مشاهدة النسخة كاملة : التصوير البياني في سورة الرعد (3)


نبراس القلم
11-15-2021, 10:47 PM
لما دل النظم البديع على أن الفكرة فيما فعلوا من اتخاذ الأصنام أولياء من دون الله - سبحانه - في الضلال المحض والخطأ البحت، بحيث لا يختفي بطلانه على أحد، أنهم في ذلك كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء أصلاً، وليس لهم في ذلك شبهة تصلح أن تكون منشأ لغلطهم وأخطائهم، فضلاً عن الحجة - أكد ذلك فقال: ï´؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ï´¾ [الرعد: 16] الآية[1]".
واكتمال المشهد العجيب في هذه الصورة العجيبة محاط بالأسئلة المتهمكة الموجهة إلى المشركين، "فما يجدر بالمشرك في مثل هذا الجو إلا التهكم، وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء، نعم، قل لهم يا محمد: ï´؟ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ï´¾ [الرعد: 16].
سَلْهم والقضية واضحة، فلا رب سوى الله، والفرق بين الحق والباطل واضح وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور، وإنما السؤال للتهكم المُرِّ اللاذع المعقب عليه بقوله - تعالى -: ï´؟ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ï´¾"، وهنا تحاط قضية الشركاء في هذه الصورة بسجود من في السموات والأرض وظلالهم طوعًا وكرهًا، كلهم في خضوع وانقياد، وفي ختام المشهد ذلك القهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض والسماء، وقد سبقته في السياق بروق ورعود، وصواعق وتسبيح، وخوف وطمع.. فأي قلب يصمد لهذا الهول، إلا أن يكون أعمى مطموسًا يعيش في الظلمات حتى يأخذه الهلاك[2]".
واستوفِ طريقة الأداء في تلك الصورة البيانية فستجد الألفاظ انتزعت وتخيرت من الواقع القريب، وجِئْ بها لرسم صورة حية عن الجهل والعلم والهدى والضلال، وكل لفظة في الصورة تشع بالمعنى المراد، وتبث في النفوس والمشاعر ما يحرك الضمائر - ويجعلها متيقظة تتأمل شخوص تلك المعاني عن إحساس فياض وإدراك لمعنى الجهل والعلم، والهدى والضلال، والكفر والإيمان.
"وتدرك الفرق بين الحق والباطل إدراك الفرق بين الأعمى والبصير، وفي ذكر الأعمى إشارة إلى الكفر وأهله، وفي ذكر البصير إشارة إلى العلم والإيمان وأهله؛ فالعمى وحده هو الذي يحجب الرؤية، كما يحجب عمى البصيرة رؤيةَ الحق المبين، ويصد عن التأمل فيه أنه يدرك أثره ويحس به كل من في السموات والأرض".
وراعِ تلك التقابلات الفنية العجيبة بين "طوعًا وكرهًا، والغدو والآصال، والأعمى والبصير، والظلمات والنور، ونفعًا وضرًّا، والسموات والأرض"، وافطن إلى أسلوب الاقتدار الذي تميز به أسلوب تلك الصور؛ فهناك: القصر والاختصاص في قوله: ï´؟ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ï´¾ [الرعد: 15]، وقد تستفيد هذا القصر من تقديم المعمول على العامل ï´؟ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ï´¾.
وهناك خروج الاستفهام عن حقيقته إلى معنى الإنكار في قوله: ï´؟ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ï´¾ [الرعد: 16]، وهو من باب الاستعارة التبعية في الحروف القائمة على أساس تشبيه الشيء المعلوم الوقوع الذي ينكره العقل السليم على فاعله بالمجهول الذي يستفهم عنه عادة؛ أي هو لنكارته جدير بألا يقع في تصور الإنسان أنه موجود أو يمكن وجوده؛ ولذلك يصح أن يستفهم عن وجوده، والغرض الإنكار على فاعله أو المتصف به.
وهناك في قوله - تعالى -: ï´؟ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ï´¾، وهذا التشبيه الغرض منه مجرد المماثلة.
وافطن إلى براعة الإيجاز أولاً بحذف جزء الجملة في قوله - تعالى -: ï´؟ قُلِ اللَّهُ ï´¾؛ أي: هو الله، أو الله رب السموات والأرض.
وثانيًا: بطي كلام يمكن العلم به من ترتيب الأمور بعضها على بعض، ومنه ما يجيب به المشركون عند سؤالهم: من خلق السموات والأرض؟ وهم سيقولون: هو الله، أو عبارة نحوها؛ لأنهم ممن يقولون بذلك.
