عرضُ عمر رضي الله عنه ابنته على من رضي خُلُقه ودينه وتوسّم فيه الخير والصلاح والحفظ والصون، في هذا السلوك العُمَريّ الرفيع إشارةٌ جميلةٌ اليوم إلى كلّ والد أن ليس عليك حرج في أن تعرض ابنتك على من ترتضي دينه وخُلُقه وأمانته ولا عيب ولا عار ولا مخجلة فلك في عمر بن الخطّاب أُسوةٌ حسنة بل لك أُسوةٌ حسنةٌ في نبيّ الله شعيب عليه السلام حين قال لموسى عليه السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، فليس في هذا ما يقلّل من شأنك أيها الوالد أو من شأن ابنتك وليس فيه مايهين أو يَشين. الذي دعاني إلى هذا أنّ هناك اليوم من الآباء من يستهجن هذا ويعتبره عيبًا وعارًا ولو أدّى الامتناع منه إلى عنوسة ابنته وإلى حرمانها من الزواج، الحقيقة أنّ عرض الوالد لابنته على الخطّاب يجب أن تتوفّر فيه بعض الشروط حتّى لا يؤدّي إلى عكس المطلوب، أول هذه الشروط أن يكون الرجل المعروض عليه من أهل التقى والصلاح والعقل والحكمة وممّن يقّدرون للوالد صنيعه ولا يتاجرون بهذا العرض، الأهم من هذا أن يكون مُراد الوالد من هذا العرض طلب العفّة بالحلال لا طلب الجاه أو المال لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من يستعفف يعفّه الله» (صحيح ابن حبان [3399]). النقطة الثانية التي أحبّ أن أتوقف عندها هو ذاك المهر البسيط الذي أمهره النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته حفصة بنت عمر والذي سيمهر مثيله لزوجته أم سلمة هند بنت أبي أميّة، الواقع هو أكثر مهرٍ أمهره النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه كان أربعين مثقالًا ذهبًا ومايساوي أربعمئة وثمانون درهمًا فضّة في ذلك الوقت، الأربعون مثقالًا ذهبًا تساوي اليوم بمقاييس اليوم وموازين اليوم مئة وسبعون غرام، إذن هذا كان أكثر مهر أمهره النبي عليه الصلاة والسلام لزوجاته أو قبله مهرًا لبناته. هذا يدلّنا على أهميّة التيسير بالمُهور ذلك أنّ القصد من تشريع المهر هو أن يُأخذ الأمر بالزواج على محمل الجِد ويكون المهر من الزوج عربون صدق تدلّ على رغبته في الاقتران ولذلك سمّاه الشّارع نِحلَة أي عطيّة وهِبة يقول تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، لكن ما يرتبط في أذهان الناس اليوم الكثير من الناس حول أهمية المهر وأن التيسير بالمهر يجرّ الزوج إلى أن يتهاون بالزوجة ولذلك نجد من من يُغالي من أولياء الأمور في مهورِ بناتِهنّ ومن منهنّ، وأن ذلك دليلٌ على أهميّة ابنتهم وأنه يحفظ لها كرامتها وهيبتها واحترامها في عيني زوجها، الحقيقة أن هذا مفهومٌ خاطئ. ذكر لي أحد معارفي ما جرى معه حين ذهب خاطبًا إحدى الفتيات يقول أثناء التشاور في قضية المهر قالت أخت العروس: إن أختي تساوي أكثر من المبلغ المذكور أي تساوي كذا وكذا طبعًا مبلغ المهر فأجابتها والدة العريس: إذا كانت أختكِ تساوي هذا المبلغ فإن ابني لا يساويه مال الدنيا كله. يُخيّل لسامع هذا الكلام أن الحديث يدور حول شقّة سكنية أو سيارة أو أرض زراعية لا يخطر في باله أبدًا، أن هذا التقييم المادي يخصّ العريس والعروس، للأسف هذه النظرة الماديّة المقزّزة المشوّهة لمفهوم المهر تقف في كثير الأحيان عائقًا أمام زواج الشباب بل والشابّات أيضًا، لذلك فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: «خير الصَداق أيسره» (صحيح الجامع [3279])، ولذلك أيضًا نراه يمهر زوجتيه حفصة وأم سلَمة مهرًا متواضعًا ليرشد إلى أن المهر ليس عمليّة بيع أو شراء وأنه لا علاقة له بمكانة المرأة الاجتماعية والماديّة بل الأمر يعود حالة الزوج وقدرته وقت الزواج. نعود إلى حفصة أمّ المؤمنين حفصة وقد أصبحت أمًّا للمؤمنين وزفّت إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام في السنة الثالثة من الهجرة وفي بيت النبي عليه الصلاة والسلام آنذاك عائشة وسودة رضي الله عنهما فكانت السيدة حفصة ثالثةُ النساء في ترتيب دخولها على بيت النبي عليه الصلاة والسلام، من الممكن أن نتصور أم المؤمنين حفصة وهي تدخل بيت النبي عليه الصلاة والسلام لأول مرّة و تطء قدمها عتبة الباب، لاشكّ أنّ قلبها كاد يطير فرحًا وطربًا، كيف لا!! وقد حظيت بخير البشر محمدٍ عليه الصلاة والسلام. كانت حفصة تحتل مكانة عالية في قلب زوجها النبي، تقول في هذا أم المؤمنين