انثى برائحة الورد
06-19-2020, 08:39 PM
أولًا: من قوانين الابتلاء:
1- لقد اقتضت إرادةُ الله سبحانه أن يمنح اﻹنسان اختيارًا في هذه الحياة تكريمًا له، وبمقتضى هذه المنحة قد يسيء فيظلم اﻷبرياء، ويلحق اﻷذى بهم؛ولهذا كان أنفع دواء يتحصن به أمام هذا الابتلاء هو: الدفع بالتي هي أحسن مع التحلي بالصبر الجميل.
قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20].
2- وقد لاحظت من خلال تتبعي لقوانين الابتلاء في القرآن الكريم:
أن العبرة بالنتائج، وأن العاقبة للمتقين مهما اشتدت المصائب، وتعاظمت الكروب.
وأن الخزيَ على الظالمين مهما طال الزمن، وأن العصاة والكافرين يعاقَبون نتيجة ظلمهم وبغيهم،مع اﻹشارة إلى أن الابتلاء تحكمه قاعدتان، هما: العدالة والحكمة.
3- أن القاعدة العامة في العقوبات اﻹلهية التأجيل؛ يدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].
وأن الله ليس بغافل عما يفعل الظالمون؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
4- ولكن قد تُعجَّل العقوبة، وقد تدفع بليَّة لحكمة إلهية، وقد يكون سبب ذلك دعوة مستجابة، أو نصرة مظلوم.
واﻷمثلة كثيرة في القرآن الكريم، لا سيما في سورة الكهف، وقد أشرت إلى ذلك في مقالي: سورة الكهف وتحقيق العدالة اﻹلهية، (منشور في الشبكة العنكبوتية).
وقد جاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاءُ فيعتلجانِ إلى يوم القيامة))[1].
قال الغزالي: "فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاءَ لا مردَّ له؟ فاعلم أن مِن جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء؛ فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن البَذْرَ سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أن التُّرْسَ يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء"[2].
5- مِن العقوبات المعجَّلة في الدنيا: الظلم، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين:
قال ابن رجب: "الغالب أن الظالمَ تعجَّل له العقوبة في الدنيا وإن أُمهِلَ؛ فإن اللهَ يُملي له حتى إذا أخَذه لم يُفْلِتْهُ".
يدل على ذلك: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّلَ الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة، مِن البَغْي، وقطيعة الرحم))[3].
6- أن الحكمةَ من الابتلاء هي الامتحان، وبعدها يكرم المرء أو يهان؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]؛ ولهذا فإن الابتلاءَ له تعلُّق بموضوع اﻹيمان بالقدر خيرِه وشرِّه، فليتنبه لذلك.
ويراجع في ذلك مقالي: "اﻹيمان بالقدر أعظمُ اختبار في الحياة!"؛ (منشور في الشبكة العنكبوتية).
7- وأن أفضل حصانة للثبات في وجه أعاصير الابتلاء، وزلازل الامتحان، هي: التحقُّق باﻹيمان، والتحلي بالصبر، والاعتصام بالتوكل على الله سبحانه.
قال اﻷستاذ بديع الزمان رحمه الله تعالى:
"فالمؤمن يعتقد بما يقول؛ لذا يجد في كل شيء بابًا ينفتح إلى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شيء مسخَّر لأمر ربه، فيلتجئ إليه بالتضرع.
ويتحصن أمام كل مصيبة مستندًا إلى التوكل، فيمنحه إيمانُه هذا الأمانَ التام، والاطمئنان الكامل.
فلو أصبحت الكرة الأرضية قنبلةً مدمرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابدًا لله ذا قلب منور، بل قد ينظر إليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصَّمدانية، ويتملَّاها بإعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفًا - ممن يعد ذا عقل راجح - إذا رأى في الفضاء نجمًا مذنبًا يعتَوِرُه الخوف، ويرتعش هلَعًا ..".
8- وبعد الصبر تأتي منزلة أعظم، وهي منزلة الرضا على المصائب، لا المعاصي والمعايب، ولهذا البحث تفصيلٌ يُنظَر في مظانِّه.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إن عظمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخِط فله السُّخْط))[4].
وقد كان مِن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأسألك الرضا بعد القضاء))[5].
