عطر الزنبق
11-21-2021, 12:00 AM
الوفاء وحفظ الجميل...
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبِع هَدْيَهُ، وسار على نهجه إلى يوم أن نلقاه؛
أما بعدُ:
فإن الوفاء من الصفات النبيلة الجليلة، التي من شأنها أن ترفع شأن صاحبها في الدنيا والآخرة.
كيف لا، والوفاء ضد الغدر، والغدر ليس من صفات المؤمنين؟
قال الجوهري: "الوفاء ضد الغدر، يُقال: وفى بعهده وأوفى بمعنى، ووفى الشيء وُفِيًّا على وزن (فعول)؛ أي: تم وكثر.
ومنه الوفاء بالعهد: وسمي بذلك لما فيه من بلوغ تمام الكمال في تنفيذ كل ما تم التعاهد عليه، وفي كل ما عاهد عليه النفس أو العباد.
والوفاء هو صدق اللسان والفعل معًا؛ أي: مطابقتهما بدون مخالفة فعلٍ لقولٍ.
يقول الراغب الأصفهاني في ذلك: "الوفاء: أخو الصدق والعدل، والغدر: أخو الكذب والجَور؛ ذلك أن الوفاء: صدق اللسان والفعل معًا، والغدر كذب بهما؛ لأن فيه مع الكذب نقضًا للعهد".
والوفاء في الاصطلاح:
قال في تعريفه الإمام الجرجاني: "الوفاء هو: ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء"؛ [التعريفات، (ص: 274)].
وقال الجاحظ: "الوفاء: هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه ويرهنه به لسانه، فالإنسان قد يقع في أشد المخالفات بسبب لسانه ووعوده، والإخلال بذلك أمام الناس وأمام الله عز وجل".
وقال الراغب: "الوفاء بالعهد: إتمامه وعدم نقض حفظه".
فينبغي أن يعلم المسلم أن من أوفى بعهد الله من توحيده وإخلاص العبادة له وحسن التضرع والمعرفة له سبحانه، أوفى الله بعهده من توفيقه إلى الطاعات وأسباب العبادات والخيرات، والسداد في كل أموره.
أنواع الوفاء:
للوفاء أنواع عديدة؛ فقد يكون وفاء بالعهد، وقد يكون وفاء بالعقد أو الميثاق، وقد يكون وفاء بالوعد.
وتوضيح ذلك فيما يلي:
الوفاء بالعهد: هو - كما ذكر الراغب - إتمامه وعدم نقض حفظه، ويتطابق - من ثَمَّ - صدق القول والعمل جميعًا، وعدم المخالفة بينهما؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما: "العهود ما أحل الله، وما حرَّم، وما فرض، وما حدَّ في القرآن كله"؛ [عمدة التفسير؛ للشيخ أحمد شاكر، (4/ 62)].
أما الوفاء بالعقد: فالمراد به إما العهد، وبذلك يتطابق مع النوع الأول، وقيل: العقود هي أوكد العهود، وقيل: هي عهود الإيمان والقرآن، وقيل: هي ما يتعاقده الناس فيما بينهم من أمور ومعاملات؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1].
أما الوفاء بالوعد، فالمراد به أن يصبر الإنسان على أداء ما يَعِدُ به الغير ويبذله من تلقاء نفسه، ويرهنه به لسانه، حتى وإن أضرَّ به ذلك؛ وقد قال الجاحظ: "وكلما أضرَّ به الدخول تحت ما حكم به على نفسه، كان ذلك أبلغ في الوفاء؛ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾
[مريم: 54، 55].
فقد مدح ربنا عز وجل نبيَّه إسماعيلَ بصدقه في وعده، وكفى بذلك فضيلة.
آيات بينات حول معنى الوفاء:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [النحل: 90 - 92].
قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيْمانِ المؤكَّدة".
ويقول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾
[الإسراء: 34، 35].