عائشة عن حفصة هي التي كانت تساميني -أي تباريني- من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، نعم ولم لا تساميها وهي ابنة أبوها عمر بن الخطاب وهي من هي في الذكاء وقوة الشخصية، عائشة نفسها كثيرًا ما تصف حفصة بأنها ابنة أبيها. بعد ذلك وفدت أم المؤمنين حفصة على بيت النبي عليه الصلاة والسلام وهي مملوءةٌ شوقًا وطموحًا ورغبة في تعلم كل ما تستطيعه من علوم الدين كان النبي صلى الله عليه وسلم يسرّه أن يرى من حفصة هذا الاهتمام ولذلك نراه يعهد إلى شفاء العدوية أن تكمل تعليمها وذكرنا أنها كانت قد بدأت في تعليمها قبل أن تتزوج. ربّما نستطيع هنا أن نتوقف قليلًا لِنلِجَ إلى قلب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فنرى كيف كان التعامل بين هذين الزوجين الرسول الكريم وزوجته الشابّة حفصة، نترك هنا الحديث لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليخبرنا عن ذلك قائلاً: "كنّا معاشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم". يقول عمر: "فطفق نساؤنا يأخذن من نساء الأنصار فسخطّتُ على امرأتي يومًا فراجعتني فأنكرتُ أن تراجعني فقالت: لِم تنكر أن أراجعك فوَاللهِ إنّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُراجِعنه وإن إحداهنّ لتهجره اليوم حتى الّليل". يقول عمر: "فأفزعني ذلك فقلت: خابت من فعلت ذلك مَنهُنّ". وشدّ عمر عليه ثيابه وذهب إلى ابنته حفصة فسألها: "يا حفصة أتغضب إحداكنّ من رسول الله وتهجرهُ اليوم حتى الّليل؟" فقالت: "نعم". إذن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومنهنّ حفصة كُنّ يجادلنهُ ويناقشنهُ في أمور معيشتهنّ اليومية وحياتهنّ الزوجية، طبعًا أمّا في أمور الوحي والتشريع فكُنّ يُدركنَ أنه نبيّهنّ ورسولهنّ وعليهنّ السمع والطاعة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمّل من نساءه ذلك طالما أنّه في حدود الشرع، لم يُروى عنه أنه قال لهنّ أتجادلنني وأنا رسول الله أو أنا الزوج القوّام الآمر الناهي، نعم كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع زوجاته برفقٍ ولينٍ وحلم، آخذًا بعين الاعتبار طبيعة الأنثى ذات العاطفة الجيّاشة. الحقيقة أن طريقة تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع زوجاته هي قدوةٌ لجميع الأزواج خصوصًا الذين يفهمون قِوامة الرجل على المرأة مفهومًا خاطئًا ويستعملونها استعمالًا مُتعسّفًا ولا يقبلون من زوجاتهم أيّ نقاشٍ أو جدال بحجّة أنّهم الرجال وأن على النساء السمع والطاعة، قوامة النبي صلى الله عليه وسلم على زوجاته بوصفه زوجًا، ونبيًا مشرعًا من جهةٍ أخرى تبين لنا أن مقام القوامة هو مقام إشراف ومقام رعاية ومقام اهتمام وإنفاق وليس مقام تعسّف واستبداد وتسلّط ومصادرة لرأي الزوجة وفرض لرأي الزوج. ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راضيًا بمجادلة زوجاته ودلالهنّ عليه في ذلك إلى أن يحلّ الّليل، إلّا أنّ عمر رضي الله عنه كان ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنظار الرسول النبي لا بمنظار الزوج الرسول، استهجن ذلك فهرع إلى ابنته حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم مستفسرًا عمّا أخبرته به والدتها فلمّا تأكّد من ذلك نصحها وزجرها قائلًا: "قد خبتِ وخسرتِ أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكين، لا تستكثري رسول الله ولا تراجعيه ولا تهجريه وسليني مابدا لكِ ولا يغرّنّكِ أن جارتكِ -أي عائشة- كانت جارتك هي أوضأُ منكِ وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولكن هل استجابت حفصة لنصائح والدها عمر، الأحداث التي جرت فيما بعد تؤكّد على مجادلة حفصة للرسول صلى عليه وسلم وعلى انسياقها وراء طبيعتها البشريّة ذات الغيرة الشديدة. دخلت حفصة بيت النّبي عليه الصّلاة والسّلام ولديه زوجتان سودة وعائشة، لم تكن أمّ المؤمنين سودة بنت زمعة بالتي تثير غيرة حفصة لأنّها لا تمتلك مقومات المنافسة حسب رأي حفصة، أمّا أمّ المؤمنين عائشة وهي مَن هي في قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم أدركت حفصة بذكائها وحنكتها أنها غير قادرةٍ على مجاراتها لذلك راحت تعمل على استمالة قلبها لما تعلمه من حبّ النبي صلى الله عليه وسلم لها واستطاعت