9- وقد صدق من قال: "من أهم وسائل العلاج عند البلاء أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، فحظك منها ما أحدثته لك، فاختَرْ خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثَتْ له سخطًا وكفرًا، كتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعًا وتفريطًا في ترك واجب، أو في فعل محرم، كتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضًا على الله، وقدحًا في حكمته، فقد قرَع باب الزندقة، وإن أحدثت له صبرًا وثباتًا لله كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضا عن الله، كتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين، وكانت تحت لواء الحمد مع الحامدين، وإن أحدثت له محبة واشتياقًا إلى لقاء ربه كتب في ديوان المحبين المخلصين".
10- وهناك منزلةٌ أخرى بعد الرضا، وهي السرور بالمقدور؛ فهذا عمرُ بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى يقول: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر"[6].
11- ومِن أسباب التحصن من الابتلاء:
أن نسأل الله العافية، وقد علمنا رسول الله أن نسأل الله العافية في عدد كبير من النصوص، وفي مناسبات متعددة.
• منها: ما جاء عن العباس بن عبدالمطلب أنه قال: قلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله قال: ((سل الله العافية))، فمكثت أيامًا، ثم جئت فقلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: ((يا عباسُ، يا عمَّ رسول الله، سلِ الله العافية في الدنيا والآخرة))[7].
• ومنها: ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَعُ هؤلاء الكلمات إذا أصبح وإذا أمسى: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العَفْو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استُرْ عَوْراتي، وآمِنْ رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظَمتك من أن أغتال من تحتي))[8].
• ومنها: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من جَهْد البلاء، ودرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء"[9].
12- ومِن أسباب تخفيف وطأة الابتلاء عند وقوعه: عدم كثرة الحديث حوله، ويمكن أن يستفاد ذلك إشارة مما حكاه الله سبحانه في قصة مريم:
﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26].
13- وأن الابتلاءَ كما يكون بالشر، قد يكون بالخير؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
وقد ابتلى اللهُ سبحانه نبيَّه سليمانَ بالمُلْك، فكان من الشاكرين، وقال عنه: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30].
وابتلى أيوبَ بالمرض، فصبر، وقال عنه: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكر، فكانت خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكانت خيرًا له))[10].
14- وأن أشد الناس بلاءً الأنبياءُ؛ فقد جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسَب دِينه، فإن كان دِينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دِينه رقةٌ ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئةٌ))[11].
15- ولكن ما هي الحكمة من ابتلاء الأنبياء وهم عباد مكرمون معصومون؟
قال ابن القيم: "فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم:
أ- ليستوجبوا كمالَ كرامته.
ب- وليتسلى بهم مَن بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أُوذوا من الناس، فرأَوْا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضُوا وتأسَّوْا بهم.
ج- ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة، فيمحَقهم بسبب بَغْيهم وعداوتهم، فيعجل تطهير الأرض منهم.
فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إلهَ غيرُه، ولا رب سواه"[12].
ثانيًا: أنواع الابتلاء:
لاحظت أن الابتلاء في القرآن الكريم:
1- قد يكون لرفعة المنزلة وزيادة الحسنات؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله تعالى يبتليه بما يكره حتى يبلِّغَه إياها))[13].
2- وقد يكون للتأديب والتهذيب.
ويراجع في ذلك مقالي: "الابتلاء بين التكريم والتأديب" المنشور في الشبكة العنكبوتية.
3- وقد يكون للتنبيه والتحذير.
4- وقد يكون للعقوبة واﻹهانة، نسأل الله العافية والسلامة،وهذا لا يكون إلا للعصاة والكافرين.
وتفصيل ذلك باﻵتي:
1- من ذلك: أن الابتلاء يذكر اﻹنسان المبتلى بالرجوع إلى الله تعالى وشرعه؛ قال تعالى: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168].
2- ومِن حِكم الابتلاء أنه تربية:
فهو يهذِّب النفوس ويعيد التوازن لمن أصيب بالاختيال والفخر واﻹعجاب بالنفس والمال والولد،والثياب والبيت،والمحلة والبلد..
أليس قد قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23].
