مشاهدة النسخة كاملة : لن يخلقوا ذبابًا


انثى برائحة الورد
12-08-2021, 04:37 PM
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُـرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73].
يخاطب الله تعالى الناس كافة، وفي الخطاب تحدٍ صريح لهم بأنَّ ما يعبدون من دون الله عز وجل من الأوثان أو الرجال أو أيَّ معبود، لن يستطيعوا أنْ يخلقوا ذبابة، بل إنهم لن يستطيعوا أن يستردوا ما تأخذه الذبابة منهم من طعامهم أو شـرابهم.
وجاء لفت نظر الناس بمناداتهم بقوله تعالى (فاستمعوا) والفرق بين الاستماع، والسَّماع: أن الاستماع يقال لما كان بقصد؛ لأنه لا يكون إلا بالإصغاء، وهو الميل، أما السماع فيكون بقصد وبدون قصد، ويؤيد ذلك قوله تعالى:﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾ [الأعراف: 204]، إشارة إلى قصدهم إلى ذلك، وميلهم إلى السَّماع الخالي عن القصد.
واختيار الذُّباب في المثل لأنه يرمز للصغر والحقارة وقلة الشأن، فهو لا قيمة له، ومن هنا كان التحدي أكبر، والتأثير بالمقابل أبلغ، فإن الله لم يطلبْ منهم خلق شيء كبير أو نفيس، بل تحداهم بشيءٍ صغير جدًّا من مخلوقاته، ولو اجتمعوا كلهم، مع أدواتهم ومعداتهم، ومازال التحدي قائمًا إلى اليوم، وسيبقى إلى قيام الساعة، بالرغم من التقدم العلمي الكبير سيبقى البشـر عاجزًا تمام العجز عن خلق ذبابة واحدة.
وجاء التحدي بأنهم ( لن يَخلُقُوا ) والخلق أبسط كثيرًا من الفَطْر أو الإبداع، لأن الإبداع هو الخلق من العدم، في حين أن الخلق بوجود المواد الأولية للخلق، جاء في أساس البلاغة للزمخشـري: (خلق الخرّاز الأديم والخيّاط الثوب: قدَّره قبل القطع،....، وخلَّق القدح: ملسه يكون نضبًا أولًا، فإذا بريَ وملَّس فهو مخلَّق)[1]، فإن الله تعالى يقول: ﴿ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، فالمثل يقول لهم هذه المكونات التي تُخلق منها الذبابة؛ البروتين، الدم، العضلات، الأجنحة، متوفرة بين أيديكم، فهل تستطيعون يا أيها الناس سواء أكنتم منفردين أو مجتمعين أن تخلقوا ذبابة واحدة؟.
قال الماوردي رحمه الله: ( ﴿ لن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ﴾ ليعلمهم أنَّ العبادة إنما تكون للخالق المُنشِئ دون المخلوق المُنشَأ، وخصَّ الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه واستقذاره وكثرته، وسُمِّي ذبابًا لأنه يُذَبُّ احتقارًا واستقذارًا )[2].
فمن صور الإعجاز التي وضعها الله في الذباب:
1- جاء في الموسوعة الكونية الكبرى: (كُبِّرت عين الذبابة مئات المرات، فكان من هذا التكبير العجب العجاب، آلاف العدسات المرصوفة بعضها إلى جانب بعض تحقق للذبابة رؤية كاملة، فهذا المخلوق الضعيف الذي يشمئز الناس منه يستطيع أن يناور مناورة لا تستطيع أعظم الطائرات الحربية وأحدثها أن تفعل فعلها، إنها تسير بسرعة فائقة بالنسبة إلى حجمها، وتستطيع أن تنتقل فجأة إلى زاوية قائمة، وتستطيع أن تنتقل من سقف إلى سقف، هذا شيء لا تستطيع طائرة في الأرض أن تفعله)[3].
2- الإعجاز في خلق الذبابة هو في كل جزء من أجزاء جسمها، ففمها يحتوي على شفتين علوية وسفلية، وفيه ممص لمص الغذاء، ولسان وخرطوم[4]، أما منطقة الصدر فإنَّ عضلات الذبـابة تلتصق بالجدار الداخلي للصدر؛ حيث تعمل هذه العضلات القوية على تحريك الأرجل والأجنحة، وللذبابة ست أرجل، تستخدمها جميعًا عند المشي، ولكنها تقف عادة على أربع فقط، وتنتهي الأرجل في معظم أنواع الذباب بمخالب تساعد على الإمساك بالسطوح المنبسطة للجدران والأَسقف، وتمتلك الذبابة المنزلية وسائد شعرية تسمّى الأخفاف، وتوجد على أقدام الذبابة مادة لاصقة تساعدها في المشي على السطوح الملساء كزجاج النوافذ والمرايا وغيرها.