فربنا تبارك وتعالى يأمرنا بالحفاظ على العهد، ويعرفنا أننا مسؤولون عنه يوم القيامة، ولا يحافظ على العهد إلا المؤمن الصادق، العارف بربه سبحانه وتعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾
[البقرة: 177].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "والعهد: هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه، فدخل في ذلك حقوق الله كلها، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها، ودخلوا تحت عهدتها، ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد، التي أوجبها الله عليهم، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور، ونحو ذلك".
ويقول ربنا سبحانه في وصف أهل الكتاب أنهم لا يوفون بالعهود وينقصونها، والمؤمن لا يكون كذلك أبدًا؛ ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 75 - 77].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال، لمَّا ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق، فأخبر أن منهم الخائن والأمين، وأن منهم من ﴿ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾؛ وهو المال الكثير، ﴿ يُؤَدِّهِ ﴾، وهو على أداء ما دونه من باب أولى، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾؛ وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى".
ويقول تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 11].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾
المؤمنون: 8]؛
أي: مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾ [الأحزاب: 72]، فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وكذلك العهد، يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم، والذي بينهم وبين العباد، وهي الالتزامات والعقود، التي يعقدها العبد، فعليه مراعاتها والوفاء بها، ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها، ويقول تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23، 24].
فالمؤمنون صادقون في وعودهم وعهودهم، ولا يزالون كذلك حتى يلقَوا ربهم، ليس عندهم تغيير أو تبديل.
الوفاء صفة من صفات الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 80، 81].
فربنا عز وجل لا يخلف عهده، ولا يصح أن تنسب المخالفة إلى الله عز وجل، فهو الحق، وقوله الحق، ووعده الحق.
ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
قال ابن كثير: "وقوله: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله؛ فإنه لا يخلف الميعاد؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122].
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه))؛ [رواه مسلم].
الوفاء من صفة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين:
قال تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 36 - 41].
الوفاء بالعهد من أعظم أسباب الوصول إلى الأجر العظيم من الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾
[الفتح: 10].
الوفاء حق على المسلم لا يضيعه ولا يتهاون فيه:
عن عقبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحقُّ ما أوفيتم من الشروط أن توفُوا به ما اسْتَحْلَلْتُم بِهِ الفُرُوج))؛ [البخاري مع الفتح].
وفي الحديث دلالة على أن المسلم لا يخالف الشروط والعهود التي يجريها أبدًا، وخاصة ما تم عليه من استحلال الفروج وعقد الزواج.
والصدق والوفاء من أسباب دخول الجنة:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم، أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتُمنتم، واحفظوا فروجكم، وغُضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديَكم))؛ [رواه أحمد].
الوفاء بالعهود والوعود من الواجب حفظها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحجَّ فلم تحجَّ حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دين، أكنتِ قاضيتَه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء))؛
[رواه البخاري].
وعن علي بن الحسين: أنهم حين قدموا المدينة، من عند يزيد بن معاوية، بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، لقيه المسور بن مخرمة، فقال له: هل لك إليَّ من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقلت له: لا، قال له: هل أنت معطيَّ سيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه، وايم الله، لئن أعطيتنيه لا يُخلَص إليه أبدًا، حتى تبلغ نفسي، إن عليَّ بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك، على منبره هذا، وأنا يومئذٍ محتلم، فقال: ((إن فاطمة مني، وإني أتخوَّف أن تفتن في دينها، قال: ثم ذكر صهرًا له من بني عبدشمس، فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن، قال: حدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي، وإني لست أحرم حلالًا، ولا أحل حرامًا، ولكن، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدوِّ الله مكانًا واحدًا أبدًا))؛ [رواه البخاري].
والوفاء مما أقره شرعنا في الجاهلية:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ((أوفوا بحلف الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام))؛
[رواه أحمد والترمذي].
وعدم الوفاء سبب من أسباب الخسارة يوم القيامة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنياه، إن أعطاه ما يريد وفى له، وإلا لم يفِ له، ورجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أُعطيَ بها كذا وكذا، فصدقه فأخذها، ولم يُعْطَ بها))؛ [رواه الشيخان].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوفِ نذرك، فاعتكف ليلة))؛ [رواه البخاري].
عهد النبي صلي الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إني أتخذ عندك عهدًا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة))؛ [رواه البخاري].