إن الطريقَ في الوصول إلى الله سبحانه صعبٌ، وفيه مخاوف، قال ابن القيم: "الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجِع للذبح إسماعيل، وبِيعَ يوسف بثمن بخسٍ، ولبِث في السجن بضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريا، وذُبِح السيدُ الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوبُ...وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمدٌ صلى الله عليه وسلم"[14].
3- ابتُلِيَ صاحب الجنتين بسبب كلمة قالها، وقد حكى لنا الحق سبحانه قوله: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]؛ فكانت النتيجة: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ...وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ [الكهف: 42]! فكان بلاءً شديدًا!
4- ومن حِكم الابتلاء: التدريب على الصبر:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
5- ومَن هم الصابرون؟ وما ثوابهم؟
قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157].
6- ومن حِكم الابتلاء: تذكير العباد بالله تعالى:
وأن سَلْبَ النِّعَم مِن دلائل غضبه وإعراضه عنهم؛ لعلهم يرجعون.
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 130].
7- الابتلاء والمِنَح الإلهية:
قد يكون الابتلاء وسيلة لرفعة المنزلة، وزيادة الدرجات، لا سيما إذا كان بسبب حسد الحاسدين، وضغائن المنافقين، وما وقع للسيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة اﻹفك خيرُ مثال على ذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11].
8- لا تحزَنْ:
ابتُليَ إبراهيم عليه السلام بمعاداة أبيه وقومه له، وبالإلقاء في النار؛ قال الله تعالى: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 70].
وابتُلي بتأخُّر إنجاب اﻷولاد، ثم ابتُلي بالأمر بذبح ابنه إسماعيل؛ قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 102 - 107].
والنتيجة: أن اللهَ سبحانه نجَّاه مِن كل اﻷهوال، ورزقه اﻷولاد: إسحاق، وإسماعيل، ثم فداه حينما أمر بذبحه..
وأصبح أمَّةً وحدَه، وأُعطي لقب: "خليل الله"، و"أبو اﻷنبياء".
9- لا تحزن:
ابتُلي يوسف عليه السلام من إخوته بدافع الحسد والغَيرة، وحصل اضطراب كبير في هذه اﻷسرة النبوية المباركة..
ولكن كانت النتيجة: ويوسف بعد الجب والسجن مَلِكٌ.
10- لا تحزن:
ابتُلي نبيُّ اللهِ أيوبُ عليه السلام بالمرض الشديد، فصبر، فكان رمزًا للصبر في اﻷرض!
وكانت النتيجة: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
11- لا تحزن:
ابتُلي نبي الله زكريا عليه السلام بالحرمان من الولد، فصبر، وقد نادى ربه: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89] ،كلمات قليلة لكنها صادقة.
والنتيجة: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 90].
12- لا تحزن:
فارَق يونسُ عليه السلام قومَه غاضبًا عليهم؛ لأنهم لم يستجيبوا لدعوته، بدون إذن ربه، ظنًّا منه أن اﻷمر واسع، وأن الله لن يضيِّقَ عليه ولن يعاقبه؛ قال تعالى: ﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: 87]؛ فابتُلي بأن ابتلَعَه الحوتُ؛ ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].
والنتيجة: نجَّاه اللهُ سبحانه، وكانت هذه الدعوةُ المباركة سببًا لنجاة المؤمنين.
قال سعد: يا رسول الله، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: ((هي ليونسَ بنِ متَّى خاصة، وللمؤمنين عامة إذا دعَوا بها)).
ألم تسمَعْ قول الله: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].
وابتلاء يونسَ عليه السلام يُعلِّمُنا دقة التعامل مع الله سبحانه.
وكانت تجربة فريدة بكل المقاييس، وكأن الحق سبحانه يقول: يا يونسُ، إني قادر على إخراج قومك مِن بطن الكفر إلى سَعة اﻹيمان، كقدرتي على إخراجك من بطن الحوت إلى اليمِّ، وكان عليك الصبر وعدم المغادرة حتى يأذَنَ اللهُ.
ثم أُرسِل إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمَنوا جميعهم...
قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [الصافات: 139 - 148].
13- وابتُلي نوحٌ عليه السلام بابنه، الذي ابتعد عن رحاب بيت النبوة، وانحاز إلى معسكر المعرضين عن الله سبحانه، الجاحدين لربوبيته.