وتأمل بلاغة القصر في قوله - تعالى -: ï´؟ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ï´¾، أخذًا من تعريف طرفي الإسناد وهو من باب قصر الصفة على الموصوف، والقصر هنا إضافي؛ لأن لله - سبحانه - صفات أخرى غير الوحدانية والقهر.
وفي قوله - تعالى -: ï´؟ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ï´¾؛ لأنه لما أضيف لفظة "خالق" إلى "كل شيء" كان في قوة قولنا: ï´؟ اللَّهُ خَالِقُ ï´¾، بل أقوى منه؛ لأن القصر استفيد من مادة المضاف إليه الدالة على العموم نصًّا، والقصر هنا حقيقي، ومن باب قصر الصفة على الموصوف؛ أي ما خالِقُ كلِّ شيء إلا الله.
وافطن إلى أسلوب الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة في قوله: ï´؟ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ï´¾ [الرعد: 16]، ثم قوله: ï´؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ ï´¾ [الرعد: 16]، والالتفات فن من فنون البلاغة، زينه هنا طول الفصل بين الجملتين، وكون الذين جعلوا لله شركاء في الربوبية قلة نادرة في العرب؛ ولذلك جاء الحديث عنهم بالغيبة بخلاف القِسم الأول، فهم معظم العرب؛ ولذلك جاء الحديث عنهم بالخطاب[3]".
ويمضي السياق مصورًا حال الموحدين المؤمنين بالله وصفاتهم الإيمانية التي هي الصفات الحقيقية للمؤمن الحق.
ونلحظ تلك الصفات وأهلها في الآيات الكريمات من قوله: ï´؟ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ï´¾ [الرعد: 19]... إلى قوله - تعالى -: ï´؟ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ï´¾ [الرعد: 24].
إن مظاهر التلاحم في نظم هذه الآيات ليأتي متناسقًا تمام التناسق مع موضوعات السورة الكريمة، "فبعد المشاهد التصويرية الهائلة في آفاق الكون، وفي أعمال الغيب، وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول يأخذ شطر السورة الثاني في تصوير لمسات وجدانية وعقلية تصويرًا رقيقًا دقيقًا مبتدأ بقضية الوحي والرسالة: ï´؟ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ï´¾ [الرعد: 19]، فهنا لمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر، الأولى علم، والثانية عمى، ويمضي خط السير في تصوير طبيعة المؤمنين والصفات المميزة لهم، والتي أولها علمهم الإيماني بوحدانية الله، وما نزل من عنده على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإشعاع هذا العلم في مقابل ظلام الجهل والعمى الذي لم يَهدِ عقلَ صاحبه إلى نور الإيمان، وفي هذا أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق، وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه، ولا زيادة، ولا تحريف.
فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى، وإذًا فالناس إزاء هذه الحقيقة الكبرى صنفان: صنف يعلم، فهو مبصر مؤمن، وصنف التوى به الطريق، فهو أعمى قد ضل سبيل الحق، ولا يستويان مثلاً.
والعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع الذي تستنير به القلوب؛ ï´؟ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ï´¾ [الحج: 46].
ولكن ï´؟ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الرعد: 19] الذين لهم عقول وقلوب مدركة تُذكَّر بالحق فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر، وهذه صفات أولي الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، وهنا تنتقل الصورة مجسدة بعض صفات المؤمنين التي مِن أزكاها: وفاؤهم بعهد الله، هذا العهد الذي أجملته الآية الكريمة؛ فإنه عهد الله المطلق الذي يشمل كل عهد، وميثاق الله المطلق الذي يشمل كل ميثاق.
••••
والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الله مع بني آدم كلهم؛ إذ استخرجهم من ظهر أبيهم كالذر، ثم أشهدهم على أنفسهم: ï´؟ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ï´¾ [الأعراف: 172] قالوا: بلى، إنه عهد الإيمان، والميثاق الأكبر الذي تتجمع حوله المواثيق كلها، هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان.
والتصوير البديع هنا انتظم لفظتين اثنتين، هما العهد والميثاق، وصدرهما بلفظتين اثنتين، هما "يوفون" و"لا ينقضون"، هكذا في إجمال تبقى النفس إزاء هذا التصوير معلقة تشرئب إلى الوقوف على نوعية هذا العهد، وهذا الميثاق، وهذا من خصائص الأسلوب القرآني؛ إذ أحيانًا يجمل ثم يفصل، وأحيانًا يجمل دون تفصيل؛ لتبقى نفس القارئ والسامع معلقة بها الأسلوب تبحث عما وراءه من أحداث.