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبِع هَدْيَهُ، وسار على نهجه إلى يوم أن نلقاه؛
أما بعدُ:
فإن الوفاء من الصفات النبيلة الجليلة، التي من شأنها أن ترفع شأن صاحبها في الدنيا والآخرة.
كيف لا، والوفاء ضد الغدر، والغدر ليس من صفات المؤمنين؟
قال الجوهري: "الوفاء ضد الغدر، يُقال: وفى بعهده وأوفى بمعنى، ووفى الشيء وُفِيًّا على وزن (فعول)؛ أي: تم وكثر.
ومنه الوفاء بالعهد: وسمي بذلك لما فيه من بلوغ تمام الكمال في تنفيذ كل ما تم التعاهد عليه، وفي كل ما عاهد عليه النفس أو العباد.
والوفاء هو صدق اللسان والفعل معًا؛ أي: مطابقتهما بدون مخالفة فعلٍ لقولٍ.
يقول الراغب الأصفهاني في ذلك: "الوفاء: أخو الصدق والعدل، والغدر: أخو الكذب والجَور؛ ذلك أن الوفاء: صدق اللسان والفعل معًا، والغدر كذب بهما؛ لأن فيه مع الكذب نقضًا للعهد".
والوفاء في الاصطلاح:
قال في تعريفه الإمام الجرجاني: "الوفاء هو: ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء"؛ [التعريفات، (ص: 274)].
وقال الجاحظ: "الوفاء: هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه ويرهنه به لسانه، فالإنسان قد يقع في أشد المخالفات بسبب لسانه ووعوده، والإخلال بذلك أمام الناس وأمام الله عز وجل".
وقال الراغب: "الوفاء بالعهد: إتمامه وعدم نقض حفظه".
فينبغي أن يعلم المسلم أن من أوفى بعهد الله من توحيده وإخلاص العبادة له وحسن التضرع والمعرفة له سبحانه، أوفى الله بعهده من توفيقه إلى الطاعات وأسباب العبادات والخيرات، والسداد في كل أموره.
أنواع الوفاء:
للوفاء أنواع عديدة؛ فقد يكون وفاء بالعهد، وقد يكون وفاء بالعقد أو الميثاق، وقد يكون وفاء بالوعد.
وتوضيح ذلك فيما يلي:
الوفاء بالعهد: هو - كما ذكر الراغب - إتمامه وعدم نقض حفظه، ويتطابق - من ثَمَّ - صدق القول والعمل جميعًا، وعدم المخالفة بينهما؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما: "العهود ما أحل الله، وما حرَّم، وما فرض، وما حدَّ في القرآن كله"؛ [عمدة التفسير؛ للشيخ أحمد شاكر، (4/ 62)].
أما الوفاء بالعقد: فالمراد به إما العهد، وبذلك يتطابق مع النوع الأول، وقيل: العقود هي أوكد العهود، وقيل: هي عهود الإيمان والقرآن، وقيل: هي ما يتعاقده الناس فيما بينهم من أمور ومعاملات؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1].
أما الوفاء بالوعد، فالمراد به أن يصبر الإنسان على أداء ما يَعِدُ به الغير ويبذله من تلقاء نفسه، ويرهنه به لسانه، حتى وإن أضرَّ به ذلك؛ وقد قال الجاحظ: "وكلما أضرَّ به الدخول تحت ما حكم به على نفسه، كان ذلك أبلغ في الوفاء؛ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾
[مريم: 54، 55].
فقد مدح ربنا عز وجل نبيَّه إسماعيلَ بصدقه في وعده، وكفى بذلك فضيلة.
آيات بينات حول معنى الوفاء:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [النحل: 90 - 92].
قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيْمانِ المؤكَّدة".
ويقول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾
[الإسراء: 34، 35].
فربنا تبارك وتعالى يأمرنا بالحفاظ على العهد، ويعرفنا أننا مسؤولون عنه يوم القيامة، ولا يحافظ على العهد إلا المؤمن الصادق، العارف بربه سبحانه وتعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾
[البقرة: 177].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "والعهد: هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه، فدخل في ذلك حقوق الله كلها، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها، ودخلوا تحت عهدتها، ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد، التي أوجبها الله عليهم، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور، ونحو ذلك".
