منتديات سكون القمر

منتديات سكون القمر (https://www.skoon-elqmar.com/vb//index.php)
-   ۩۞۩{ الشريعة الإسلامية والحياة }۩۞۩ (https://www.skoon-elqmar.com/vb//forumdisplay.php?f=2)
-   -   التعريف بسور القرآن الكريم وأسباب النزول ومحاور ومقاصد السور (https://www.skoon-elqmar.com/vb//showthread.php?t=190745)

مديح ال قطب 01-31-2021 01:11 PM



https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif



تابع – سورة الملك

قال محمد الغزالي:

الدنيا دار لها ما بعدها. والتدين الفاسد يستقبل هذه الحقيقة بالنواح والتشاؤم، لا بالعمل الجاد والاستعداد للخلود الدائم. إن تحديد الموقف من الآخرة لابد منه في مواجهة الحضارة المعاصرة. وهذا التحديد يفرض علينا أن ندرس الحياة وأن نعرف الحكمة من الوجود الموقوت بها. إن العقل البليد الذي لا يدرس الحياة ولا يستعد لما بعدها ليس هو العقل المؤمن. وسورة الملك تنبه إلى هذا في كلمات واعية {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}. {الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت}. {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح...}. والمحزن أن العقل الإسلامى الآن جهول بالكون، تائه عن قوانينه، ضعيف الخبرة بها والقدرة على استغلالها.. وهنا شيء آخر انضم إلى هذا العجز: شراهة في طلب الملذات والعكوف عليها مع السماع إلى أغان تقول له الدنيا ضحك ولعب وعش أيامك عش لياليك. واليوم الفائت لن يعود أبدا، فلماذا تضيعه؟ وهكذا تجمعت على المسلمين كل الهزائم المادية والروحية.. فلا عجب إذا هددوا بمصاير الكفار الذين إذا رموا في جهنم {سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء..}. {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}.


المفروض أن العقل المؤمن أخبر بالحياة وأذكى في الكون من العقل الملحد، لأن الإيمان بالله يقوم في الإسلام على تأمل في الكون ووعى بآيات الله في آفاقه! إنه لشيء يثير الحزن والقلق أن نجد المسلمين في مؤخرة القافلة البشرية على النحو الذي يقول فيه الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ** ولا يستأمرون وهم شهود!!

قد يكون الإيمان بالله من الغيوب التي يعمل فيها العقل عمله، ولكن أثر هذا الغيب في النفس أقوى من الحواس كلها لأن المرء قد يضحى بروحه استجابة لهذا الغيب، وقد يترك أشهى الملذات استجابة، لوحيه ولذلك قال الله سبحانه: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}.


ومع الإيمان بالغيب هناك سيطرة على عالم الشهادة ومهارة في تطويع فجاج الأرض لما ينشده المسلم من تمكين وسيادة {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه...} ومع الأكل من هذا الرزق فمستقبل الإنسان ليس هنا.. إنه عند الله {... وإليه النشور}. والآية الأولى في هذه السورة تشير إلى أن الله بيده الملك. وقد صرحت آيات أخرى أنه بيده الفضل، وبيده الخير، وأن الأرض جميعا قبضته، وأن السموات مطويات بيمينه. إن استمكانه من ملكه-جل شأنه- لا نظير له، ويستحيل أن يقوم له معترض! ولذلك يقول للكافرين {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا...}.


إن تعبير {من في السماء} نموذج من تعابير أخرى تصف الملكوت الإلهى. فإن الله، وإن كان مستويا على عرشه فعلمه وسمعه وبصره وقيامه على كل نفس وتدبيره لكل أمر وإمساكه لكل ذرة في السموات والأرض، تجعله جل شأنه لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء ولذلك يقول: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}. ويقول: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا}. ويقول: {وهو معكم أينما كنتم}. إن شهود الله علينا لاشك فيه. ومن التطاول البحث في كنه هذا الشهود، إننا لا نعرف كيف يحول الله اللقيمات التي نطعمها إلى عيون وآذان، فكيف نعرف كنه ذاته وقربه؟ إن الله أقرب إلينا من أنفسنا ولكنا أعجز من أن نبصر!! وحسبنا إذا علمنا ذلك أن نستنصر به ونسترزقه ونعد غيره صفرا كما بين لنا في هذه السورة {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور}.

وتتحدث السورة في آخرها عن الكافرين الذين يحاولون نقل المعركة إلى الرسول وأتباعه من المؤمنين، فيسائلهم: ما جدوى ذلك عليكم إذا كنتم أغبياء تعمون عن الواقع حتى تصطدموا به؟ هل قصور الآخرين- كما زعمتم- يشفع لكم ويسوغ ضلالكم؟ {قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين}.


وتختم السورة بسؤال إلى عبيد المادة الذين ينكرون ربها المسخر لها {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين}؟ حكوا أن أحد الملاحدة سمع هذه الآية فقال: تأتينا به الفئوس والمعاول! أي أن تعميق الحفر في البئر سيخرج الماء حتما! وشاء الله أن يغيض ماء عينه فيعمى! فهل قدر أحد على رد بصره؟ نعوذ بالله من الخذلان.

التدبر في سورة الملك

بدأت السورة المكية بقوله . سبحانه وتعالى .(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ملك وقدرة، ملك بدون قوة وبدون قدرة لا يُسمى ملكاً. ملك الله . سبحانه وتعالى .ليس فقط مجرد ملك على سبيل التجوز كما يقال لفلان ملك ولفلان رئيس ولفلان مسؤول أو ما شابه، لا. ملكه جل في علاه القدرة على التصرف فيه هبة ومنعاً وعطاء وأخذاً ورداً وإزالة وإقامة ملك كامل وهو قادر على تحقيق هذا الملك . سبحانه وتعالى .، فكل ما في هذا الملكوت الإنسان الشجر الطير ما سيأتي من قضايا ذكرتها السورة في الثلاثين آية لا تخرج عن إرادته . سبحانه وتعالى .بأي حال من الأحوال حتى القطرة التي نشرب حتى الطير الذي يحلّق بجناحيه في الفضاء لا يستطيع أن يفرد جناحيه ويقبض الجناحين إلا بإرادته سبحانه، هو الذي عل"م هو الذي أعطى، هو الذي وهب، هو الذي منح، حتى أنفاس الحياة هو سبحانه من يمنحها. هذا الملك العظيم الواسع بيده . سبحانه وتعالى .ولا يخرج عن قدرته . سبحانه وتعالى .. ولذا جاءت الآية التي تليها مباشرة لتترك للإنسان مساحة لكي يحاول أن يقارن إن صحت هناك مقارنة -ولله المثل الأعلى- بين من يدعي الملك من البشر كما فعل فرعون على سبيل المثال قال (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي (51) الزخرف). قد يتوهم الإنسان بحكم قدرته الموهومة، بحكم صلاحياته، بحكم ظلمه لنفسه بأنه يمتلك الملك والقوة فجاءته الآية الثانية مباشرة من سورة الملك لتعطيه نوعاً من أنواع النظر في نفسه على وجه الحقيقة لتوقظه بمعنى آخر، لتجعل هذا الإنسان يعود إلى وعيه من جديد بقول الله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) كل من في الأرض ممن يتوهم أو يتصور في لحظة من لحظات الزهو بالنفس أنه يمتلك قوة أو يمتلك ملكاً هل يستطيع أن يدعي القدرة على الموت وعلى الحياة؟ لا يمكن. حتى النمرود بجهله وحماقته حين إدعى أنه يحيي ويميت ما كانت القضية قضية الإحياء والإماتة كما هي في الواقع المعاش الذي نراه أن تتوقف أنفاس الحياة ونبضات القلب أو أن تدب فيه الحياة وينبض القلب، كان مجرد إدعاء وحماقة منه. لا أحد حتى فرعون إستطاع أن يدعي القدرة على الإحياء والإماتة هذا أمر يدخل في ملكه . سبحانه وتعالى ..