لكن الوالد الحنون، وهو في اللحظات الأخيرة مِن وقوع العذاب، يناديه: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، فيُجيبه بلغة التمرُّد والعناد اﻷعمى: ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ﴾ [هود: 43]، والنتيجة: ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [هود: 43].
ومع ذلك، فإن مشاعرَ اﻷبوَّة تأمل في نجاته؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [هود: 45].
فيأتيه الجوابُ الحاسم: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46].
14- وابتُلي نبيُّ الله لوطٌ عليه السلام بزوجته التي خانت بيت النبوة، وانحازت إلى القوم المفسدين، والنتيجة:
قال الله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾ [هود: 81].
15- تأمَّل حال الكليم موسى عليه السلام، وما آلت إليه محنته وفتونه؛ مِن أول ولادته إلى منتهى أمره حتى كلمه الله تكليمًا، وقرَّبه منه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره؛ فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسرت، وأخذ بلحية نبي الله هارون وجره إليه، ولطم وجهَ ملَكِ الموت ففقأ عينه، وخاصم ربه ليلة الإسراء في شأن رسول الله، وربه يحبه على ذلك كله، ولا سقط شيء منه مِن عينه، ولا سقطت منزلته عنده، بل هو الوجيه عند الله القريب، ولولا ما تقدم له من السوابق وتحمُّل الشدائد والمحن العظام في الله ومقاساة الأمر الشديد بين فرعون وقومه ثم بني إسرائيل وما آذَوْه به وما صبر عليهم لله - لم يكُنْ ذلك.
16- تأمَّل حال المسيح صلى الله عليه وسلم وصبره على قومه واحتماله في الله، وما تحمله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهَّره من الذين كفروا، وانتقَم مِن أعدائه، وقطَّعهم في الأرض، ومزَّقهم كل ممزَّق، وسلَبهم مُلكَهم وفخرَهم إلى آخرِ الدهر..
17- فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتأملت سيرته مع قومه وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلوُّن الأحوال عليه مِن سلم وخوف، وغنًى وفقر، وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه، وتركه لله، وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يؤذَ نبيٌّ ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعطَ نبي ما أعطيه؛ فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخَلْق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفًا وفضلًا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حال ورثته من بعده؛ الأمثل فالأمثل، كلٌّ له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله بحسَب متابعته له"[1
1- لقد اقتضت إرادةُ الله سبحانه أن يمنح اﻹنسان اختيارًا في هذه الحياة تكريمًا له، وبمقتضى هذه المنحة قد يسيء فيظلم اﻷبرياء، ويلحق اﻷذى بهم؛ولهذا كان أنفع دواء يتحصن به أمام هذا الابتلاء هو: الدفع بالتي هي أحسن مع التحلي بالصبر الجميل.
قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20].
2- وقد لاحظت من خلال تتبعي لقوانين الابتلاء في القرآن الكريم:
أن العبرة بالنتائج، وأن العاقبة للمتقين مهما اشتدت المصائب، وتعاظمت الكروب.
وأن الخزيَ على الظالمين مهما طال الزمن، وأن العصاة والكافرين يعاقَبون نتيجة ظلمهم وبغيهم،مع اﻹشارة إلى أن الابتلاء تحكمه قاعدتان، هما: العدالة والحكمة.
3- أن القاعدة العامة في العقوبات اﻹلهية التأجيل؛ يدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].
وأن الله ليس بغافل عما يفعل الظالمون؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
4- ولكن قد تُعجَّل العقوبة، وقد تدفع بليَّة لحكمة إلهية، وقد يكون سبب ذلك دعوة مستجابة، أو نصرة مظلوم.
واﻷمثلة كثيرة في القرآن الكريم، لا سيما في سورة الكهف، وقد أشرت إلى ذلك في مقالي: سورة الكهف وتحقيق العدالة اﻹلهية، (منشور في الشبكة العنكبوتية).
وقد جاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاءُ فيعتلجانِ إلى يوم القيامة))[1].
قال الغزالي: "فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاءَ لا مردَّ له؟ فاعلم أن مِن جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء؛ فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن البَذْرَ سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أن التُّرْسَ يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء"[2].
5- مِن العقوبات المعجَّلة في الدنيا: الظلم، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين:
قال ابن رجب: "الغالب أن الظالمَ تعجَّل له العقوبة في الدنيا وإن أُمهِلَ؛ فإن اللهَ يُملي له حتى إذا أخَذه لم يُفْلِتْهُ".