ويرتب الخط التصويري على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر، سواء مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو مع الناس، ذوي قرابة أو أجانب، أفرادًا أم جماعات، فالذي يرعى العهد الأول حري بأن يرعى سائر العهود؛ لأن رعايتها فريضة، والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس؛ لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق.
فانظر لدقة هذا التصوير كيف يبرز القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله أنها عهد الله - سبحانه - وميثاقه، ثم يقرر هذه القاعدة في ثلاث كلمات من قوله - تعالى -: ï´؟ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ï´¾ [الرعد: 21]، نعم يصِلون ويخشَون ويخافون.
هكذا في إجمال؛ لأن التفصيل يطول وهو غير مقصود، إنما المقصود تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت، والصلة المطلقة التي لا تنقطع، ويُلمح عجُزُ الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة.
ويتبع تلك الصفات المطلقة صفات أخرى للمؤمنين، يجسدها التصوير القرآني في قوله - تعالى -: ï´؟ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ï´¾ [الرعد: 22]، صفات أربع ينتظمها التصوير في:
1- الصبر.
2- إقامة الصلاة.
3- الإنفاق في طريق مشروع.
4- درء السيئة بالحسنة.
ومثل تلك الصفات لا تصدُق إلا على عباد الله المؤمنين الصالحين الذين شعارهم الإيمان، ودثارهم التقوى، ودينهم الطاعة الدائمة.
ما أروعه من تصوير؛ فلقد عبرت الآيات السابقات عن بعض صفات المؤمنين: من خوف، وخشية، ووفاء بالعهد والميثاق، وهذه الصفات يستلزمها التحلي بصفة الصبر، وإقامة الصلاة، والإنفاق المشروع، ودرء السيئة بالحسنة، وقد جاءت مرتبة في العقد التصويري من الآية، وهذا الصبر جاء مجملاً، فهو صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله، ثم يلي ذلك صفة إقام الصلاة، ويبرزها التصوير؛ لكونها مظهر التوجه الخالص والعبودية الكاملة، ثم يتبعها السياق بذكر صفة الإنفاق مما رزق المؤمنون سرًّا وعلانية، وهنا تبرز الصلة بين عباد الله التي تجمعهم في الله، وهم على قيد الحياة، تلك السمة العالية التي تزكي نفس معطيها من البخل، وتزكي نفس آخذها من الغِل، وهذا الإنفاق المشروع أثارته الآية في السر؛ حيث تصان الكرامة، وتطلب المروءة، وتتحرج النفس من الإعلان به.
وفي العلن حيث تطلب الأسوة، وتنفذ الشريعة، ولكل موضعه في الحياة..، وأخيرًا لاحظ تلك الصفة التي تنحسر دونها الأطماع، فمن ذا الذي يصل إلى درء السيئة بالحسنة إلا مؤمن يقابل بالحسنة في معاملاته مع الناس ابتغاء وجه الله.
أما في دين الله فلا؛ لأن المستعلي الغاشم لا يجدي معه هذا الخُلق، وإنما أَولى به الدفع الصارم والأخذ الحاسم.
هؤلاء المؤمنون الذين هذه صفاتهم، ما مكانتهم عند الله؟ وما جزاؤهم؟ هنا ينتقل السياق مصورًا هذا الجزاء في قوله - تعالى -: ï´؟ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ï´¾ [الرعد: 22 - 24].
انظر إلى هذا المشهد وتأمل التعابير التي رسمته، فكأنما تعيشه الآن، وكأنما تراه حاضرًا وتسمع الملائكة، وتراهم أطوافًا مُحيِّين ومرحبين: ï´؟ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ï´¾ [الرعد: 24].
إنه مشهد حي يأتلف فيه جميع المؤمنين، ويلتئم شملهم بالصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم الذين فرَّق الموت بينهم، إنه مهرجان حافل باللقاء والتسليم، والحركة الدائبة والإكرام"[4]، ثم هذه الجنة التي يدخلونها: ما صفتها، وما الخير الذي وُعِدوا به؟!
