تابع – سورة القلم
محور مواضيع السورة :
قال محمد الغزالي:
{ن والقلم وما يسطرون}. هل القلم المقسم به هو أداة المعرفة العامة؟ ربما، فالكتابة من أهم وسائل المعرفة. أو المقصود كتابة القرآن نفسه وتسجيل ما حوى من حكمة بالغة؟ هذا هو الأظهر هنا. فالقرآن الكريم أهم كتاب ظهر في الدنيا، وهو من ألفه إلى يائه وحى خالص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد اختار الله لتبليغه الإنسان الأول في الوجود فكرا وشرفا وسيرة، فلا قيمة لكلام الأعداء {ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم}. أما أعداء الوحى، فنفر من الناس لا يزينهم شيء، وستكشف الأيام عن دعاواهم وأحوالهم- وقد كشفت- فذهبوا بددا وبقى الإسلام. وقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة}، يفيد أن مشركى مكة سوف يتأبون على الإسلام أولا ثم يعرفون الحق، ويدخلون فيه وينصرونه. وذاك ما وقع! فإن ملاك الحديقة المذكورة شحوا بحق الفقراء فيها، فأهلك الله ثمرها فلما ندموا على رذيلتهم {قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون}. ومن يرغب إلى الله يتب الله عليه، ويلقه بقبول حسن. وقد أعز الله قريشا بالإسلام بعدما أهانت نفسها بالكفر. أما المصرون على زيغهم فلا مستقبل لهم {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون}؟ ومنطق الكفار في شتى الأحوال لا يسانده عقل ولا نقل، ولذلك قال الله سبحانه متهكما بهم {أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون}. إنه لا شيء لديهم يستندون إليه سوى الغرور والتعلق بالأوهام. وأمامهم حساب شاق يندمون فيه، ولات ساعة مندم {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون}. وكشف الساق مثل لبلوغ الأمر غاية.
ولا عذر للكافرين في هذا الموقف؟ فقد خوطبوا فعاندوا، وأعطوا فرصا شتى فأضاعوها {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والصبر على متاعبه وتحمل أذى المشركين مهما بلغ {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت..}. وقد مرت على صاحب الرسالة ليال كالحة عانى فيها من الحرج والألم ما يهز الرواسى، ولكنه ثبت حتى أدى الأمانة كاملة. وترك رسالة يحرسها جيل جليل نفخ فيه من روحه وبأسه فنشرها في العالمين. وعالمية الإسلام مذكورة في آيات كثيرة، وبدأ ذلك في أوائل الوحى النازل بمكة {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين}. لقد عرف محمد أنه رسول العالم أجمع من وقت مبكر. فسورة القلم المكية من أوائل السور نزولا..
سميت هذه السورة الكريمة بسورة القلم لأنها ابتدأت بالقسم على رفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وبراءته مما ألصقه به المشركون من اتهامه على أنهّ صلى الله عليه وسلم ساحر ومجنون, وعلى رأسهم الوليد بن المغيرة لعنة الله على الظالمين.
هذه السورة المكية شأنها شأن ما سبقها من السور التي تعنى بأصول العقيدة والايمان, وقد تناولت أربعة مواضيع أساسية:
1. موضوع الرسالة والشبهات التي أثارها كفار مكة حول دعوته صلى الله عليه وسلم, ما انت بنعمة ربك بمجنون* وانّ لك لأجرا غير ممنون* على ما تحملت من الأذى في سبيل الحق وتبليغ دعوة الله , أجرا غير مقطوع ولا ممنوع, يامن تتصف بالأدب الرفيع والخلق الفاضل الكريم ,االذي جمعت لك فيه كل الفضائل والكمالات الانسانية , وانك لعلى خلق عظيم.
ما هذا الشرف العظيم الذي لم يدرك شأوه بشر من قبللك يا نبي الله صلى الله وسلم وبارك عليك ما ذكر الله عزوجل الذاكرون وما غفل عن ذكره الغافلون, , فأي شرف يا نبي الله وربّ العزة تبارك وتعالى يصفك بهذا الوصف الجليل: وانك لعلى خلق عظيم, وأيّ كرامة تنالها أيها النبي الكريم؟ صلى الله وسلم عليك تسليما كثيرا, عليه وسلم؟
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسم بالمثل والأخلاق العظيمة, اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر, فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم: الصدق,العلم, الحلم, شدة الحياء, كثرة العبادة, السخاء, الصبر, الشكر,التواضع, الزهد, الرحمة, الشفقة, حسن العشرة, والأدب, الى غير ذلك من الخلال والصفات الكريمة العالية والأخلاق الفاضلة, ورحم الله من قال فيه صلى الله عليه وسلم:
اذا الله أثنى بالذي هو اهله عليك
فما مقدار ما تمدح الورى؟
2. عدم طاعة أحد في معصية الخالق, وعلى رأسهم رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا بالرسالة والقرآن, وأمره بعدم طاعة الفاجر الحقير المغتاب والذي يمشي بالنميمة بين الناس, والبخيل الممسك يده عن الانفاق في سبيل الله, وكل ظالم متجاوز في الظلم والعدوان, كثير الآثام والاجرام, الجاف القاسي غليظ القلب , والعديم الفهم , وابن الزنى اللقيط والذي اطلق عليه القرآن الكريم لفظ الزنيم اسما, وما الى ذلك من الأوصاف اللعينة الذميمة التي أجمع المفسرون وعلى رأسهم ابن عباس رضي الله عنما أنّ هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة الذي كان يسهزأ يستهزيء بآيات القرآن الكريم كلما تليت, ويقول عنها خرافات وأباطيل المتقدمين اختلقها النبي صلى الله عليه وسلم, ونسبها الى الله عزوجل, فأنزل الله تبارك وتعالى ردا على ادعاءاته الباطلة قوله: سنسمه على الخرطوم, أي سنكويه له أنفه لتبقى له علامة يعرف بها الى موته, وكني بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به, لأنّ الخرطوم للفيل والخنزير, فاذا شبه أنف انسان به كان في غاية الاذلال والاهانة, وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش, وقد خطم يوم بدر بالسيف, لأجل ذلك يقال في الذليل رغم أنفه, واذا كانت السمة على الوجه فيها شين فما بالنا ان كانت من الوجه؟
وقد قيل أنّ الوليد بن المغيرة كان دعيّا في قريش وليس منهم, بمعنى أنه دخيل عليهم , ولم يعرف الوليد بن المغيرة نفسه أنه ابن زنى الا بعدما نزل فيه تسع آيات فيها تسع صفات من صفاته القبيحة, وقد ختمها الله تعالى بزنيم, والزنيم هو ابن الزنا, وقد روي أنه عندما نزلت التسع آيات التالية: فلا تطع المكذبين* ودّوا لو تدهن فيدهنون* ولا تطع كلّ حلاف مهين* همّاز مشّاء بنميم* منّاع للخير معتد أثيم* عتلّ بعد ذلك زنيم, جاء الوليد الى أمه وقال لها: أنّ محمد (صلى الله عليه وسلم) قد وصفني بتسع صفات كلها ظاهرة فيّ وأعرفها غير التاسع منها, ويقصد بذلك لفظ زنيم, والزنيم بلغة العرب هو اللقيط أو ابن الزنا, ثم قال لها بلغة التهديد: ان لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك بالسيف, فقالت له: انّ أباك كان عنينا (أي لا يستطيع معاشرة النساء) فخفت على المال الكثير الذي بحوزته أن يذهب لغيري, فمكنت راعيا من نفسي وحملت بك , وهو لا يعلم الا أنك ابنه, وأنت ابن ذلك الراعي.
( يتبع )
|