يدل على ذلك: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّلَ الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة، مِن البَغْي، وقطيعة الرحم))[3].
6- أن الحكمةَ من الابتلاء هي الامتحان، وبعدها يكرم المرء أو يهان؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]؛ ولهذا فإن الابتلاءَ له تعلُّق بموضوع اﻹيمان بالقدر خيرِه وشرِّه، فليتنبه لذلك.
ويراجع في ذلك مقالي: "اﻹيمان بالقدر أعظمُ اختبار في الحياة!"؛ (منشور في الشبكة العنكبوتية).
7- وأن أفضل حصانة للثبات في وجه أعاصير الابتلاء، وزلازل الامتحان، هي: التحقُّق باﻹيمان، والتحلي بالصبر، والاعتصام بالتوكل على الله سبحانه.
قال اﻷستاذ بديع الزمان رحمه الله تعالى:
"فالمؤمن يعتقد بما يقول؛ لذا يجد في كل شيء بابًا ينفتح إلى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شيء مسخَّر لأمر ربه، فيلتجئ إليه بالتضرع.
ويتحصن أمام كل مصيبة مستندًا إلى التوكل، فيمنحه إيمانُه هذا الأمانَ التام، والاطمئنان الكامل.
فلو أصبحت الكرة الأرضية قنبلةً مدمرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابدًا لله ذا قلب منور، بل قد ينظر إليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصَّمدانية، ويتملَّاها بإعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفًا - ممن يعد ذا عقل راجح - إذا رأى في الفضاء نجمًا مذنبًا يعتَوِرُه الخوف، ويرتعش هلَعًا ..".
8- وبعد الصبر تأتي منزلة أعظم، وهي منزلة الرضا على المصائب، لا المعاصي والمعايب، ولهذا البحث تفصيلٌ يُنظَر في مظانِّه.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إن عظمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخِط فله السُّخْط))[4].
وقد كان مِن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأسألك الرضا بعد القضاء))[5].
9- وقد صدق من قال: "من أهم وسائل العلاج عند البلاء أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، فحظك منها ما أحدثته لك، فاختَرْ خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثَتْ له سخطًا وكفرًا، كتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعًا وتفريطًا في ترك واجب، أو في فعل محرم، كتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضًا على الله، وقدحًا في حكمته، فقد قرَع باب الزندقة، وإن أحدثت له صبرًا وثباتًا لله كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضا عن الله، كتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين، وكانت تحت لواء الحمد مع الحامدين، وإن أحدثت له محبة واشتياقًا إلى لقاء ربه كتب في ديوان المحبين المخلصين".
10- وهناك منزلةٌ أخرى بعد الرضا، وهي السرور بالمقدور؛ فهذا عمرُ بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى يقول: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر"[6].
11- ومِن أسباب التحصن من الابتلاء:
أن نسأل الله العافية، وقد علمنا رسول الله أن نسأل الله العافية في عدد كبير من النصوص، وفي مناسبات متعددة.
• منها: ما جاء عن العباس بن عبدالمطلب أنه قال: قلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله قال: ((سل الله العافية))، فمكثت أيامًا، ثم جئت فقلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: ((يا عباسُ، يا عمَّ رسول الله، سلِ الله العافية في الدنيا والآخرة))[7].
• ومنها: ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَعُ هؤلاء الكلمات إذا أصبح وإذا أمسى: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العَفْو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استُرْ عَوْراتي، وآمِنْ رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظَمتك من أن أغتال من تحتي))[8].
• ومنها: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من جَهْد البلاء، ودرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء"[9].
12- ومِن أسباب تخفيف وطأة الابتلاء عند وقوعه: عدم كثرة الحديث حوله، ويمكن أن يستفاد ذلك إشارة مما حكاه الله سبحانه في قصة مريم:
﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26].
13- وأن الابتلاءَ كما يكون بالشر، قد يكون بالخير؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
وقد ابتلى اللهُ سبحانه نبيَّه سليمانَ بالمُلْك، فكان من الشاكرين، وقال عنه: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30].
وابتلى أيوبَ بالمرض، فصبر، وقال عنه: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكر، فكانت خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكانت خيرًا له))[10].