هنا يرتقي الخط التصويري إلى أبدع الصفات التي تمس الأعماق، وتثير العواطف، فيضرب مثلاً أعلى لصفة هذه الجنة على حد قوله: ï´؟ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ï´¾ [الرعد: 35]، فإن مما يمتع النفوس والقلوب ذلك المشهد الخلوب الرائع، مشهد الأنهار الجارية ذات الإمتاع والاسترواح، يصورها السياق فيجعل منها مكانًا يبدو للعين، وكأنه جارٍ، وإنما يجرى فيه، وأخيرًا تذيل تلك الصورة بقوله - تعالى -: ï´؟ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ï´¾ [الرعد: 35]، إنه تقابُلٌ في الجزاء وَفْق تقابل في العمل الذي يرسم معناه هذا التصوير البديع القائم على التفصيل والبيان، فقد أعطى الجنة في التعبير بعض الصفات المشوقة إليها والمرغبة فيها فقال: ï´؟ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ï´¾ [الرعد: 35].
وربما كان إيراد الأكل والظل، والأنهار الجارية، وغير ذلك من النعيم المادي لمخاطبة البشر بما يفقهون وبما يتصورونه سببًا من أسباب النعيم في الحياة الدنيا، وإلا فإن نعيم الآخرة لا يُحَدُّ بتلك الصفات والنعم؛ ففي الجنة ((ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطَر على قلب بشر))، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- وهنالك السعادة الكبرى برضوان الله ورحمته، كما قال: ï´؟ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ï´¾ [التوبة: 72].
وقبل أن نغادر هذه الصورة عن حال المؤمنين إلى من في الضفة الأخرى المقابلة لهم من المشركين، يجب أن نلقي على الإطار الذي اكتنف تلك الصورة نظرة فاحصة، لنرى دقة الإحكام البديع، الذي به تم الوضوح، وتعانقت الجزئيات مع الكليات في نسق يمتع النفوس ويستقر في الأذهان.
••••
إن من أبرز خصائص الإبداع في التصوير القرآني لهذه الآيات قوة الربط مع ما بدأت به السورة الكريمة؛ إذ قال الله - تعالى - في مطلعها: ï´؟ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ï´¾ [الرعد: 1]، ثم ابتدأ وصف المؤمنين بشأن المنزل في سياق النص من قوله - سبحانه -: ï´؟ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الرعد: 19].
وقد أعان على دقةِ التصوير ووضوحِه تنوعُ الأسلوب؛ فهناك الاستفهام الإنكاري في قوله: ï´؟ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ï´¾، والمتأمل يدرك سر تصدير الآيات بهذا الاستفهام؛ إذ إن الذي يستفهم عنه هنا يؤمن به العقلاء، وينكره غيرهم تكبرًا وعنادًا وإعراضًا عن الحق، وهذا من عمى البصيرة والبصر، فكأن أعينهم في غطاء عن ذكر الله، تبعًا لقلوبهم المغلفة بحجاب الكفر والضلال.
انظر إلى جمال الاستعارة في قوله: ï´؟ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ï´¾، تلك التي أخرجت المعنوي في صورة المحسوس، فقرَّبته إلى الذهن، والقوة التي يفيدها القصر في قوله - تعالى -: ï´؟ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الرعد: 19]، وقد أفاد هذا القصر التعريض بذم الكفار؛ فهم لا يتذكرون، ولا تنفعهم الذكرى؛ ï´؟ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الذاريات: 55].
"وقد زاد هذا التعريض حسنًا استعماله بطريقة القصر بـ: "إنما"[5]، وقد خص الله - تعالى - الألباب وحدها بالذكر دون سائر الجوارح؛ لأنها محل التدبير والهداية، ولأن العقل هو النعمة الكبرى التي خص الله بها الإنسان دون سائر المخلوقات.
وتأمل بلاغة الإيجاز في قوله - تعالى -: ï´؟ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ï´¾، "فتحت ذلك صلة الأرحام والقرابات، وتحته الصلة القائمة بين الناس بسبب الإيمان، وذلك بالإحسان إليهم قدر الطاقة، ونصرتهم، والنصيحة لهم؛ فتلك أوثق عرى المحبة[6]"، وكذلك في قوله - تعالى -: ï´؟ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ï´¾، فقد أكبر هذا الإيجاز من معنى التسليم الذي هو حفاوة خالصة يبتدرها الملائكة إكرامًا لأولئك المؤمنين، ونكرة للتنويع والشمول، "وفي الآية تقييد يقطع الأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب، ومحل هذا التقييد قوله - تعالى -: ï´؟ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ï´¾ [الرعد: 23][7].
وفي قوله - سبحانه -: ï´؟ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ï´¾ إيجاز بحذف الخبر؛ إذ التقدير: "وظلها دائم".
