مشاهدة النسخة كاملة : تأملات في آيات من القرآن الكريم سورة النحل


نبراس القلم
12-08-2021, 10:02 AM
1- ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 1، 2].
﴿ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ هنا: هو يومُ القيامة والحساب، ويدلُّ في آياتٍ أخرى على قضائه سبحانه وعلى العذاب، وقد أخبر الباري عزَّ وجلَّ عن دنوِّ يوم القيامة "بصيغةِ الماضي الدالِّ على التحقيق والوقوعِ لا مَحالة"؛ (تفسير ابن كثير 2: 483)، وعلاوة على نقل حتميَّة وقوع الحدَث مِن خلال الفعلِ الماضي ﴿ أَتَى ﴾، فإنَّ استهلال الآية الكريمة بهذا الفعل كان لظلالٍ مصاحبة تتمثَّل في أمرين؛ هما: أنه فعلٌ منطوٍ على الحركة؛ أي: إنَّه يصوِّر الحركة ولا يكتفي بنقل المعنى نقلاً ذهنيًّا مجردًا، وإنه من خلالِ انطوائه على هذه الحركة يكشِف عن أن ما أُسند الفعلُ إليه - وهو يوم القيامة - موجودٌ قبلَ زمن التكلُّم، فعندما يُقال مَثلاً: أتى زيد؛ فإنَّ زيدًا موجودٌ قبل النُّطقِ بهذه الجملة، ولكنَّه لم يكن بشخصِه حاضرًا، فإذا أقبل قِيل: أتى أو جاء.
وأمَّا استخدامه للتعبير عن شيءٍ حادِث لم يكن ذَا وجود سابقٍ؛ فإنَّ كلمات أخرى تؤدِّي الوظيفة؛ كالقول مثلاً: حصلَت زيادة في الأسعار، أو حدَث في حيِّنا شيءٌ غريب، أو وقعَت كارثة في دولة كذا؛ ففي هذه الأفعال وما شاكَلَها لم يكن للمسنَد إليه - الذي هو الفاعل - وجودٌ عيانيٌّ مِن قَبل، ولكنَّه ظهر فجأة، فدلَّ الفعلُ على تصوير ما كان، بعدَ إذ لم يكن.
والمراد بهذا أن التعبير بـ﴿ أَتَى ﴾ يعني أنَّ يوم الحساب ليس موضوعًا يُخبَر عن حصولِه المستقبليِّ ليُعامَل الخبرُ مِن ثمَّ على أنَّه حقيقةٌ أو وَهْم؛ بل إنَّه يومٌ ذو وجودٍ فِعليٍّ ولكن لم يحضر أوانُه بعد، ويَكتسب هذا الوجودُ كينونتَه ممَّا قدَّره الله تعالى ليكون، فهو ماثلٌ حتى إذا حان وقتُه وصَل.
ومن الملاحَظ أنَّ أمر الله - سواءٌ كان للدلالة على يومِ الحساب، أو على العذاب، أو على القضاء الذي قضاه - يقترنُ بفعلٍ دالٍّ على الحركة كـ"أتى" أو "جاء"، وهذا يعني أنَّ ما قضاه اللهُ تعالى على عباده حاصلٌ وله وجودٌ سابِق، ولكن ذلك القضاء يحضر أو يقعُ عند حلولِ وقتِه، وأنَّه ليس شيئًا طارئًا يتمُّ التنبُّه إلى ضرورة وقوعه من خلال الظروفِ المحيطة بالأشياء، وكذلك فإن طيَّ الزَّمان بالنسبةِ إلى الإنسان إنَّما هو حركةٌ نحو النهاية، وقد يخيَّل للساهي المتنقِّل بمركبةٍ مثلاً أنَّه ثابتٌ وأنَّ ما حوالَيه يَدور ويتحرَّك، وكذلك الإنسان؛ فهو يتحرَّك نحو الحسابِ وبتحرُّكه يبدو ذلك اليوم متحركًا نحوه أيضًا.