14- وأن أشد الناس بلاءً الأنبياءُ؛ فقد جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسَب دِينه، فإن كان دِينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دِينه رقةٌ ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئةٌ))[11].
15- ولكن ما هي الحكمة من ابتلاء الأنبياء وهم عباد مكرمون معصومون؟
قال ابن القيم: "فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم:
أ- ليستوجبوا كمالَ كرامته.
ب- وليتسلى بهم مَن بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أُوذوا من الناس، فرأَوْا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضُوا وتأسَّوْا بهم.
ج- ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة، فيمحَقهم بسبب بَغْيهم وعداوتهم، فيعجل تطهير الأرض منهم.
فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إلهَ غيرُه، ولا رب سواه"[12].
ثانيًا: أنواع الابتلاء:
لاحظت أن الابتلاء في القرآن الكريم:
1- قد يكون لرفعة المنزلة وزيادة الحسنات؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله تعالى يبتليه بما يكره حتى يبلِّغَه إياها))[13].
2- وقد يكون للتأديب والتهذيب.
ويراجع في ذلك مقالي: "الابتلاء بين التكريم والتأديب" المنشور في الشبكة العنكبوتية.
3- وقد يكون للتنبيه والتحذير.
4- وقد يكون للعقوبة واﻹهانة، نسأل الله العافية والسلامة،وهذا لا يكون إلا للعصاة والكافرين.
وتفصيل ذلك باﻵتي:
1- من ذلك: أن الابتلاء يذكر اﻹنسان المبتلى بالرجوع إلى الله تعالى وشرعه؛ قال تعالى: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168].
2- ومِن حِكم الابتلاء أنه تربية:
فهو يهذِّب النفوس ويعيد التوازن لمن أصيب بالاختيال والفخر واﻹعجاب بالنفس والمال والولد،والثياب والبيت،والمحلة والبلد..
أليس قد قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23].
إن الطريقَ في الوصول إلى الله سبحانه صعبٌ، وفيه مخاوف، قال ابن القيم: "الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجِع للذبح إسماعيل، وبِيعَ يوسف بثمن بخسٍ، ولبِث في السجن بضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريا، وذُبِح السيدُ الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوبُ...وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمدٌ صلى الله عليه وسلم"[14].
3- ابتُلِيَ صاحب الجنتين بسبب كلمة قالها، وقد حكى لنا الحق سبحانه قوله: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]؛ فكانت النتيجة: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ...وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ [الكهف: 42]! فكان بلاءً شديدًا!
4- ومن حِكم الابتلاء: التدريب على الصبر:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
5- ومَن هم الصابرون؟ وما ثوابهم؟
قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157].
6- ومن حِكم الابتلاء: تذكير العباد بالله تعالى:
وأن سَلْبَ النِّعَم مِن دلائل غضبه وإعراضه عنهم؛ لعلهم يرجعون.
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 130].
7- الابتلاء والمِنَح الإلهية:
قد يكون الابتلاء وسيلة لرفعة المنزلة، وزيادة الدرجات، لا سيما إذا كان بسبب حسد الحاسدين، وضغائن المنافقين، وما وقع للسيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة اﻹفك خيرُ مثال على ذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11].
8- لا تحزَنْ:
ابتُليَ إبراهيم عليه السلام بمعاداة أبيه وقومه له، وبالإلقاء في النار؛ قال الله تعالى: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 70].
وابتُلي بتأخُّر إنجاب اﻷولاد، ثم ابتُلي بالأمر بذبح ابنه إسماعيل؛ قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 102 - 107].
والنتيجة: أن اللهَ سبحانه نجَّاه مِن كل اﻷهوال، ورزقه اﻷولاد: إسحاق، وإسماعيل، ثم فداه حينما أمر بذبحه..
وأصبح أمَّةً وحدَه، وأُعطي لقب: "خليل الله"، و"أبو اﻷنبياء".
9- لا تحزن:
ابتُلي يوسف عليه السلام من إخوته بدافع الحسد والغَيرة، وحصل اضطراب كبير في هذه اﻷسرة النبوية المباركة..
ولكن كانت النتيجة: ويوسف بعد الجب والسجن مَلِكٌ.