وانظر لجمال تلك التقابلات الفنية العجيبة في سياق الآيات بين السر والعلانية، والسيئة والحسنة، وتأمل "تقديم المجرور في قوله: ï´؟ وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ ï´¾ على المنصوب في قوله: ï´؟ السَّيِّئَةَ ï´¾، ففي ذلك إظهار لكمال العناية بأمر الحسنة وشرفها"[8].
وعلى الضفة الأخرى، المشركون بالله، وحالهم، ووصف عذابهم في مقابل حال المؤمنين الموحدين، ووصف نعيمهم.
وحين يعرض السياق لتصوير حال هؤلاء المشركين، نرى الخط التصويري يُجمِل ثم يفصل، متخذًا أساسًا يفرع منه عاقبة المشركين، كما تتخذ أساسًا يفرع منه جزاء المؤمنين، وكلا الحالين في إجمال وتفصيل، بأسلوب ذي تقابل فني في المبنى والمعنى، فبعد أن فصل حال المؤمنين وبيَّنها في تسع صفات هي:
1- وفاؤهم بالعهد.
2- عدم نقضهم الميثاق.
3- وصلهم ما أمر الله به أن يوصل.
4- خشيتهم ربهم.
5- خوفهم سوء الحساب.
6- صبرهم ابتغاء وجه الله.
7- إقامتهم الصلاة.
8- إنفاقهم سرًّا وعلانية.
9- درؤهم السيئة بالحسنة.
بعد هذا التفصيل والبيان، أخذ السياق في حصر صفات أولئك البعداء الأشقياء الكافرين بالله؛ فهم:
1- ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
2- يقطعون ما أمر الله به أن يوصل.
3- يفسدون في الأرض.
4- لا تنفعهم الذكرى.
وعند الإبانة عن عاقبة الفريقين، نرى مجمل ما يلاقيه المؤمن من جزاء حسن هم أهله، وذلك من خلال قوله - تعالى -: ï´؟ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ï´¾ [الرعد: 18].
ونرى تفصيل عاقبة المشركين في قوله - سبحانه -:
1- ï´؟ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ï´¾ [الرعد: 18].
2- ï´؟ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ï´¾ [الرعد: 18].
3- ï´؟ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ï´¾ [الرعد: 18].
ولأمر ما جاء الإجمال في جزاء المؤمنين، وجاء التفصيل في عاقبة المشركين، ففي ذلك نكاية بالمشركين؛ إذ عدَّدت الآيات عاقبتهم؛ لتعدد سبلهم الضائعة يلجؤون إليها، والجزاء من جنس العمل.
أما المؤمنون فطريقتهم واحدة، هي التوجه إلى الله وحده، والتصديق برسالة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فجاء ذكر جزائهم واحدًا، هو الحسنى، لكن هذا الجزاء في حقيقته كثير عظيم، وفي الذروة منه - رضي الله عنهم.
وفي هذا الإجمال والتفصيل في جزاء الفريقين استكمال لأسلوب تقابل الأضداد، وحبك المعاني؛ ولذلك أتبعت هذه الآية ببيان السبب الداعي إلى كون العاقبة "الحسنى" في الآخرة، وأنها جزاء المؤمنين، وأن السيئة في الآخرة هي جزاء الكافرين.
وقد استدعى هذا التفريق والتفصيل إجمال الآية الكريمة حال الفريقين في قوله - تعالى -: ï´؟ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الرعد: 19].
فانظر إلى شدة الإحكام والتلاحم في التصوير، فآية تُجمِل وأخرى تُفصِّل، وكل ذلك في تناسق عجيب، ولا شك أن الإيجاز بلاغة، والإطناب بلاغة أيضًا، والتنويع بينهما في الأساليب يزيد الكلام حسنًا وبهاء، فليس الإيجاز قصورًا، وليس الإطناب تطويلاً لغير فائدة، بل الفائدة محققة فيهما على حسب اقتضاء المقام.
••••
هذه العاقبة السيئة منها ما يجسده التصوير حتى يبدو وكأن الكافر يراه رأي العين، وإنما هو موعود به في الآخرة، فاسمع لوقع هذه المطارق: ï´؟ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ï´¾ [الرعد: 25].
إن عذابهم في الآخرة أشق: ï´؟ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ï´¾ [الرعد: 34].