3- عندما تتغذى الذبابة فإنها تمد فمها من أسفل رأسها إلى السطح المقابل له، مكونة بذلك انبوبًا لامتصاص الطعام، وعند النظر بدقة إلى الأنبوب الماص فيلاحظ أنَّ الطرف الملامس لسطح الطعام متسعًا وكأنه مكنسة كهربائية، بعد ذلك تبدأ الذبابة بفرز انزيم ليمكنها من تحليل الطعام وتحويله إلى مادة سائلة مهضومة لمساعدتها على امتصاصه خلال الأنبوب، ثم يدخل الطعام المكتمل الهضم إلى جسمها ومباشـرة إلى الدم، لذلك فإنَّ الذبابة تبدأ بهضم الطعام قبل أن يدخل إلى جسمها، على خلاف عمليات الهضم التي تقوم بها بقية المخلوقات، حيث تقوم بالهضم الأولي بتقطيع الطعام عن طريق الأسنان أو الفكوك، ثم بعدها الهضم الكيميائي في المعدة بفرز أنزيمات معينة من أجل الهضم، فالطعام الذي دخل في جوف الذبابة لم يعد نفسه الطعام الذي سلبته، ولعل هذا الأمر في المثل هو الجزء المعني في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ ﴾.
4- تؤكد الأبحاث العلمية أنَّ الذباب أكثر من مائة ألف نوع، منها ذباب الخيل، وذباب الفاكهة، وأن عشـرة أنواع منها فقط تعيش في المنازل، ومنها ذباب أسود، وآخر أزرق، وذباب أبيض وأخضر، ولعل هذا هو السبب أن ذكره قد جاء بصيغة "ذُبابًا" في القرآن الكريم وليس ذبابة، ولكن الأمر فيه خلاف عند أهل اللغة، فمنهم من يرى أن ذبابًا جمع مفردهُ ذبابة، كما قال بذلك الجوهري في الصحاح: (والذباب معروف، الواحدة ذبابة)[5]، وفي المصباح المنير للمقري: (الذُّبَابُ جمعه في الكثرة "ذِبَّانٌ"، مثل غراب وغربان، وفي القلة "أَذِبَّةٌ" الواحدة "ذُبَابَةٌ")[6]، وفي الرأي الآخر من يرى أن ذبابًا مفرد، وهو ما ذهب إليه ابن دريد في الاشتقاق: (وفي التنزيل: ﴿ لن يَخلُقُوا ذُبابًا ولو اجتمعُوا له وإنْ يَسْلُبْهُم الذُّباب شيئًا ﴾، فذلك يدلُّ على أنَّه واحد، وقول النّاس ذُبَّانةٌ خطأ، ولكن يجمع ذُبابٌ ذُبًّا)[7]، وقال البغوي في تفسيره: (والذباب: واحد وجمعه القليل: أذبَّة، والكثير: ذبان)[8].
5- من عجائب خلق الذباب أن في أحد جناحيه داء، وفي الجناح الآخر دواء، وقد تكلم غير المسلمين على مر الزمن في الحقيقة العلمية في هذا الحديث والذي هو في الصحيح، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً)[9]، وكم حاول الطاعنون أن يطعنوا في هذه الحقيقة العلمية، حتى أظهره الله عز وجل على يد علماء مختصين من غير المسلمين وقدموا دراسات وبحوثًا أكدوا صحة هذه المعلومة النبوية.
6- (يتسبب الذباب في إصابة الإنسان بكثير من الأمراض؛ ولعل من أشهرها مرض النوم الذي تسببه ذبابة "تسـي تسـي"، ومرض حمى التايفوئيد، وأمراض التسمم الغذائي التي ينقل الذباب البكتريا المسببة له، ويكون الذباب سببًا في بعض أمراض العيون الذي من أشهرها مرض التراخوما الذي يتسبب في ضعف البصـر، وربما يصل إلى العمى أحيانًا، كما وينقل الذباب بعض الطفيليات الابتدائية كحويصلات أميبا الزحار، وديدان طفيلية مثل بيوض بعض الديدان الشـريطية والخيطية)[10].
7- على صغر الذبابة إلا أنها مخلوق متكامل الأجهزة مثل بقية المخلوقات، فإنَّ جسمها الصغير يحتوي على كافة الأجهزة في داخله، ففيها جهاز هضمي، وآخر تنفسي، وجهاز عضلي وآخر عصبي، ودورة للدم، وبتراكيب دقيقة جدًّا تيسـر لها حياتها التي خلقت من أجلها، فمن أراد أن يخلق ذبابًا فعليه أن يفكر بخلق كل هذه التفصيلات المعقدة في جسم الذبابة.