ومع حتميَّة وقوعِ هذا الحساب إلاَّ أن الكافرين كانوا يستعجلون النبيَّ عليه الصلاة والسلام بأن يأتِيَهم به، وكذلك كان الكافرون من الأُمم السَّابقة يستعجلون أنبياءَهم بشأنِه، وما كان استعجالهم إلاَّ من باب التكذيب لما أُخبِروا به، والذي حالَ بينهم وبين التصديقِ هو تعلُّقهم بأوثانِهم المعنويَّة والماديَّة، التي عبَدوها مِن دون الله تعالى؛ ولهذا كان التعقيب بقوله: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، وبإرسال الرُّسل بالدعوةِ للتوحيد: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾.
2- ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإنسان مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [النحل: 3 - 6].
لتوكيد وجودِ الله تعالى ووحدانيَّته تضع الآيات الكريمات "الخَلْق" أمام الإنسان، وتؤكِّده بإعادة كلمة ﴿ خَلَقَ ﴾ ثلاث مرَّات، وببيان ثلاثة أنواعٍ من المخلوقات تتدرَّج في عِظمها أو مكانتها: السماوات والأرض، والإنسان، والأنعام.
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾: والأرض كوكبٌ في هذا الوجود، شأنُها شأن القمر والشمسِ والكواكب الأخرى التي تبدو للنَّاظر إليها من الأرض على أنَّها في السماء، وتبدو الأرض كذلك لمن ينظر إليها من كوكبٍ آخر كما قيل، وأمَّا تخصيصُها بالذِّكر فلأنها مستقَرُّ الإنسانِ في هذه الحياة، ولربَّما ينطوي تَكرار ذِكرها في آياتٍ كثيرة على أنها وحدها مِن بين جميع الكواكب الأخرى مظنَّة الحياة وأسبابها، والله تعالى لم يخلقها عبَثًا؛ بل لغايةٍ معلومة، ولكن إنكار المشركين للحساب وللرُّسلِ يعني أنهم غابَت عنهم الغايةُ منها، والذي أعماهم عن تلك الغاية هو آلهتُهم التي عبدوها؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
وإزاء هذه الأجرام الكَبيرة العملاقة - السماوات والأرض - المخلُوقة بالحقِّ خلَق الله تعالى جرمًا صغيرًا هو الإنسان، خلقه من قطرةٍ، فإذا به يخاصِم ربَّه العظيم ويجادِلُه بالباطل وبكلِّ ما أوتي من قوَّة، ويريد بباطِله أن يغلب الحقَّ، وفي هذا بيان لخفَّة عقلِ المجادِل وغرورِه، فإذا به يوضَع أمام حجمه الحقيقيِّ عندما يوضع أمامه ضعفُه الذي يحْوِجُه إلى من هو أحَط منه قدْرًا - الأنعام والحيوانات - لتدبير مطعمِه وتنقله وشؤونه الحياتية الأخرى؛ وهذا هو السبب - والله أعلم - أن الفعل ﴿ خَلَقَ ﴾ ورد قبل ذِكر السماوات والأرض والإنسانِ، ولكنَّه جاء بعد ذكر الأنعام: ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾.
وقد أبرزت الآيةُ الكريمة حاجةَ الإنسان الماديَّة والمعيشية من تلك الأنعام؛ ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾، وأبرزت أيضًا حاجتَه المعنوية الداخليَّة، وهي الشعور بالسعادة والابتهاج التي تحقِّقها الأنعامُ له؛ ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾.