ويقول ربنا سبحانه في وصف أهل الكتاب أنهم لا يوفون بالعهود وينقصونها، والمؤمن لا يكون كذلك أبدًا؛ ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 75 - 77].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال، لمَّا ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق، فأخبر أن منهم الخائن والأمين، وأن منهم من ﴿ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾؛ وهو المال الكثير، ﴿ يُؤَدِّهِ ﴾، وهو على أداء ما دونه من باب أولى، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾؛ وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى".
ويقول تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 11].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾
المؤمنون: 8]؛
أي: مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾ [الأحزاب: 72]، فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وكذلك العهد، يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم، والذي بينهم وبين العباد، وهي الالتزامات والعقود، التي يعقدها العبد، فعليه مراعاتها والوفاء بها، ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها، ويقول تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23، 24].
فالمؤمنون صادقون في وعودهم وعهودهم، ولا يزالون كذلك حتى يلقَوا ربهم، ليس عندهم تغيير أو تبديل.
الوفاء صفة من صفات الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 80، 81].
فربنا عز وجل لا يخلف عهده، ولا يصح أن تنسب المخالفة إلى الله عز وجل، فهو الحق، وقوله الحق، ووعده الحق.
ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
قال ابن كثير: "وقوله: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله؛ فإنه لا يخلف الميعاد؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122].
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه))؛ [رواه مسلم].
الوفاء من صفة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين:
قال تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 36 - 41].
الوفاء بالعهد من أعظم أسباب الوصول إلى الأجر العظيم من الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾
[الفتح: 10].
الوفاء حق على المسلم لا يضيعه ولا يتهاون فيه:
عن عقبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحقُّ ما أوفيتم من الشروط أن توفُوا به ما اسْتَحْلَلْتُم بِهِ الفُرُوج))؛ [البخاري مع الفتح].
وفي الحديث دلالة على أن المسلم لا يخالف الشروط والعهود التي يجريها أبدًا، وخاصة ما تم عليه من استحلال الفروج وعقد الزواج.
والصدق والوفاء من أسباب دخول الجنة:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم، أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتُمنتم، واحفظوا فروجكم، وغُضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديَكم))؛ [رواه أحمد].
الوفاء بالعهود والوعود من الواجب حفظها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحجَّ فلم تحجَّ حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دين، أكنتِ قاضيتَه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء))؛
[رواه البخاري].
وعن علي بن الحسين: أنهم حين قدموا المدينة، من عند يزيد بن معاوية، بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، لقيه المسور بن مخرمة، فقال له: هل لك إليَّ من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقلت له: لا، قال له: هل أنت معطيَّ سيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه، وايم الله، لئن أعطيتنيه لا يُخلَص إليه أبدًا، حتى تبلغ نفسي، إن عليَّ بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك، على منبره هذا، وأنا يومئذٍ محتلم، فقال: ((إن فاطمة مني، وإني أتخوَّف أن تفتن في دينها، قال: ثم ذكر صهرًا له من بني عبدشمس، فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن، قال: حدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي، وإني لست أحرم حلالًا، ولا أحل حرامًا، ولكن، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدوِّ الله مكانًا واحدًا أبدًا))؛ [رواه البخاري].
والوفاء مما أقره شرعنا في الجاهلية:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ((أوفوا بحلف الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام))؛
[رواه أحمد والترمذي].
وعدم الوفاء سبب من أسباب الخسارة يوم القيامة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنياه، إن أعطاه ما يريد وفى له، وإلا لم يفِ له، ورجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أُعطيَ بها كذا وكذا، فصدقه فأخذها، ولم يُعْطَ بها))؛ [رواه الشيخان].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوفِ نذرك، فاعتكف ليلة))؛ [رواه البخاري].
عهد النبي صلي الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إني أتخذ عندك عهدًا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة))؛ [رواه البخاري].