( يتبع )




مديح ال قطب 01-31-2021 01:12 PM








https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif





تابع – سورة الملك

التدبر في سورة الملك

سورة الملك وهي تقدّم لي هذا المعنى وهذه الآية الأولى من دلائل ملك الله . سبحانه وتعالى .وقدرته تريد أن تخرج بي من النظرة المألوفة المعتادة التي لا توقظ الضمير، التي لا تبعث الإيمان في قلب المؤمن، التي لا تجدد الإيمان، التي نجعل حتى قضية الحياة والموت قضية مألوفة معتاد عليها. فكل الناس يرون الحياة أمام أعينهم ويرون المواليد الجدد ويرون كذلك الموت ولكن سورة الملك تريد أن تغير هذه النظرة وتخرج بها من قضية الإلفة والإعتياد التي لا تجدد الإيمان إلى إحيائها في قلبي من جديد لتصبح قضية الموت وقضية الحياة قضية غير مألوفة قضية توصلني إلى الإيمان بالله، قضية تقربني من معرفة الله . سبحانه وتعالى .واستشعار هذه المعرفة والوصول بها إلى الخشية من الله . سبحانه وتعالى .. الموت والحياة ليست قضية مألوفة، كون أنها تتكرر في كل ساعة وفي كل يوم وفي كل لحظة ومع كل مخلوق هذا لا يخرج بها عن حد الإعجاز والقدرة العظيمة لله إلى حد الإلفة والإعتياد حتى تصبح مسألة معتادة لا تحرك فيّ ساكناً ولا تجدد فيّ إيماناً ولا تبعث في حياتي ولا في قلبي الإيمان والخشوع والخشية والخضوع لله من جديد هذا ليس بمقبول، كيف؟ تأملوا معي ختام الآية حين يقول الله . سبحانه وتعالى .(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) إذاً الموت والحياة ليست مجرد قضية معتادة ومألوفة، الموت والحياة لهما غاية، لهما ككل شيء في هذا العالم الذي خلقه لله . سبحانه وتعالى .هدف نتيجة المسألة مسألة إختبار. حياتي على هذه الأرض وبقائي على الأرض ليست مجرد رحلة ليست مجرد أيام وسنوات أقضيها وأقلب الأوراق في ثناياها ليست مجرد عد للأيام دون حساب ولا كتاب، أبداً. القضية من ورائها هدف ما هو الهدف؟ ليختبركم أيكم أحسن عملاً من منكم من هؤلاء البشر الأعداد المهولة من البشر منذ أن خلق الله آدم . عليه السلام .إلى قيام الساعة من منكم يستطيع أن يقدم أحسن العمل بين يدي الله . سبحانه وتعالى .؟. ودعونا هنا نتوقف للحظات أليس الله . سبحانه وتعالى .وهو اللطيف الخبير -كما ستأتي علينا في السورة- أليس بعالم من سيقدم من خلقه أحسن العمل من أسوأ العمل؟ بكل تأكيد، ولكنه . سبحانه وتعالى .من تمام عدله ورحمته وكرمه مع خلقه أنه لم يقم الحجة علينا بعلمه بل أراد أن يقيم الحُجة علينا بأعمالنا وتصرفاتنا وسلوكياتنا. هو يعلم في سابق علمه سبحانه من منا سيقدم أحسن العمل ومن منا لا يقدم ولكنه مع ذلك أراد أن يقيم الحُجّة علينا بأعمالنا وسلوكنا من خلال ما نقدمه في إختبارنا في هذه الأرض، إذاً هو الإختبار هو الإبتلاء هو الإمتحان، نحن نصبح ونمسي ونحن نمتحن نحن في قاعة إمتحان الدنيا بأكملها من أولها لآخرها بليلها ونهارها هي قاعة إمتحان هي فترة إمتحان، متى سأضع القلم؟ بيد الله . سبحانه وتعالى .، في علم الغيب، متى ستنتهي الفرصة والفترة المخصصة للإمتحان؟ بيد الله . سبحانه وتعالى .وليس بيد أحد سوى الله . سبحانه وتعالى .ولذا قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)

سورة الملك كما سنأتي عليها في تدبر الآيات تقدم لي الخطوات كإنسان كما هو كل القرآن، القرآن ليس لمجرد التلاوة أن أتلو كل ليلة سورة الملك وتنتهي المسألة، لا. القرآن يؤسس القرآن يغير القرآن يحيي القرآن يبني القرآن يبثّ الحياة ويجدد الحياة في إيماني وتوحيدي وفي صلتي بالله . سبحانه وتعالى ..

في سورة الملك الآيات تسير معي خطوة بخطوة للوصول إلى درجة أحسن العمل، كيف أقدِّم أحسن العمل؟ أحسن العمل كما ورد في كثير من الآثار والأقوال للعديد من الصالحين والعلماء هو أخلَص العمل وأصوبه. أخلص أي أن أقوم بالعمل الذي أقوم به وأقدمه بين يدي الله . سبحانه وتعالى .ولا أرى أحداً سوى الله . سبحانه وتعالى .في عملي بمعنى آخر أن أنقي العمل من كل شائبة لا أعمل من أجل مدح الناس وثناء الناس لا أعمل لكي يقال فلان كريم وفلان شجاع وفلان جريء وفلان حافظ للقرآن وفلان كذا وكذا، لا أعمل من أجل أن أنال أجراً من أحد، لا أعمل لأجل أن أنال مسألة مادية في الدنيا، لا أعمل لأجل أحد أعمل لأجل الله وحده، ولكي أصل إلى مرحلة الإخلاص هذه المرحلة العظيمة عليّ أن أكون أكثر خشية وأكثر معرفة بالله سبحانه وهو ما تقدمه لي آيات سورة الملك. إذاً أحسن العمل أخلصه وأصوبه أي ما كان وفق ما جاء به الله . سبحانه وتعالى .من أوامر في القرآن وما جاء على لسان حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم في سنته.