10- لا تحزن:
ابتُلي نبيُّ اللهِ أيوبُ عليه السلام بالمرض الشديد، فصبر، فكان رمزًا للصبر في اﻷرض!
وكانت النتيجة: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
11- لا تحزن:
ابتُلي نبي الله زكريا عليه السلام بالحرمان من الولد، فصبر، وقد نادى ربه: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89] ،كلمات قليلة لكنها صادقة.
والنتيجة: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 90].
12- لا تحزن:
فارَق يونسُ عليه السلام قومَه غاضبًا عليهم؛ لأنهم لم يستجيبوا لدعوته، بدون إذن ربه، ظنًّا منه أن اﻷمر واسع، وأن الله لن يضيِّقَ عليه ولن يعاقبه؛ قال تعالى: ﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: 87]؛ فابتُلي بأن ابتلَعَه الحوتُ؛ ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].
والنتيجة: نجَّاه اللهُ سبحانه، وكانت هذه الدعوةُ المباركة سببًا لنجاة المؤمنين.
قال سعد: يا رسول الله، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: ((هي ليونسَ بنِ متَّى خاصة، وللمؤمنين عامة إذا دعَوا بها)).
ألم تسمَعْ قول الله: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].
وابتلاء يونسَ عليه السلام يُعلِّمُنا دقة التعامل مع الله سبحانه.
وكانت تجربة فريدة بكل المقاييس، وكأن الحق سبحانه يقول: يا يونسُ، إني قادر على إخراج قومك مِن بطن الكفر إلى سَعة اﻹيمان، كقدرتي على إخراجك من بطن الحوت إلى اليمِّ، وكان عليك الصبر وعدم المغادرة حتى يأذَنَ اللهُ.
ثم أُرسِل إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمَنوا جميعهم...
قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [الصافات: 139 - 148].
13- وابتُلي نوحٌ عليه السلام بابنه، الذي ابتعد عن رحاب بيت النبوة، وانحاز إلى معسكر المعرضين عن الله سبحانه، الجاحدين لربوبيته.
لكن الوالد الحنون، وهو في اللحظات الأخيرة مِن وقوع العذاب، يناديه: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، فيُجيبه بلغة التمرُّد والعناد اﻷعمى: ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ﴾ [هود: 43]، والنتيجة: ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [هود: 43].
ومع ذلك، فإن مشاعرَ اﻷبوَّة تأمل في نجاته؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [هود: 45].
فيأتيه الجوابُ الحاسم: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46].
14- وابتُلي نبيُّ الله لوطٌ عليه السلام بزوجته التي خانت بيت النبوة، وانحازت إلى القوم المفسدين، والنتيجة:
قال الله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾ [هود: 81].
15- تأمَّل حال الكليم موسى عليه السلام، وما آلت إليه محنته وفتونه؛ مِن أول ولادته إلى منتهى أمره حتى كلمه الله تكليمًا، وقرَّبه منه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره؛ فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسرت، وأخذ بلحية نبي الله هارون وجره إليه، ولطم وجهَ ملَكِ الموت ففقأ عينه، وخاصم ربه ليلة الإسراء في شأن رسول الله، وربه يحبه على ذلك كله، ولا سقط شيء منه مِن عينه، ولا سقطت منزلته عنده، بل هو الوجيه عند الله القريب، ولولا ما تقدم له من السوابق وتحمُّل الشدائد والمحن العظام في الله ومقاساة الأمر الشديد بين فرعون وقومه ثم بني إسرائيل وما آذَوْه به وما صبر عليهم لله - لم يكُنْ ذلك.
16- تأمَّل حال المسيح صلى الله عليه وسلم وصبره على قومه واحتماله في الله، وما تحمله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهَّره من الذين كفروا، وانتقَم مِن أعدائه، وقطَّعهم في الأرض، ومزَّقهم كل ممزَّق، وسلَبهم مُلكَهم وفخرَهم إلى آخرِ الدهر..
17- فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتأملت سيرته مع قومه وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلوُّن الأحوال عليه مِن سلم وخوف، وغنًى وفقر، وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه، وتركه لله، وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يؤذَ نبيٌّ ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعطَ نبي ما أعطيه؛ فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخَلْق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفًا وفضلًا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حال ورثته من بعده؛ الأمثل فالأمثل، كلٌّ له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله بحسَب متابعته له"[1