ومنها ما يصوِّرُه السياق معجلاً به أو واعدًا بحلوله في الحياة الدنيا، نعم يقول الحق - جل وعلا -: ï´؟ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ï´¾ [الرعد: 31]، فلندَعْهم إذًا لأمر الله، وإذا كان الله قدَّر ألا يهلِكَهم هلاك استئصال في حين واحد كبعض الأقوام قبلهم، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب، وتُهلك من كتب عليه منهم الهلاك، أو تحل قريبًا من دارهم، فتروعهم، وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها، وفي ذلك ترهيب لهم لعلهم يقلعون عن غيِّهم وعنادهم.
وتأمَّل هذا الأسلوب من قول الله - سبحانه -: ï´؟ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ï´¾ [الرعد: 34]، فهو أول وعيد صريح يعلنه الله في هذه السورة الكريمة بمعجل العذاب في الحياة الدنيا للكافرين بعد كل ما سبق فيها من التلويح به في معارض القول"[9].
وقد اعتمد التصوير البياني في هذه السورة على أسلوب "الاختصاص"؛ كما في قوله - تعالى -: ï´؟ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ï´¾ [الرعد: 18]؛ أي: هم مختصون بها فلا تكون لغيرهم، وقد استفيد هذا الاختصاص من تقديم ما حقه التأخير، وهو الخبر على المبتدأ؛ إذ وجه الإعراب "للذين": جار ومجرور، خبر مقدم، و"استجابوا لربهم": صلة الموصول، والحسنى: مبتدأ مؤخر".
ولوضع الاسم الموصول في قوله: ï´؟ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا ï´¾ موضع المؤمنين، وفي قوله: ï´؟ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا ï´¾: موضع الكافرين، إشعار بأن مضمون الصلة هو السبب فيما ترتب لكل من الفريقين من جزاء.
••••
وتأمل حسن هذه الاستعارة في قوله - تعالى -: ï´؟ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ï´¾؛ إذ أطلق لفظ المهاد وهو المكان الممهد الموطَّأ، وأريد به مكان تعذيبهم في جهنم غير الممهد ولا الموطأ، والغرض من هذه الاستعارة: التهكم والاستهزاء، فليس ما وُعِدوا به خيرًا مما هم فيه من حال وسوء مآل"[10].
ولو أردنا تقصي بدائع التصوير في كل آية سبقت لوقفنا أمام جلال القرآن وروعته مبهورين، فما ذكرناه قليل من كثير من روائع الفن البلاغي الذي تزخر به كل آية، بل كل جملة من تراكيب القرآن الكريم.
[1] تفسير أبي السعود ص 211، 212، تحقيق عبدالقادر أحمد عطا.
[2] انظر الظلال لسيد قطب ص 82، 83.
[3] انظر سورة الرعد دراسة لعبدالرحمن حبنكة، ص 142 الطبعة الأولى 1391هـ 1971م.
[4] انظر تفسير سورة الرعد في: في ظلال القرآن لسيد قطب.
[5] الإتقان للسيوطي، الجزء الثاني ص 49.
[6] انظر تفسير سورة الرعد في الكشاف للزمخشري.
[7] انظر تفسير أبي السعود ص 218 وما بعدها.
[8] انظر تفسير أبي السعود ص 218 وما بعدها.
[9] سورة الرعد دراسة لعبدالرحمن حبنكة ص 233.
[10] المصدر السابق ص 180، 181.
د. محمد بن سعد الدبل

عطر الزنبق
11-15-2021, 11:23 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الأعلى من الجنــــــــــان
لروعة طرحك القيم والمفيد
جعله الله بموازين حسناتك
وأظلك الله يوم لا ظل الا ظله
لك أجمل التحايا و أعذب الأمنيات
وعناقيد من الجوري تطوقك فرحا.
دمت بطاعة الله.

شغف
11-17-2021, 08:53 AM
جزاك الله خير
و بارك بعلمك و عملك

شايان
11-18-2021, 02:03 AM
جزاك الله كل الخير
وبارك في عطاءك
وجعلها في ميزان حسناتك

انثى برائحة الورد
11-18-2021, 02:08 PM
https://ghlasa.com/up/do.php?img=52

همسة قلب
11-19-2021, 03:36 PM
جزاكم الله كل الخير
وهدانا وهداكم
وبارك لكم جميل ما قدمتم

منصور
11-19-2021, 10:55 PM
جزاك الله خير
وبارك الله فيك
وجعلها في موازين حسناتك
وأثابك الله الجنه أن شاء الله
شكراً لك

نهيان
11-20-2021, 09:26 PM
جزاك الله بخير الجزاء والجنه
بارك الله فيك ونفع بك
وجعله في ميزان حسناتك
اضعاف مضاعفه لاتعدولاتحصى