سورة الملك بآياتها العظيمة تبدأ معي خطوة بخطوة بعد أن جاءت الآية الثانية في الحديث عن الإعجاز والمعجزة العظيمة في قضية الخلق وفي قضية الموت والحياة بدأت تأخذني إلى عالم آخر، العالم الذي أراه أمامي عالم الشهادة وليس عالم الغيب. عالم الشهادة الذي يبصِّرني بخلق السماوات والأرض، تدبروا معي قول الله . سبحانه وتعالى .(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)) الآيات تأخذني إلى عبادة أخرى أيّ عبادة؟ عبادة النظر في خلق السماوات، هذا الخلق العظيم، هذا الخلق الذي يريدني الله . سبحانه وتعالى .أن لا أمرّ عليه كما أفعل في كثير من الأحيان مرور الكرام، بمعنى آخر أن لا أكتفي فقط بنظرة عابرة مألوفة للسماء ثم أنبهر بجماله وأقول يا سبحان الله! وتنتهي القصة عن هذا الحد، لا، سورة الملك تريد مني أن أكرر النظر مرة بعد مرة ليست مجرد نظرة عابرة ولماذا تريد مني هذه النظرة؟ لما تريد مني سورة الملك أن أنظر وأتدبر وأتأمل في السماوات والأرض؟ لأصل إلى حقيقة واحدة أن هذا الخلق العظيم ليس فيه تفاوت ليس فيه خلل ليس فيه قصور ليس فيه أي نقص هذا الخلق على سعته التي لا أستطيع أنا كإنسان أن أنظر كل السماوات بأطرافها هذا الخلق العظيم لا يمكن أن يقوم به إلا الله . سبحانه وتعالى .. خلقٌ يقودني إلى معرفة الله، خلق يقودني إلى القول بسبحان الله ولكن تسبيح يليق بجلاله . سبحانه وتعالى .يليق بعظمته ينكسر فيه القلب إيماناً وخضوعاً وإذعاناً وتسليماً للخالق . سبحانه وتعالى .. بمعنى آخر أن أتحوّل من النظرة العابرة التي إعتدنا عليها في مثل هذه الأيام وربما قد لا ننظر مع وجود الحضارة المعاصرة ووجود الأسقف إلى آخره بدأنا للأسف الشديد نبتعد عن هذه العبادة العظيمة التي هي ليست لا تخص فقط الجانب الإيماني أو الروحي فينا بل تمس حتى الجوانب النفسية كبشر، أنا بحاجة أن أتوصل مع الطبيعة، أنا بحاجة إلى أن أنظر لهذا الخلق وكل الدراسات العلمية الحديثة تؤكد أهمية النظر في الطبيعة، أهمية أن تكون هناك صلة بيني كإنسان وبين هذا الخلق.
سورة الملك جاءت بتحدي عظيم لتبثّ في نفسي من جديد عبادة غفل عنها الكثيرون عبادة التفكر من أعظم العبادات أن أتفكر في ملكوت السماوات والأرض. ودعونا هنا كذلك نتوقف لحظة عند قول السيدة عائشة رضي الله عنها عن أعجب شيء رأته في حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم حين سُئلت عن ذلك فقالت: لما كان ليلة من الليالي قال لي رسول الله . صلى الله عليه وسلم .يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي فقلت والله إني لأحب قربك وأُحب ما يسرك، قالت فقام النبي . صلى الله عليه وسلم .فتطهّر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره وكان جالساً ولم يزل يبكي حتى بلّ لحيته ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي أشفق عليه بلال وقال يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال له النبي . صلى الله عليه وسلم .أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران). عبادة التفكُّر المنسية في عالمنا المعاصِر، المنسية بما إصطنعناه من مشاغل موهومة، المشاغل موجودة دائماً، المشاغل كانت موجودة في حياة النبي . صلى الله عليه وسلم .في تلك الليلة التي حمل فيها همّ أمة أمة كانت موجودة معه قد حمل الرسالة لها وأمة لم تأت، نحن. هذا النبي العظيم بمشاغله العظيمة الجمّة وجد وقتاً وزمناً كافياً ليقوم بهذه العبادة العظيمة عبادة التفكر في خلق السماوات والأرض وينبه أمته عليها وعلى أهميتها وأنها من الأهمية بمكان بحيث أني لا بد مهما كانت مشاغلي أن أخصص لها وقتاً من الزمن أقتطع وقتاً من زمني من عمري من حياتي لأنظر في هذا الخلق ليس مجرد نظرة عابرة كما ذكرنا، نظرة تقودني إلى عبادة التفكر تحيي وتجدد في قلبي الإيمان بالله تعرفني بموقعي على هذه الأرض أنا مجرد إنسان عابر سبيل، أنا سائر، أنا مسافر، أنا إنسان أقوم برحلة لن أبقى على هذه الأرض، ماذا قدّمت؟ أين أنا من إحسان العمل؟ ماذا قدمت لله؟ هل أنا من الفائزين فأهنئ نفسي وأبارك؟ أم أنا من الخاسرين فأعزي نفسي وأسلّيها وأستدرك الأمر قبل فوات الأوان؟ أين أنا من خشيتي لله؟ أين معرفتي بهذا الخلق؟ نظرت في السماوات والأرض أين قادتني تلك المعرفة؟ ولذا جاءت الآية كما ذكرنا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (28) فاطر) أنا أحتاج إلى معرفة وعلم ونظر يقربني إلى الله وليس أنه يباعدني عنه. العلم المعاصر الذي نعيش اليوم وقته وزمانه أين وصل بنا؟ هل قرّبنا إلى الله؟ هل أوصلني فعلاً إلى درجة الإيمان بالله . سبحانه وتعالى .؟ أم أين وصلت؟ أحتاج أن أتفكّر ولذا جاء في حديث النبي . صلى الله عليه وسلم ."ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها" ويل، خسارة كبيرة، ليست مجرد الويل والوعيد. خسارة لي أنا كإنسان أن أمرّ مرور الكرام مرور عابر على كل الآيات التي يمكن لها إذا تفكرت فيها حق التفكر والتدبر أن تصل بي إلى التعرف على الله . سبحانه وتعالى .فإذا وصلت ربحت كل شيء، ربحت خيري الدنيا والآخرة.

( يتبع )






مديح ال قطب 01-31-2021 01:13 PM










https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif



تابع – سورة الملك

التدبر في سورة الملك

جاءت الآيات التي تليها بعد أن قالت (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)) بدأ الحديث مباشرة عن جزاء الكافرين لماذا؟ لأن الكفر هو حجاب، هو حائل إصطنعه الإنسان بكفره فحال بينه وبين التعرف على خالقه . سبحانه وتعالى .بيديه، حال بينه وبين الوصول إلى خالق هذا الكون العظيم، كل شيء في السماء ينطق بأن الله واحد، كل شيء في الأرض، كل آيات سورة الملك التي سنأتي عليها تنطق بشيء واحد أن لا إله إلا الله، كل هذه الآيات أمام عيني ولم تصل بي لمرحلة الإيمان وأنا وصلت إلى مرحلة الكفر! أكيد هناك خلل وخلل عظيم. ولذلك جاءت الآيات (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا) أي في النار (سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)) حتى النار، حتى نار جهنم تتميز من الغيظ على هذا الإنسان الكافر الذي رأى كل ما رأى أمام عينيه ولكنه لم يصغي إلى نداء قلبه وعقله وفطرته السليمة لتلبية نداء الحق . سبحانه وتعالى .. ولذا يأتي نوع من أنواع التوبيخ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) القضية ليست قضية سؤال، القضية توبيخ، القضية زيادة في العذاب لهذا الإنسان الكافر المكذِّب. (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ) وتدبروا معي الآية التي تليها يقول فيها (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) إذن هي وسائل الإدراك التي وهبها الله لخلقه فعطّلها الكافر بكفره وغيّه (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) يا تُرى هل كان هؤلاء الكفار صُمّ؟ عُمي؟ هل كانوا مجانين لا يمتلكون العقل؟ لو كان بالفعل مجاني لما كانوا عُذّبوا أصلاً، كانوا يمتلكون العقل والقلب والسمع والبصر وكل شيء، كل وسائل الإدراك ولكنهم بكفرهم حجبوا تلك الوسائل عن أن تقودهم لمعرفة الله وخشيته فحال بينهم وبينه الكفر. وسائل الإدراك كما يأتي في آيات متعددة في القرآن الكريم (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) وقد يكون الإنسان له آذان ولكن لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها (َلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا) ولذا شبهتهم الآية (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (179) الأعراف) لماذا؟ الأنعام والحيوانات ترى الأشياء وتبصر الأمور والآيات الدالة على خلق الله . سبحانه وتعالى .ولكن ليس مطالباً منها أن تحوّل هذه المعرفة إلى معرفة تقدم فيها أحسن العمل وأصوب العمل أما الإنسان وحده الإنسان مُطالَب ومُكلَّف أن تقوده هذه المعرفة وهذه الوسائل من الأعين والآذان أن تقوده لمعرفة الله وخشيته، وليست معرفة جامدة معرفة متحركة بمعنى آخر معرفة تدفع بي نحو القيام بأحسن العمل تقديم أحسن العمل بين يدي الله . سبحانه وتعالى .، تعرّفت عليه، أدركت بأنه قادر على كل شيء أدركت بأنه عزيز غفور أدركت أن هذا الملك العظيم خلق السموات والأرض لا يمكن لأي أحد مهما بلغ من القوة أن يدّعيه لا يمكن. بعد أن توصلت إلى هذه المرحلة علي أن أتحرّك في إيماني لمرحلة أخرى، ما هي المرحلة؟ خشية الله، هذه الخشية ليست خشية ساكنة وإنما خشية متحركة فاعلة في واقع الحياة تدفع بي نحو أحسن العمل وأخلص العمل، أني حين أقدم العمل لا أقدّمه إلا لله وحده، لا أقدِّمه إلا ابتغاء وجه الله المستحق وحده سبحانه للعبودية، المستحق لأن تقدَّم بين يديه الأعمال وتخلّص من كل شائبة.