فعلًا أن تستميلّ من عائشة بذور الغيرة منها بل وما إن مضى زمنٌ قصير حتى أصبحت الضرّتان عائشة وحفصة صديقتين حميمتين. ولكنّ انضمام زوجاتٍ أخريات إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان يثير غيرة أمّ المؤمنين حفصة وكانت تنساق في التعامل معهنّ لِجِبلّتها الغيورة التي تريد أن تستأثر بحب الزوج الرسول، من هذا مايروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمرّ على زوجاته جميعِهنّ قبل أن يبيت عند الّتي يكون دورها في تلك الّليلة، وكان إذا مرّ على زينب بنت جحش أطال المُكوث عندها وكان يشرب عندها عسلًا فأخذت الغيرة حفصة وعائشة فاتّفقتا أيّهما دخل عليها أولًا أن تقول له أكلتَ مغافير -والمغافير هو نبات ذو رائحة كريهة- فدخل على حفصة أولاً فسألته: "أكلت مغافير؟" فقال: «والله ما أكلت مغافير ولكنّي شربت عسلًا عند زينب». فقالت: "لعلّ ذلك النحل قد رعى العرفط". فقال النبي صلى الله عليه وسلم لن أشرب بعدها عسلًا عند زينب، وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن تُشمّ منه رائحةٌ كريهة، هرعت حفصة لتخبر عائشة بذلك وهي فرحةٌ مسرورةٌ بنجاح خطتها. من هذا أيضًا ما يروى أن حفصة ذهبت يومًا في زيارةٍ إلى بيت أبيها فجاءت ماريّة القبطيّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ماريّة هذه لم تكن زوجةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام بل جارية أهداها إليه المُقَوقِس ملك مصر اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسهِ ولذلك فإنها لم تكن تقيم في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم المطلّة على المسجد بل كانت تقيم في منزل لأحد الصحابة قريبًا من المسجد فلمّا جاءت مارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم أدخلها بيت حفصة وحفصةُ كما ذكرنا غائبةٌ عن البيت، عندما عادت أمّ المؤمنين حفصة إلى بيتها وجدت النبي عليه الصلاة والسلام مع مارية في بيتها فأغاظها هذا وأخذتها الغيرة وظلّت تبكي ذلك اليوم مقهورةً فرقّ قلب النبي صلى الله عليه وسلم وحاول استرضاءها وأسَرَّ لها أنّه حرّم ماريةَ على نفسه وأقسم لها على ذلك، عندها طاب عيش حفصة وهنأ قلبها وزالت غيرتها لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم طلب من حفصة أن تكتم السرّ الذي استودَعَهُ إيّاها في تحريمه مارية على نفسه، ولكن نفس حفصة الغيّرة والّتي تحب أن تُظهر لضرائرها كم يحبّها زوجها ويسارع إلى هواها أبت أن تكتم هذا السرّ، فكشفت عنه لضرّتها عائشة وهنا نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بآياتٍ من القرآن الكريم يعاتبه فيها ربّه على تحريم مارية على نفسه استرضاءً لزوجته حفصة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:1]، وأعلم الوحي النبي إفشاء حفصة للسرّ وتظاهر حفصة وعائشة على أمره فغضب عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا وكان لا يغضبُ إلّا إذا انتُهِكت محارم الله. منشأُ غضبه هذا سببان: أولهما: أنه اعتبر حفصة بغيرتها الشديدة أدّت به إلى تحريم مارية على نفسه في الوقت الذي أحلّها الله له، وإرضاء طرف لا ينبغي أن يكون على حساب أطرافٍ أخرى وقد أوجد الله تعالى لنبيّهِ حلّاً وهو التكفير عن يمينه التي حلفها على تحريم مارية على نفسه والرجوع عن هذا اليمين، أمّا السبب الثاني: الذي أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إفشاءُ حفصة للسّر وإفشاء السر هذا يؤذي طرفًا ثالثًا لا ذنب له، وهذا الطرف هو مارية ففي إفشاء هذا السر جرحٌ لكرامتها وامتهانٌ لها وهو أمرٌ لا يحبّه الله ولا رسوله وبالتالي فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر هذه الحادثة أمرًا يخرج عن إطار الغيرة العاديّة إلى غيرةٍ محظورةٍ تُنْتَهك فيها حُرمات الله، هنا لا بدّ من العلاج لايمكن أن يمرّ هذا الموضوع بيُسرٍ وسهولةٍ كما مرّت غيره من حوادث الغيرة المعتادة الطبيعيّة خصوصًا أن لِحفصة سوابق في هذا منها قصّة العسل الّتي ذكرناها. والسؤال هنا ماذا فعل الزوج الرقيق الّليّن السّمِح مع زوجته عندما زادت الغيرة عن حدّها الطبيعي المعتاد وبلغ السيل الذُّبى؟ الجواب مُخْتَلَفٌ فيه هناك روايات أخرجها أبو داوود والنسائي وابن ماجة وابن سعد وأيضًا أخرجها الحاكم بأسانيد بعضها ضعيفة وبعضها حسن هذه الروايات تفيد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة طلقةً واحدةً وأنّه راجعها بعد ذلك، وفي بعض هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم همّ بطلاقها فنزل عليه جبريل من السماء يقول له: (أرجِعْ حفصة فإنّها صوّامةٌ قوّامة، وإنّها زوجتك في الجنّة). طلاق النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة لا نجده مذكورًا في صحيحَيْ البخاري ومسلم رغم أن البخاري ومسلم أوردا قصة العسل وقصة مارية القبطية، بل إن الأحاديث المَرويّة في صحيح البخاري وملسم في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه عندما اجتمعن عليه في الغيرة وطالبنه بزيادة النفقة فاعتزلهُنّ شهرًا كاملًا ثمّ عاد إليهنّ بعد مُضي هذا الشهر، هذه الأحاديث تُصرّح بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُطلّق أيًّا من زوجاته رغم أنّه شاع بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم طلّقهن. نقتبس من هذه المرويّات ما يرويه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه أنّه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة اعتزاله لنسائه سأله: "أطلّقت نسائك يا رسول الله؟" قال: «لا». فسأله عمر: "أفأنزل فأخبر المسلمين أنّك لم تطلّق نسائك؟" قال: «نعم إن شئت». عند ذلك قام عمر وعلى باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلّق النبي نسائه، يرى بعض العلماء أن هذه الأحاديث الصحيحة لا تنفي وقوع الطلاق في غير تلك الحادثة أي في حادثة اعتزال نسائه كلّهم وأنّ حادثة طلاق حفصة كانت قبل اعتزال النّبي عليه الصلاة والسلام لِنسائه. وأنا وإن كنتُ أميل إلى أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق حفصة طلقة رجعيّة لكنّني سأتماشى مع الروايات الّتي تذكر أنه طلّقها وسأناقشها بناءً على ذلك. أقول إنّ طلاق حفصة على فرض حدوثه يدل بشريّة النبي صلى الله عليه وسلّم في حياته العائليّة الخاصّة وعلى أنّ لكل مرضٍ دواء ولكلّ خطأٍ عقوبة، في هذه الحادثة وإن صحّ حدوثها حِكمٌ لكلّ زوجين ففيها حثٌّ للزوج على تحمّل أخطاء زوجته ومحاولة معالجتها بعيدًا عن مظلّةِ الطّلاق لأنّ الطّلاق أبغض الحلال عند الله، فيها أيضًا دليلٌ على أنّ العلاقة بين الزوجين لا يستلزم على أن يكون أحد الطّرفين أو كلا الطرفين سيّئًا ظالمًا بل قد يكون مردّ ذلك إلى اختلاف الطبائع أو عدم الانتباه أو سوء التقدير أو الانجراف وراء بعض المشاعر أو ما إلى ذلك من أمور فأمّ المؤمنين حفصة هي بشهادة السماء قوّامةٌ صوّامة مقبولةٌ عند الله ولكنّه كان في طبعها شدّةٌ وغيرة وهذه الشدّة وهذه الغيرة سبّبت لها ولزوجها النّبي عليه الصّلاة والسّلام بعض المتاعب في بعض الأحيان، وفي هذا إرشادٌ لكل زوجين صالحَين تتخلّلُ حياتهما منغّصاتٌ ومعكّرات أن يصبرا وأن يتحمّلا وأن يحاول كل منهما أن يقترب من الآخر وأن يغيّر من طبائعه قدْرَ الإمكان ففي ذلك إن شاء الله إصلاح الحال ودوام العِشْرة واستمرار العِشْرة. النّبي عليه الصّلاة والسّلام يؤكّد على هذه المعاني حين يقول: «لا يَفْرك أي لا يبغض مؤمنٌ مؤمنة إن كرِهَ منها خُلُقًا رضي آخر» (غاية المرام [247]). نعود إلى أمّ المسلمين حفصة رضي الله عنها بعد هذه الحادثة المفصليّة في حياتها فنراها وقد استفادت منها فجاهدت غيرتها وليّنت من طبعها، لم يروى عنها منذ ذلك الحين أنّها تسبّبت للنّبي صلى الله عليه وسلّم بما يكرهه أو بما يزعجه، وبعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلّم غدت أمّ المؤمنين حفصة مرجعًا هامًّا عن حياته فكان الصحابة يسألونها ويستفتونها ويسمعون منها الأحاديث الشّريفة، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين حديثًا، توفّيت أمّ المؤمنين السيّدة حفصة بننت عمر رضي الله عنها في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة خمسة وأربعون وقيل سنة واحد وأربعون هجريّة، شيّعتها المدينة إلى مثواها في البقيع مع أمّهات المؤمنين رضي الله عنها وعنهنّ. رحم الله ابنة أبيها رحم الله الصوّامة القوّامة رحم الله زوجة النّبي عليه الصّلاة والسّلام في الجنّة، نستودعها الله على أمل اللقاء بها في جنّة الخلد ومأوى الكرام.