إن هذه المخلوقات ليست منفصلةً بعضها عن بعض؛ فالأنعام والحيوانات مُسخَّرة للإنسان، وهي - وكذلك الإنسان - ينتفعون بالسماء التي تُمطِرهم فتُخرج لهم أسبابَ الحياة، وفي السماء ما هو مسخَّر للإنسان ليضبِط وقتَه واتِّجاهه، ويتحكَّم بموجبهما فيما تحت يديه من الدوابِّ، وفي الأرض مَظاهرُ تدلُّ على التنظيم المُحكَم كالجبال التي تُرْسِي الأرضَ، والطرق التي يسلكها السالكون، وعلى النعمة كالبحار التي تُستعمل للتنقُّل ولاستخراج الحلي والطعام. ولا بدَّ لكلِّ ذي بصَر أن يتأمَّل انتفاء العبثيَّة في الخَلْق، وأن يفتِّش عن الغاية منها وأن يستسلِم لموجدِها.
لقد ورد معنى تتبُّع طريق الحقِّ في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ [النحل: 9]، وهي آية تتوسَّط الآياتِ التي تتحدَّث عن الخَلْق، وتلك التي تبيِّن النِّعمَ والمنافع التي سخَّرها الله تعالى للإنسان.
وكان هذا هكذا - والله أعلم - لأنَّ مِن النَّاس من يستجيب لله تعالى مِن أقصر طريقٍ وأبسط دليلٍ؛ فهؤلاء يستجيبون عندما تطرق آياتُ الخَلْق آذانَهم، وهي الآيات (3 - 5)، ولكن منهم من يحتاج إلى أدلَّة في الخَلْق إضافيَّة؛ فكانت تلك الآيات التي بدأَت من الآية (10) إلى الآية (16): ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: 10، 16]، ولهذا اختتمَت هذه اللوحةُ بقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17].
3- ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 12].
والتسْخِير: هو التذلِيل، و﴿ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ يتناغمان مع ﴿ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ على جهةِ القلب، وهذه المخلوقات الأربعة مسخَّرة لما تقوم عليه مصالح الإنسانِ في العملِ والرَّاحة ومعرفة الوقت، ولكن التحكُّم فيها ليس للإنسان فهي ليسَت مسخَّرةً له ليتصرَّف فيها؛ بل مسخرة له لينتفِع منها، وأمَّا النُّجوم فقد قُطعَت عمَّا قبلها ورفعَت بالابتداء؛ وذلك لأنَّها في جملتها لا تقعُ في الفائدة المباشرة المحسوسَة للإنسان، كما أنَّها كلَّها ليست مسخرةً له، ولعلَّه لا يعلم بوجود قسمٍ منها، وأن الانتفاعَ الظاهريَّ لا يكون إلا بعددٍ محدودٍ منها وهي التي يَهتدي بها لمعرفةِ الاتجاهات وما شاكلَها، ولهذا - ولأن النَّجوم كلَّها ليست مسخرةً لفائدة الإنسان - قال سبحانه: ﴿ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ بالرَّفع ولم يعطفها على المنصوبِ قبلَها؛ وهو ﴿ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾، وأمَّا من قرأ: ﴿ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ ﴾ بالرفع فعلى اعتبار أن انتفاع الإنسانِ منها جميعها محددٌ ومقدَّر بمقدارٍ، بينما انتفاعه من اللَّيل والنهار لا يحدُّه حدٌّ، والله أعلم.
وقد عدَّد الله تعالى بعضَ نعمه وذكَّر بها الإنسانَ؛ لكي يستدلَّ بها على خالقِه، ولكن هذا الإنسان لم ينْحنِ للحقِّ لَمَّا جاءَه؛ بل قابل النعمةَ بالنكرانِ والجحود وسوءِ الأدب؛ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [النحل: 24]، وأمَّا الذين استجابوا بالإيمان فقد رأَوا الخيرَ فيما أُنزل، وكانوا يرَون الخيرَ حتى فيما بدا مقيِّدًا لهم أو محمِّلاً إيَّاهم مسؤوليةَ الدعوةِ التي يترتَّب عليها الإنكارُ والتضييق والتعذيب وغيرها؛ لأنَّهم يرون فيما يصيبهم منافذَ للخير الإلهي ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30].
4- ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 35].
إنَّ المشركين لا يؤمنون بالمشيئة الإلهيَّة أصلاً؛ ولهذا فإنَّ قولهم: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35] هو من باب الجدل الفارِغ، أو هو من باب التألِّي على الله تعالى؛ أي: إنهم زعموا أنَّ موقفهم محكومٌ بإرادة الله تعالى، وأنَّهم خاضعون لتِلك الإرادة، لم يَخرجوا عليها، ولا موجِب إِذًا لكي يُنكِر عليهم منكِرٌ، وقد بيَّن الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام أنَّ هذا كان دَيْدن مَن سبَقهم في الإشراك من الأممِ الغابرة؛ فالعقليَّة الكافرة واحدة وإن اختلفَت أزمانُها.
وغابَ عن الكافرين بطلانُ دعواهم أو كفاية الإنكارِ عليهم؛ بأَنْ جاءَتهم الرُّسلُ بإنكارِ فعلهم، ولكنَّهم كذَّبوا المنذِرين وصدَّقوا أوهامَهم هم، وللردِّ على هذا الزَّعم كان آخر الآية: ﴿ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 35]، فلو لم ينكِر اللهُ عليهم ما كانوا يفعلون، ولو كان يرضَى لهم قدَريَّتهم التي تذرَّعوا بها لَمَا أرسلَ إليهم الرسلَ، ولأَبْقاهم على ما كانوا عليه: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
لقد حذَّر الرسلُ الناسَ وبيَّنوا أنَّ مصدر دعوتهم هو الوحي مِن الله تعالى، وكانت دعوتُهم مشفوعةً بخوارقَ تُبيِّن صِدْقَهم، ولكنَّ الكافرين كانوا يكذِّبونهم ويَزعمون لأنفسهم مزاعمَ كانت تخالِف ما كان الرُّسلُ يقولون، ومِن الغريب أنَّ الكافرين كانوا يحلِفون الأَيْمانَ الغليظة بالله تعالى - الذي لم يؤمنوا بوحدانيَّته - على زعمِهم الباطل الذي لم يبرهِنوا عليه بدليلٍ؛ ولهذا فقد كان الكذب هو الصِّفةَ المناسبة لبيان حالهم: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ﴾ [النحل: 38، 39].
﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ﴾، إنَّ هذا التبيِين لِما كانوا يختلفون بشأنه مرتبطٌ في هذا الموضع بيومِ القيامة؛ فيومئذٍ يكون الكافر في عالَم المشاهدَة، ويتبيَّن له أنَّ ما كان ينكره إنَّما هو صِدقٌ وحقٌّ، وأنَّ ما كان يزعمه كان باطلاً وقَسَمُه عليه كان كاذبًا، وقبل الوصولِ إلى هذا المآلِ والنَّدمِ على التفريط بعثَ الله تعالى مَن يبيِّن للناس ما هم فيه مختلفون؛ ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64]، وهذا التبيينُ في هذا الموضع جارٍ في الحياة الدنيا.
وقد عرَض سبحانه بين هذين التبيِينَين مشاهد كونيَّة على وحدانيته؛ كلُطْفِه بالعباد وعائديَّة الملكوت إليه، وأخبر عن سجود كلِّ شيءٍ له، وعن أنَّ الإنسان لا يلجأ إلاَّ إلى الله إذا أصابه الضرُّ، فإذا انكشف عنه ضرُّه راحَ قِسْم منهم إلى الطواغيت! ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 53، 54]، وهذه هي أدلَّةُ القُدْرة التي قد لا يعرفها الإنسانُ أو لا ينتبه إليها.