تدبروا معي وانظروا في هذه القاعدة العظيمة من قواعد التدبر: الصلة بين الآيات، الصلة والترابط العظيم كل آية تقودني إلى الآية التي تليها لأنها تؤسس تبني فيّ شيئاً، بعد أن قدمت لي مآل الكافرين الذين عطلوا وسائل الإدراك التي وهبهم الله . سبحانه وتعالى .إياها جاءت بي إلى الإنسان الآخر، المؤمن الإنسان الذي تقوده النظرة المتدبرة، الذي تقوده عبادة التفكر في ملكوت السموات والأرض، الذي تقوده العبادات المختلفة في كل شيء، الذي لا يوجد في حياته شيء اسمه مألوف أو عادي، تقول له فلان مات يقول لك عادي! تقول له فلان عاش يقول عادي، تقول له فلان جاءه ولد يقول عادي! لا، ليس بعادي!، الحياة والموت ليست بأمر عادي بل معجزة علي أني كلما تتجدد أمام عيني يتجدد معي بها إيماني بخالقي سبحانه وتزداد عندي نسبة الخشية من الله ولذا جاءت الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)) التفكر الذي يثمر العلم واليقين بعظمة الله . سبحانه وتعالى .حُبّاً وتعلقاً بالله وحده لا شريك له، توحيد. كيف جاءت هذه الخشية؟ ما جاءت من خلال الكلام جاءت من خلال العبادة، سورة الملك تقدّم لي الخطوات التي تصل بي إلى مرحلة الخشية من أعظم وسائل الوصول لخشية الله سبانه وتعالى بالغيب أن أتفكر في ملكوت السموات والأرض أن لا أدع أي منظر أو أي قضية تمر أمام عيني ولا أتفكر فيها ولا تزيد في درجة إيماني وتوحيدي وقربي من الله . سبحانه وتعالى .. والخشية ليست مجرد خوف لا، هي خوف مع مهابة مع تعظيم مع حبّ وتعلق بالله . سبحانه وتعالى .لا يدرك معانيها إلا من ذاقها. ولذا يقول الحسن" تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة. تخيلوا معي كم قيام الله عبادة عظيمة جداً والأجر فيها عظيم ولكن أن أتفكر ساعة في الأمور التي تمر بي في حياتي في خلق السموات والأرض في الموت والحياة، في كل شيء، أيّ تفكر، حتى في النمل حتى في الطير حتى في الماء الذي أشرب، لما أتفكر، هذا التفكر خير من قيام ليلة ولكن متى يكون خير من قيام ليلة؟ إذا أثمر في نفسي وأتت الثمرة ناضجة سويّة، أية ثمرة؟ ثمرة خشية الله . سبحانه وتعالى .. كل تفكر لا بد أن يقودني إلى الخشية من الله . سبحانه وتعالى .وأكثر الناس خشية لله أحسنهم أعمالاً.
هذه الخشية العظيمة هي التي جاءت وفسرت معناها في الآية التي تليها في سورة الملك (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)) خشية تجعل استشعار رقابة الله . سبحانه وتعالى .الرقابة الذاتية حاضرة أمام عينيّ لا يعود هناك فرق بين السر والعلن حتى الخواطر شعوري وإيماني ومعرفتي بأن الله كان عليكم رقيبا يجعلني أراقب الله حتى في الخواطر التي تخطر ببالي، حتى الخواطر أراقب الله . سبحانه وتعالى .، حتى السرّ، أراقب أن الله . سبحانه وتعالى .لا ينظر إلى قلبي أو سرّي فيجد فيه ما يغضبه سبحانه.

نحن لا نُحاسب على هذه الخواطر ولكن ربي . سبحانه وتعالى .في سورة الملك يريد أن يؤسس في مراقبتي في السِر لله . سبحانه وتعالى .، كيف أصل لهذه الرحلة؟ حين أُدرك أن السر عنده علانية لأنه مطلع لأنه العالم اللطيف الخبير العليم ببواطن الأمور عليم بالخواطر فأراقبه حتى في الخواطر. ولنا أن نتساءل إذا وصلت إلى مرحلة أن أراقب الله في الخواطر التي تدور في خلدي بذات الصدور ولا يطلع عليها أحد سوى الله . سبحانه وتعالى .يا ترى كيف سيكون عملي الذي أقدمه بين يدي الله؟ أكيد سيكون من أحسن العمل. وأنا أقول والله لو أن كل كاميرات المراقبة التي في الأرض سُلِّطت على مجموعة من العمال يقومون بعمل معين وصاحب العمل يريد أن يتأكد هل يتقنون أعمالهم أو يضيعون أوقاتهم لا يمكن أن تصل ولا إلى أيّ مرحلة من مراحل استشعار الإنسان بالرقابة الذاتية من قِبل الله . سبحانه وتعالى .، يتقن العمل ليس لأن عليه كاميرا مراقبة، لا، يتقن العمل لأنه قد أدرك أن الله يراقبه في العمل الذي يقوم به في كل شيء، في سكناته، في خواطره، في كلماته، في أقواله، في أفعاله. يا ترى كيف ستكون الدنيا حين تبلغ درجة مراقبة الإنسان لربه . سبحانه وتعالى .واستشعاره بهذه المراقبة في العمل الطي يقوم به كيف ستكون الدنيا؟ كيف يكون الإتقان؟ ستعود عبادة الإتقان والإحسان الغائبة في حياتنا في كثير من الأحيان. الله هو الرقيب، سورة الملك تؤسس في قلبي هذا النوع من العمل، تبين لي كيف أصل لمرحلة العمل أحسن العمل. أحسن العمل ليس بالضرورة أن يكون الأكثر أبداً، الكمّ في القرآن وفي ديننا ليس هو معيار الإحسان، معيار الإحسان في ديننا وفي كتاب الله . سبحانه وتعالى .هو الإتقان، هو الجودة التي نتحدث عنها ليل نهار. آيات القرآن تربي فينا الجودة والإتقان. الإتقان في صلاتي، في عبادتي، في مخاطبتي للناس، في أعمالي سواء كنت طبيباً مهنساً عاملاً مراقباً منظِّفاً، كائناً من أكون أتقن عملي وأجعل العمل والوظيفة التي أقوم بها درجات ترتقي بي نحو رضى الله . سبحانه وتعالى .. ولأني قد بيّت النية أن كل ما أقوم به هو لله فوصلت إلى أخلص العمل يصبح العمل والوظيفة في تلك الأثناء عبادة ويصبح الكون محراباً أتعبد فيه الله . سبحانه وتعالى .. حين أثدرِّس بإتقان ولا أبتغي رضى أحد إلا رضى الله . سبحانه وتعالى .يتساوى عندها من يقدِّر عملي من البشر ومن لا يقدِّر لأن العمل أنا لا أقدمه للبشر وإنما لربّ البشر، فإن غفل البشر وإن نسي البشر أن يقدروا ما أقوم به من عمل فليفعلوا لأن حظي بكل أكيد محفوظ عند رب البشر . سبحانه وتعالى .(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)).

يتبع




مديح ال قطب 01-31-2021 01:13 PM










https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif



تابع – سورة الملك

التدبر في سورة الملك

تدبروا معي وانظروا في الترابط بين الآيات (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) الأرض المذللة أمام أعينكم ليست فقط السماء التي فيها الايات فقط، الأرض التي تمشي عليها ميسرة ممهدة من سخرها لك؟ من جعلك ترتقي سهولها وأوديتها وجبالها كل بساطة وبكل سهولة؟ من الذي يحركها حين تتحرك فيها الزلازل والبراكين؟ أليس هو الله . سبحانه وتعالى .. (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) سِر في الأرض واطلب من رزق الله . سبحانه وتعالى .بإيمانك بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ولا تنسى أن المشي على الأرض، هذا المشي المطلوب منك والسير والرزق والوظيفة وتربية العيال والأهل والنفقات وما شابه أنك ستعود إلى الله . سبحانه وتعالى .فيبقى القلب دائماً معلّقاً بالعودة والرجوع (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). ودعونا نتدبر في كلمة هنا من إعجاز القرن حين يقول الله . سبحانه وتعالى .(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) المشي مجرد السير حين أطلب الرزق أطلبه بالسير بالأخذ بالأسباب ولكن دون تشوّف وتشوّق وهمّة عالية شديدة وحرص شديد ولكن حين يأتي الحديث عن طلب الآخرة وعمل الآخرة القرآن يأتينا بلفظة السعي ولذا ربي في آيات عديدة في القرآن يقول (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (9) الجمعة) وهكذا حين يكون الحديث عن عمل الآخرة ربي . سبحانه وتعالى .يقول إسعوا وحين يكون الحديث عن طلب المعاش في الدنيا تأتي كلمة المشي، لماذا؟ لأنك إذا أردت أن تطلب الرزق في الدنيا عليك أن تضع نصب عينيك قواعد:
الرزق بيد الله ولذا جاءت الآية (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) رزقك ليس بيد أحد من البشر إياك أن يختلج في نفسك أو صدرك لثانية واحدة أن رزقك بيد أحد من البشر مهما علا، ليس بيد رئيس عمل ولا بيد وزير ولا بيد أير ولا بيد أحد، رزقك بيد الله وحده لا شريك له إن كنت تؤمن بأن الله واحد. فالله وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، هذا الاستشعار بأن رزقك بيد الله . سبحانه وتعالى .يحررك من كل عبودية وتذلل واستكانة وضعف وخضوع لغير الله سبحانه وتعال وهو ما يريده القرآن وهو ما تريده سورة الملك تريد أن تبنيه في نفسي.