منصور
06-12-2021, 09:00 PM
ا الله يجزاك كل خير
وان شاء الله تكون في ميزان اعمالك
والله لايحرمك الأجر
يعطيك العافية
على جمال الطرح وقيمته

شايان
06-13-2021, 01:46 PM
بارك الله فيك
وجزاكي كل الخير
لاهمية الطرح وروعته

انثى برائحة الورد
06-13-2021, 02:49 PM
https://5aen.net/wp-content/uploads/2019/10/2481-4.gif

مديح ال قطب
06-13-2021, 08:22 PM
هلا وغلا
اخى الحبيب
نهيــــــــــــــــــــــــــــان
كل الشكر لك للمرور المميز
مرورك اسعد القلب
بحق متصفحى اضاء بوجودك المميز
لك منا
بتلات بنان
يسلمواااااااااااااااااااا

:111:
القيصر العاشق
البــــ مديح آل قطب ــــرنس

نهيان
06-14-2021, 01:26 AM
جزاك الله بخير الجزاء والجنه
بارك الله فيك ونفع بك
وجعله في ميزان حسناتك

انثى برائحة الورد
06-15-2021, 02:53 PM
بصماتكم في صفحاتي
دوما تترك اثر في نفسي
كما الورود برائحتها

ملاك الشوق
06-16-2021, 08:09 PM
https://2img.net/h/a.top4top.net/p_218e4j510.gif

انثى برائحة الورد
06-21-2021, 02:52 PM
سلمتم على مروركم الانيق
كل التقدير والشكر لكم (http://www.thanwya.com/vb/index.php)

ترانيم الشجن
06-22-2021, 03:58 PM
جزاك الله بكل الخير
وبارك فيك وجعله في ميزان حسناتك

حلوة الروح
06-26-2021, 07:04 PM
جزاك الله خير الجزاء
وجعله في ميزان حسناتك

انثى برائحة الورد
06-28-2021, 12:43 PM
https://cute1.cc/wp-content/uploads/2016/08/20160818-80.gif