وأما الأدلَّة التي ذكَرها بعد قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ وهي من الآية (65) إلى الآية (81) - فهي مما يعايشُه في واقعه ويَلْمَسه بحواسِّه ومشاعره، فحقيقٌ بها أن تحمله على التفكير في صِدق ما يَسمع؛ ولهذا فإنَّه سبحانه ختمَ استعراض هذه الأدلَّة موجِّهًا الخطاب إلى نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 82، 83]؛ ببيان أنَّ رسالة النبيِّ عليه الصلاة والسلام هي البلاغُ وحَسْب، والذين يجحدون الرسالةَ بعد بسطِ الآيات الكاشِفة المبصِّرة لا يصدرون في رفضهم عن جهلٍ وعماية؛ وإنَّما عن معرفةٍ وإدراكٍ يجعلان استحقاقهم للعذاب حقًّا وعدلاً.
وإزاء هذه اللوحة - وهي بسطُ الأدلَّة المنطقيَّة والعقلية والواقعية على الرسالة ورفض قبولها من قِبَل الكافرين - جاءَت لوحةٌ أخرى لبيان حال الكافرين المنكِرين يومَ القيامة؛ وهي الآيات (84) إلى (89)، وهي جزاء من يعلَم ويأبى الإذعان لما يقتضيه علمُه، وتُختَتم هذه اللَّوحة بقوله سبحانه: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]؛ ببيان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهيدٌ على قومِه، وأنَّ رسالته ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾، وهؤلاء المسلمون هم الذين توجَّهَت الآيات (90) إلى (100) إليهم بالخطاب.
وأما الآيات التالية من (101) فهي خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلَّم، وتطييبٌ لخاطره من تقوُّلات المرجِفين بشأنِ رسالته، وإخبارٌ بحالِ الفِئتين الكافِرة والمسلمة، وبيانٌ لبعض الأحكام التي تلمِّح الآية (118) من بينها إلى أن اليهودَ غيَّروها، ولم يُبقوا عليها كما أَنزلها اللهُ تعالى في شرعِهم.
ويدلُّ سياقُ الآيات الكريمة على أنَّ صفاء العقيدة وصحَّة الشريعة قد تعرَّضا مِن قِبَل أتباعِ الأنبياء بَعد إبراهيم عليه السلام إلى ما ليس فِيهما؛ ولهذا أثنى اللهُ تعالى على إبراهيم عليه السلام وخصَّه بالذِّكر في هذا الموضع، وأمر نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يتَّبع ملَّته؛ لكي يتَّصل حبلُ الصَّفاء والصحَّة من جديد، وهذه المهمة - وهي إعادة الناس إلى السبيل القويم الصحيح - تكون بالحكمَة والعدلِ والصَّبر والتوكُّل؛ وهي المعاني التي اشتملَت عليها الآياتُ الأخيرة من السورة المبارَكة: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 125 - 128].
أ. د. عباس توفيق

عطر الزنبق
12-08-2021, 11:54 AM
بارك الله فيك
وجزاك الله كل خير
على هذا الموضوع القييم
سلم لنا طرحك المفيد
وسلم لنا ذوقــــك
وجعل ماقدمت
بموازين حسناتك

انثى برائحة الورد
12-08-2021, 12:18 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الأعلى من الجنــان
لروعة طرحك القيم والمفيد

نهيان
12-08-2021, 05:59 PM
جزاك الله بخير الجزاء والجنه
بارك الله فيك ونفع بك
وجعله في ميزان حسناتك

شايان
12-11-2021, 04:43 PM
موضوع متكامل تبارك الله
شكرا لك وجعله في ميزان حسناتك
واثابك عليه خير الاجر والثواب
التقدير والشكر

مٌهُرِة أًلًخُلَيّجٌ ♕
12-11-2021, 11:10 PM
جزاك الله خيرا
على الطرح الرائع
اثابك الله الاجروالثواب

منصور
12-18-2021, 01:08 AM
الله يجزاك كل خير
وان شاء الله تكون في ميزان اعمالك
الله لايحرمك الأجر
يعطيك العافية ع جمال الطرح وقيمته
شكراً لك