القاعدة الثانية علي أن أُجمِل في الطلب، رزقك لن يسوقه إليك الحرص الشديد، الحرص الذي تسترخص فيه الحقوق وتسترخص فيه الواجبات، بعض الناس يقول أنا ورائي عيال فلأجل أن وراءه عيال مستعد أن يتاجر وأن يبيع ويشتري بقيمه ومبادئه ومثله فتستحل الربا وتستحل الحرمات ويستهان بحقوق الله . سبحانه وتعالى .، لماذا؟ لأجل أن ورائي عيال! أيّ إيمان هذاا؟ أيّ إيمان بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. سورة الملك في آية واحدة تبني فيّ هذا (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) الرزق من الله وليس من أيّ أحد، وإذا خطر ببالك للحظة أن رزقك بيد أحد من البشر هذه كارثة! عليك أن تجدد إيمانك وعليك أن تحيي التوحيد في قلبك وأن تتعرف على الله أكثر. هناك حلل، أنت تحتاج أن تصحح توحيدك، الرزاق هو الله وليس أحداً من البشر ولذا جاء في كلام لعبد الله بن مسعود "الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره". بمعنى آخر قد يأتيك الرزق لأن الرزق فعلاً بيد الله، قد يأتيك هذا الرزق على يد شخص يبغضك يكرهك ولكن الله . سبحانه وتعالى .برحمته وعدله وعلمه يسوق إليك هذا الرزق على يديه وحرصك الشديد الذي يقودك إلى الإلحاح وعدم الإجمال في الطلب هذا الحرص الذي يؤرقك مضجعك بالليل خوفاً على وظيفتك أو خشية على عملك لن يزيدك في رزقك أبداً ولذا يقول النبي . صلى الله عليه وسلم .محذّراً أمته من هذا: يا أيها الناس اتقوا الله وأجمِلوا في الطلب فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رقزها وإن أبطأ عنها" إتقوا الله أجملوا في الطلب، الرزق بيد الله ولا بيد أحد. وهذه المعارك المحمومة التي نراها في عصرنا على المال هذه معارك وهمية، هذه معارك رئيسها الشيطان وشياطين الإنس الذين يوحون للبشر أنهم يمتلكون أرزاقهم وأقواتهم ومن آمن للحظة بأن الرزق بيد أحد سوى الله . سبحانه وتعالى .عليه أن يصحح التوحيد. ولذا تهز الآية التي تليها المعايير الواهية التي يقيمها البشر في بعض الأحيان يقول ربي سبحانه (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير (17)) سلّمت؟ رأيت الأرض أمام عينيك مستقرة وهادئة واعتقدت وتوهمت أن هذه الأرض لا يمكن أن تتحرك ونحن نرى أمام أعيننا كيف تحدث الزلازل والبراكين؟! من الذي أمّنك؟ بقدر خشيتك من الله . سبحانه وتعالى .تشعر بالأمان وبقدر خوفك من الله . سبحانه وتعالى .وتعظيمك ومهابتك لربك ولأوامره سبحانه يحدث عندك الاستقرار والشعور بالأمن والأمان، بالأمن حين أرى أقدار الله الكونية وأؤمن بأن الله رحمن رحيم لن يكتب لي إلا الخير وأن ما أراه أحياناً حتى من زلازل أو من براطين إن كنت أنا بلغت مرحلة الخشية من الله بالغيب وأحسنت العمل
حتى هذه المصائب والنكبات ظاهرها شرّ وباطنها قد يكون الرحمة والخير لأن من يقوم على تقديرها هو الخالق الرحمن الذي تكرر في سورة الملك كثيراً، "الرحمن"، صحيح ملِك، صحيح قوي قادر، على كل شيء قدير لكنه رحمن رحيم، رحمته وسعت كل شيء، وسعتني وستسعني أنا فأطمئن وأهدأ، ترون الخوف الذي يسيطر على عالمنا المعاصر اليوم؟! الخوف من كل شيء، الرزق كثير كما لم يكن ويحدث، والطعام كثير والأقوات كثيرة وكل شيء كثير والعالم أمام أعيننا مُنار بالأضواء وبكل شيء ليس هناك ظلمة ولكننا نعيش في خوف بل في الحقيقة رعب وليس خوفاً، خوف من كل شيء، خوف على المستقبل، خوف على الرزق خوف على الأولاد، خوف من كل شيء، خوف من البراكين خوف من الزلازل، خوف مما حدث ومما سيحدث ومما لم يحدث، من أين جاء الخوف؟ لأن القلوب قد فرغت من خشية ربها . سبحانه وتعالى .، إذا امتلأت القلوب بخشية الله . سبحانه وتعالى .حينها فقط ستعرف كيف تذوق طعم الأمن والأمان. ولذا جاءت كلمة (أَأَمِنتُم) في أكثر من موضع في سورة الملك وكلمة الأمان حاضرة في معانيها في سورة الملك (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)) أين هم؟ أين هؤلاء الذين كذبوا بربهم، كيف كانت نهايتهم؟ أين فرعون؟ أين هامان؟ أين قارون؟ أين كل هؤلاء الطغاة الظلمة الذين لم يخشوا الله . سبحانه وتعالى .ويرعوه ويرعوا أموامره؟ أين هم؟! أين من ملأوا العالم والأرض ضجيجاً بطغيانهم وظلمهم وجبروتهم؟ أين هم؟! (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ). ثم تنبّه الآيات في منظر آخر لا يقل روعة عن روعة السماء والأرض (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ (19)) أرأيتم هذا المنظر العجيب؟ منظر الطائر الذي يحلّق بجناحيه مَنْ الذي يمسك ويقبض؟ من الذي علّم الطائر قبل أن يعلِّم الإنسان ويتعلم الطائر منذ أن خلق الله . سبحانه وتعالى .الأرض والطيور تحلّق في الفضاء، والإنسان الذي أوتي كل وسائل الإدراك العجيبة لم يدرك فكرة الطيران إلا بعد كم من القرون ومن الأزمان؟ من الذي ألهم الطائر كيف يطير؟ الطائر الصغير الذي ليس لديه كل وسائل الإدراك التي وهبها الله للإنسان، من الذي علّم الطائر؟ من الذي يمسك بجناحيه فلا يقع؟ من الذي علّمه كيف يقبض جناحيه فتعلم منه الإنسان العاقل فلسفة الطيران؟ من الذي علّم؟ من الذي جعل الطائر يعلم الإنسان كيف يطير؟ من الذي علّم؟ الرحمن، (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).