[1] أساس البلاغة، الزمخشـري، ج1، ص173.
[2] النكت والعيون، أبو الحسن الماوردي، ج4، ص40.
[3] الموسوعة الكونية الكبرى، آيات الله في ممالك الطير والنحل والحشـرات،
د. ماهر أحمد الصوفي، ج12، ص288.
[4] علم الحشـرات العام، حسين عباس ونضال مهدي، ص 155-116.
[5] تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، ج2، ص143.
[6] المصباح المنير، المقري الفيومي، ص109.
[7] الاشتقاق، ابن دريد، ص425.
[8] معالم التنزيل، البغوي، ج5، ص 400.
[9] صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شـراب أحدكم فليغمسه
ج3، ص 1206، حديث: 3142.
[10] الحشـرات الناقلة للأمراض، د. جليل أبو الحب، ص 148- 151، (بتصـرف).

نهيان
12-08-2021, 06:02 PM
جزاك الله بخير الجزاء والجنه
بارك الله فيك ونفع بك
وجعله في ميزان حسناتك

نبراس القلم
12-10-2021, 04:02 AM
بَارَكَ الْلَّهُ فْيْكِ
نَوّر الله قلبِكً بَ العَلمُ ؤ آلدَينُ
ويشَرِحَ صدَركَ بَ الهًدىَ وآليقٍينَ
ؤييسَر آمَركَ ؤيَرفعُ مقآمكَ في عليينَ
ؤيحشَركَ بَ جؤآر آلنبيَ الآميينَ
دُمْتِ بَحِفْظْ الْرَّحْمَنِ
نبراس القلم

شايان
12-11-2021, 04:46 PM
موضوع متكامل تبارك الله
شكرا لك وجعله في ميزان حسناتك
واثابك عليه خير الاجر والثواب
التقدير والشكر

مٌهُرِة أًلًخُلَيّجٌ ♕
12-11-2021, 11:07 PM
جزاك الله خيرا
على الطرح الرائع
اثابك الله الاجروالثواب

منصور
12-18-2021, 01:07 AM
الله يجزاك كل خير
وان شاء الله تكون في ميزان اعمالك
الله لايحرمك الأجر
يعطيك العافية ع جمال الطرح وقيمته
شكراً لك

انثى برائحة الورد
12-22-2021, 01:10 PM
سرني حضوركم في صفحتي
اشكركم على إطرائكم
فرائحة حضوركم البهيه
طغت على المكان
مني لـ روحكم تحية ود
كل الشكر