يتبع




مديح ال قطب 01-31-2021 01:14 PM










https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif

تابع – سورة الملك

التدبر في سورة الملك

(أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ (20)) تبدأ سورة الملك كلها بأستئلة استنكارية أسئلة توقظ الحياة في قلوبنا تجعلنا أمام الحقائق التي ألفناها ونتيجة أننا ألفناها أصحت عادية والله . سبحانه وتعالى .لا يريد مني هذه النظرة يريد أن يوقظ في قلبي الإحساس (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ (20)) إن كانت المعركة وإن أنت أيها الإنسان إخترت المعركة أن تكون بينك وبين الله . سبحانه وتعالى .فأيّ جنود في الأرض يمكن أن تكون ناصرة لك أمام قة الله . سبحانه وتعالى .؟! إختار المعركة فرعون وكان هو رئيس المعركة وقائد المعركة كيف كانت النتيجة؟ أين جنود فرعون حين إلتهمه اليم فأصبح من المغرقين؟ من الذي نصر موسى عليه السلام وقومه؟ أليس هو الله سبحانه؟ (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) هذا التيه والوهم يحدث للإنسان وواحدة من أسباب حدوثه النظرة العابرة المعتادة أن أألف الشيء فلا أتدبر في قدرة الله ولا أقف عندها ولا تقودني لمعرفة الله، كارثة! بمعنى الكارثة!. وتعود الآيات (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ (21)) الرزق الذي أحياناً بعض الناس يتشدق به يعتقد أنه إذا امتلك خزائن دولة أو إذا امتلك شيئاً من متاع الدنيا إمتلك أرزاق الناس وأقواتهم، أبدا"، من الذي يملك الرزق؟ انظر إلى الآية (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) من الذي يرزق سوى الله سبحانه؟. (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22)) أنا محتاجة ألا أعطّل وسائل الإبصار والإدراك الموجودة عندي كإنسان وهِبت إياها كأمانات وأبقى مكباً على وجهي لا أرى الحقيقة أمام عيني، هذه حال الإنسان حين لا تقوده النظرة ولا يقوده السماع لمعرفة الله . سبحانه وتعالى .، حين يعطّل وسائل الإدراك كما فعل الكافرون بنفسه، بذاته، فيمشي مكباً على وجهه. ولذا جاءت الآية التي بعدها (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)) وهب لكن جميع الوسائل وسائل الإدراك التي تمكنكم إن أنتم استعملتموها بطريقة صحيحة من الوصول إلى خالقكم من معرفة الله . سبحانه وتعالى .من خلال التعرف على آيات الله في الكون التي ذكرت السورة. أنا لا أستطيع أن أتعرف على الله . سبحانه وتعالى .إلا من خلال النظر في الكون النظر في آياته في القرآن، التدبر في أسمائه وصفاته وقدرته وآيات عظمته. (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ولكن حتى حين ذرأكم ألستم إليه تحشرون؟ أنا أين سأذهب في رحلة الحياة؟ أليس مردّي إلى الله . سبحانه وتعالى .مهما طالت الرحلة بقيت ستين، سبعين، أربعين، ثلاثين، خمسين، زادت، طالت، قصرت، مردي إلى الله، الكافر يُهيأ له أن الرحلة طويلة ولذلك (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26)) الوقت غير محدد لكن يقيني وإيماني بأنه آتٍ لا محال يدفع بي للعمل يدفع بي لتقديم أحسن العمل يدفع بي لخشية الله . سبحانه وتعالى .مهما تغيرت الأحوال من حولي، لا يهمني ماذا يقول الناس عن عملي لا يهمني ماذا يقول الناس عن قوتي – طبعاً بالإطار الصحيح نحن نتحدث عن إطار العمل على سبيل المثال - الذي يهم أن أحسن العمل لوجه الله . سبحانه وتعالى .. ثم تأتي الآية وتوضح لي وتهز الإنسان هزة عنيفة وتبين له وكأنه يوم القيامة قد حدث أصلاً (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (27)) هذا اليوم الذي نفرّ منه جميعاً ولكن بطبيعة الحال المؤمن يفر من الله إليه لا يفرّ إلى غيره، لا ملجأ له من الله إلا إليه، أنا أخاف ولكن هناك فرق بين أن أخاف شيئاً فأهرب منه وبين أن أخافه فأهرب إليه. المؤمن يخشى الله . سبحانه وتعالى .فيهرب إليه الكافر يخاف من شياء مختلفة ولكن الخوف بدل أن ينمي ويربي عنده خشية ويولد الخشية من الله التي تقربه إلى الله يخاف فيبتعد ويجادل في غرور وفي عتو ويعتقد بأنه سيُحال بينه وبين الموت ولذلك كذب المشركون والكفار بالبعث (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) المؤمنون)
(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ (24) الجاثية)
هذا النوع يقال لهم (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)) وتبقى توحيد المؤمن العظيم، التوحيد الذي بنته سورة الملك أنا حين أكرر السورة كل ليلة أداوم عل قرآءتها وتلاوتها كيف تشفع لي؟ هل التلاوة العابرة؟ لا، تلاوة متدبرة تلاوة توقظ في إحساسي في قلبي مشاعر الإيمان والخشية من الله . سبحانه وتعالى .، أن أصحو في الصباح أنا نمت على خشية الله . سبحانه وتعالى .إذن أستيقظ في الصباح وكلّي طاقة وأمل أني أمشي في الأرض أطلب الرزق ولا أطلب به وجه أحد سوى الله تعالى، ولا أنسى أن فترة بقائي على الأرض فترة محدودة ولا أنسى أن أقدم أحسن العمل بين يدي الله سواء رضي عني مسؤولي أو لم يرضى، لا يهمني، تصبح هذه المسائل لا شيء عندي، رضي، سخط، غير مهم، المهم أن يرضى الله . سبحانه وتعالى .. (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) وتدبروا التلازم بين المُلك والرحمة من يملك في الغالب من البشر في بعض الأحيان كفرعون وغير فرعون يستقوي بقوته الموهومة بالملك الذي يظن واهماً أنه ملك وهو ليس ملكاً، نقول ملك هكذا على سبيل التجوّز ولكن على سبيل الحقيقة هو ليس بملك ولكن هؤلاء من أمثال فرعون حين يستشعر بهذه القوة تغيب مفاهيم الرحمة ولله المل الأعلى، كل هذا الملك ولا يخرج أبداً عن رحمته . سبحانه وتعالى .قوة، عظمة، قدرة، عزة ولكن هناك مغفرة، رحمن رحيم، (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الحوار بين المؤمن والكافر مسألة وقت، المؤمن يرى الإيمان ويرى اليوم الآخر ويرى الجزاء حاضراً أمام عينيه ليقينه بالله سبحانه. ثم تحوّ آخر آية في سورة الملك تحوّل الأنظار إلى قطرات الماء التي نشرب هل هناك إنسان على وجه الأرض ملكاً كان أو عبداً قوياً أو ضعيفاً، كافراً أو مؤمناً هل يستطيع أن يعيش بدون ماء؟! مستحيل. هذه القطرات ربي . سبحانه وتعالى .ينبهني ويوقظني أن أتأمل فيها وأنظر فيها نظرة مختلفة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30)) إن غارت الأنهار ذهبت في الأرض ولم تعد هناك مياه ولا مسطحات مائية من الذي يأتيكم بالماء الظاهر المعين السلس الذي تشربون؟ من؟ هذا الماء الذي تشربون من الذي أنزله؟ من الذي أخرجه من الأرض؟ أليس هو الله؟ إذن إذا كانت كل هذه الحقائق أمام عيني تنطق ليل نهار بقدرة الله . سبحانه وتعالى .كيف أضع كل هذه الأغطية على عيني والحجب فلا أرى النور، كيف؟! سورة الملك تجيب بعد كل هذه الآيات العظيمة على الإشكالية الخطيرة في حياتنا اليوم التي ذكرت، إشكالية الشعور بالأمن والتحرر من الخوف، سورة الملك تحررني من كل المخاوف الموهومة رزقك بيد الله . سبحانه وتعالى .وليس بيد أحد، الأجل بيد الله . سبحانه وتعالى .، النصر بيد الله . سبحانه وتعالى .، الحماية بيد الله . سبحانه وتعالى .، إذم مم تخشى؟ لا تخشى شيئاً، لا تخشى إلا الله. ولذا الخشية من أعظم صفات المؤمنين الذين يخشون الله بالغيب (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) المؤمنون)

إن الله سبحانه وتعالى ذكر الخشية في آيات عديدة في القرآن وجعل لها أعظم الجزاء هذه الخشية لا يمكن أن تبنى فقط من القرآءة العابرة، سورة الملك أوضحت لي السبل والطرق وما علي سوى التطبيق. وكون أن السورة يداوم الإنسان على تلاوتها كل ليلة تجعل القضية حاضرة في ذهني، التفكر، التفكر في ملكوت السموات والأرض، التفكر في آيات الله . سبحانه وتعالى .، التفكر في الخلق، التفكر في السماء، التفكر في الرزق، التفكر في الماء، التفكر في الأرض التي أمشي عليها، التفكر في كل شيء، ليصبح التفكر عبادة ملازمة لي منذ أن أستيقظ في الصباح إلى أن أنام وأختم اليوم بتلاوة السورة العظيمة. ودعونا نقول أن التفكر لا يكلفني الكثير، التفكر عبادة أستطيع أن أقوم بها طوال الوقت لا تحتاج حتى إلى وضوء ولا إلى طهارة ولكنها قطعاً تحتاج إلى طهارة قلب وطهارة روح وطهارة نفس وتخلُّص من مشاغل شغلتُ بها نفسي دون أن يكون لها على وجه الحقيقة أيّ عائد وأيّة فائدة عليّ في حياتي أو في مماتي.


فضل السورة :

1) عن مالك بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه أخبره أن " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن ، وأن تبارك الذي بيده الملك تجادل عن صاحبها .

2) عن ابن عباس قال ضرب بعض أصحاب النبي خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها فأتى النبي فقال : يا رسول الله إنى ضربت خبائي على قبر ، وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيها إنسان يقرأ سورة تبارك ( الملك ) حتى ختمها فقال رسول الله هى المانعة هى المنجية تنجيه من عذاب القبر .

سورة الملك ورد في فضلها جمع من الأحاديث وفيها أنها تشفع لصاحبها وتنجيه من عذاب القبر، والظاهر ـ والله أعلم ـ أن التنجية إنما تحصل لمن احتاج لها من أهل المعاصي والذنوب، وقيل إنها تمنع من المعاصي التي توجب عذاب القبر: ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر. رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد ـ ووافقه الذهبي.

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: تبارك الذي بيده الملك. رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: يؤتى الرجل في قبره فتؤتى رجلاه فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقوم يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى من قبل صدره ـ أو قال: بطنه ـ فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى رأسه فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة الملك. قال: فهي المانعة تمنع من عذاب القبر، وهي في التوراة: سورة الملك ـ من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب. أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ـ ووافقه الذهبي.

فضل السورة :

وفي رواية عن ابن مسعود : من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة منعه الله عز وجل بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسميها المانعة، وإنها في كتاب الله عز وجل، سورة من قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب . رواها النسائي، وحسنه الألباني.

وعن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خباءه على قبر ـ وهو لا يحسب أنه قبر ـ فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله إني ضربت خبائي على قبر ـ وأنا لا أحسب أنه قبر ـ فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر. رواه الترمذي، وقال الشيخ الألباني: ضعيف، وإنما يصح منه قوله: هي المانعة.

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: المانعة ـ أي تمنع من عذاب القبر، أو من المعاصي التي توجب عذاب القبر ـ هي المنجية ـ يحتمل أن تكون مؤكدة لقوله: هي المانعة ـ وأن تكون مفسرة، ومن ثمة عقب بقوله: تنجيه من عذاب القبر. اهـ.

وقال الزرقاني: وأخرج عبد بن حميد والطبراني والحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل: اقرأ تبارك الذي بيده الملك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقاريها، وتطلب له أن ينجيه من عذاب الله وينجو بها صاحبها من عذاب القبر.

وأخرج سعيد بن منصور عن عمرو بن مرة قال: كان يقال: إن من القرآن سورة تجادل عن صاحبها في القبر تكون ثلاثين آية فنظروا فوجدوها تبارك، قال السيوطي: فعرف من مجموعها أنها تجادل عنه في القبر وفي القيامة لتدفع عنه العذاب وتدخله الجنة.






( يتبع - سورة القلم )






مديح ال قطب 01-31-2021 01:15 PM








https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif

سورة القلم

محور مواضيع السورة :

تناولت هذه السورة ثلاثة مواضيع أساسية هى :
أ - موضوع الرسالة ، والشبه التي أثارها كفار مكة حول دعوة محمد بن عبد الله .
ب - قصة أصحاب الجنة " البستان " لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى .
ج- الآخرة وأهوالها وشدائدها ، وما أعد الله للفريقن المسلمين والمجرمين ، ولكن المحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو موضوع إثبات نبوة محمد .

قال البقاعي:
سورة القلم مقصودها إظهار ما استتر، وبيان ما أبهم في آية: {فستعلمون من هو في ضلال مبين} بتعيين المهتدي الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان الذي هو صفة الرحمن بقدر الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان، وأدل ما فيها على هذا الغرض {ن} وكذا {القلم} فلذا سميت بكل منهما، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك، وحاصله أن النون مبين محيط يفيد بيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره وكما تحيط الدواة بمدادها بآية ما دل عليه بمخرجه وصفاته، واستقر الكلام الواقع فيها وفي المعاني التي اشتركت في لفظه، وأمات القلم فإبانته للمعارف أمر لا ينكر.

ومعظم مقصود السّورة الذّبّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعذابُ ما نعى الزّكاة، وتخويف الكفّار بالقيامة، وتهديد المجرمين بالاستدراج، وأمر الرّسول- صلى الله عليه وسلم- بالصّبر، والإِشارةُ إِلى حال يونس عليه السلام في قلّة الصّبر، وقصد الكفّار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوه بالعين في {ليُزْلِقُوْنك بِأبْصارِهِمْ} الآية.



تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

.قال ابن عاشور:

سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي (صحيح البخاري) سورة (ن والقلم) على حكاية اللفظين الواقعين في أولها، أي سورة هذا اللفظ.

وترجمها الترمذي في جامعه وبعضُ المفسِرين سورة (ن) بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة (ص) وسورة (ق).

وفي بعض المصاحف سميت سورة (القلم) وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.

وهي مكية قال ابن عطية: لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.
وذكر القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: أولُها مكي، إلى قوله: {على الخرطوم} (القلم: 16) ومن قوله: {إنا بلوناهم} إلى {لو كانوا يعلمون} (القلم: 17 33) مدني، ومن قوله: {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم} إلى قوله: {فهم يكتبون} (القلم: 34-47) مكي. ومن قوله: {فاصبر لحكم ربك} إلى قوله: {من الصالحين} (القلم: 48-50) مدني، ومن قوله: {وإن يكاد الذين كفروا} (القلم: 51) إلى آخر السورة مكي.

وفي (الإِتقان) عن السخاوي: أن المدني منها من قوله: {إنا بلوناهم} إلى {لو كانوا يعلمون} (القلم: 17-33) ومن قوله: {فاصبر لحكم ربك} إلى قوله: {من الصالحين} (القلم: 48 50) فلم يجعل قوله: {إن للمتقين عند ربهم} إلى قوله: {فهم يكتبون} (القلم: 34 47) مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس.

وهذه السورة عدّها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال: نزلت بعد سورة {اقرأ باسم ربك} وبعدها سورةُ المزمل ثم سورة المدثر، والأصح حديث عائشة أن أول ما أنزل سورة {اقرأ باسم ربك} ثم فتر الوحي ثم نزلت سورة المدثر.

وما في حديث جابر بن عبد الله أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي يحمل على أنها نزلت بعد سورة {اقرأ باسم ربك} جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي تفسير القرطبي: أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
واتفق العادّون على عدّ آيها ثنتين وخمسين.

( يتبع )



مديح ال قطب 01-31-2021 01:15 PM











https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif

تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

قال سيد قطب:

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها. كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا، وأن سائرها نزل أخيرا- ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال. لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولهم: إنه مجنون!

والروايات التي تقول: إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا. حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها، فتقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القولة الفاجرة؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها، ويهدد المناهضين للدعوة، ذلك التهديد الوارد في السورة.

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق. وأن الجنون المنفي فيه: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}.. جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه في أول الوحي، من أن يكون ذلك جنونا أصابه.. هذا الاحتمال ضعيف. لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}.. فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات.

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين. وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت.. ونحن نستبعد هذا كذلك. ونعتقد أن السورة كلها مكية. لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته. وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها.

الذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة العامة. وبعد قول الله تعالى له: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم، التي قال عنها قائلهم: {أساطير الأولين}.. وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء.. والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}.. فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة. ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة. إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد. بوسيلة فردية. ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون. ولم يقع شيء من هذا- كما تقول الروايات الراجحة- إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة.

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم للالتقاء في منتصف الطريق، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة: {ودوا لو تدهن فيدهنون}.. وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، ولا خطر منها. إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها.

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى. وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل- قابلة للزيادة- بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها. ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن. والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها.

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة. وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف، للأسباب التي أوردناها هنا. وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر.

لقد كانت هذه الغرسة- غرسة العقيدة الإسلامية- تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا.
كانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد صلى الله عليه وسلم متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى- دين إبراهيم عليه السلام- وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان.

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب، وعبادة الملائكة وتماثيلها، والتعبد للجن وأرواحها، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية.. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها، وتعلق إرادتها بكل مخلوق.

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة، والكهانة السائدة في ديانتها، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين.. وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن.

ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إليها ويمثلها.

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها. ولكن هذه لم تكن وحدها. فقد كان إلى جانبها اعتبارات- ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها- على ضخامتها.

كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}.. والقريتان هما مكة والطائف. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرف نسبه، وأنه في الذؤابة من قريش، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة. بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المشيخة!


يتبع




مديح ال قطب 01-31-2021 01:16 PM










https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif

تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

كانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل (عمرو بن هشام) يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية، لأن نبيها من بني عبد مناف.. وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء. فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه: (ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!).

وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك. وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية؛ وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة.

والرسول صلى الله عليه وسلم ولو أنه نبي، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى.. هو بشر، تخالجه مشاعر البشر. وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون، ويعاني وقعها العنيف الأليم، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين.

وكان صلى الله عليه وسلم يسمع والمؤمنون به يسمعون، ما كان يتقوله عليه المشركون، ويتطاولون به على شخصه الكريم، {ويقولون إنه لمجنون}.. ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة، التي حكاها القرآن في السور الأخرى؛ والتي كانت توجه إلى شخصه صلى الله عليه وسلم وإلى الذين آمنوا معه. وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين!


والسخرية والاستهزاء- مع الضعف والقلة- مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية، ولو كانت هي نفس رسول.
ومن ثم نرى في السور المكية- كسور هذا الجزء- أن الله كأنما يحتضن- سبحانه- رسوله والحفنة المؤمنة معه، ويواسيه ويسري عنه، ويثني عليه وعلى المؤمنين. ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم. وينفي ما يقوله المتقولون عنه، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء!
ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم:
{ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم}..

وقوله تعالى عن المؤمنين:
إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم. أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم؟ كيف تحكمون؟!..

ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين:
{ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم}..

ثم يقول عن حرب المكذبين عامة:
{فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}..
وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين:
{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون..}

ويضرب لهم أصحاب الجنة- جنة الدنيا- مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين.

وفي نهاية السورة يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت..}.


ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب، يتولى الله- سبحانه- بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف.. من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة، فترة الضعف والقلة، وفترة المعاناة والشدة، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة!

كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها. وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء.
نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم {إنه لمجنون}!

من الاية 2 الى الاية 3
{ما أنت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ (2) وإِنّ لك لأجْرا غيْر ممْنُونٍ (3)}
وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة، وأسلوب من لايجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان، كما يفعل السذج البدائيون.
ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون}.. وكذلك في التهديد المكشوف العنيف: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}..

ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم: {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم...}.

ونلمحها في القصة- قصة أصحاب الجنة- التي ضربها الله لهم. وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم {وهم يتخافتون ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين..} الخ.

وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل: {أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم}...

( يتبع )






مديح ال قطب 01-31-2021 01:16 PM










https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif



تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام.


كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد. وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر. ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة.. التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير. والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية، لا من ناحية طبيعة العقيدة، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية، وحاجاتها الفكرية، وحاجاتها الاجتماعية، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين..

إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول. وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة، والضعف إلى قوة، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف.


ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» ..

يقسم اللّه - سبحانه - بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة. والعلاقة واضحة بين الحرف (نون). بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم ، والكتابة .. فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها ، وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها في علم اللّه يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض. ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة. وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى.

ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي - الذي قدر اللّه أن يكون أميا لحكمة معينة - ولكنه بدأ الوحي إليه منوها بالقراءة والتعليم بالقلم. ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون. وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون.


يقسم اللّه - سبحانه - بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله - صلى اللّه عليه وسلم - تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها.
«ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» ..

فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي .. يثبت نعمة اللّه على نبيه ، في تعبير يوحي بالقربى والمودة : حين يضيفه سبحانه إلى ذاته : «رَبُّكَ». وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة اللّه ، على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه ..

وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - في قومه ، من قولتهم هذه عنه ، وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة. وهم الذين لقبوه بالأمين ، وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته ، بعد عدائهم العنيف له ، فقد ثبت أن عليا - كرم اللّه وجهه - تخلف عن رسول اللّه أياما في مكة ، ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف. وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة. فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته؟ قال أبو سفيان - وهو عدوه قبل إسلامه - لا ، فقال هرقل : ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على اللّه! إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم ، المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم. ولكن الحقد يعمي ويصم ، والغرض يقذف بالفرية دون تحرج! وقائلها يعرف قبل كل أحد ، أنه كذاب أثيم! «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» .. هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم ، ردا على ذلك الحقد الكافر ، وهذا الافتراء الذميم.

«وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» ..
وإن لك لأجرا دائما موصولا ، لا ينقطع ولا ينتهي ، أجرا عند ربك الذي أنعم عليك بالنبوة ومقامها الكريم ..
وهو إيناس كذلك وتسرية وتعويض فائض غامر عن كل حرمان وعن كل جفوة وعن كل بهتان يرميه به المشركون.

وماذا فقد من يقول له ربه : «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ»؟ في عطف وفي مودة وفي تكريم؟

( يتبع )






مديح ال قطب 01-31-2021 01:17 PM










https://mrkzgulfup.com/uploads/155852177016149.gif



تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم :
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ..
وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصور ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود ، وهي شهادة من اللّه ، في ميزان اللّه ، لعبد اللّه ، يقول له فيها : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ». ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند اللّه مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين! ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - تبرز من نواح شتى :
تبرز من كونها كلمة من اللّه الكبير المتعال ، يسجلها ضمير الكون ، وتثبت في كيانه ، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء اللّه.

وتبرز من جانب آخر ، من جانب إطاقة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - لتلقيها. وهو يعلم من ربه هذا ، قائل هذه الكلمة. ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة ، التي يدرك هو منها مالا يدركه أحد من العالمين.
إن إطاقة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - لتلقي هذه الكلمة ، من هذا المصدر ، وهو ثابت ، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن .. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل.

ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة ، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر. أعظم بصدورها عن العلي الكبير.

وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير ، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا. لا يتكبر على العباد ، ولا ينتفخ ، ولا يتعاظم ، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير! واللّه أعلم حيث يجعل رسالته. وما كان إلا محمد - صلى اللّه عليه وسلم - بعظمة نفسه هذه - من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى. فيكون كفئا لها ، كما يكون صورة حية منها.


إن هذه الرسالة من الكمال والجمال ، والعظمة والشمول ، والصدق والحق ، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه اللّه هذا الثناء. فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء. في تماسك وفي توازن ، وفي طمأنينة.

طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم. ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته ، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة. ويعلن هذه كما يعلن تلك ، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك .. وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم. والعبد الطائع. والمبلغ الأمين.

إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة. وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة. وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر. وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها. وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار! ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لهذه الكلمة من ربه ، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان .. لقد كان - وهو بشر - يثني على أحد أصحابه ، فيهتز كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم. وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر. وأصحابه يدركون أنه بشر.
إنه نبي نعم. ولكن في الدائرة المعلومة الحدود. دائرة البشرية ذات الحدود .. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من اللّه. وهو يعلم من هو اللّه. هو بخاصة يعلم من هو اللّه! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه. ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير ... إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير!!! إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة .. إنه محمد - وحده - هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة اللّه في الكيان الإنساني. إنه محمد - وحده - هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية حتى لتتمثل في شخصه حية ، تمشي على الأرض في إهاب إنسان .. إنه محمد - وحده الذي علم اللّه منه أنه أهل لهذا المقام. واللّه أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم. وأعلن في الأخرى أنه - جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته ، يصلي عليه هو وملائكته «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ».
وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم ..


ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان اللّه وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية.

والناظر في هذه العقيدة ، كالناظر في سيرة رسولها ، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها ، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء .. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل ، ومطابقتهما معا للنية والضمير والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الحرمات والأعراض ، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور .. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك ، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع. وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء.

والرسول الكريم يقول : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل.
وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم. وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية ، وصورة رفيعة ، تستحق من اللّه أن يقول عنها في كتابه الخالد : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. فيمجد بهذا الثناء نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم ، ويشد به الأرض إلى السماء ، ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم.

وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام. فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة ، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل. إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء. تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق.

( يتبع )






مديح ال قطب 01-31-2021 01:18 PM









https://c.top4top.io/p_15454rgb85.gif


تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

وتستمد من صفات اللّه المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة ، كي يحققوا إنسانيتهم العليا ، وكي يصبحوا أهلا لتكريم اللّه لهم واستخلافهم في الأرض وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى : «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر ، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات اللّه الطليقة من كل حد ومن كل قيد.

ثم إنها ليست فضائل مفردة : صدق. وأمانة. وعدل. ورحمة. وبر .... إنما هي منهج متكامل ، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا ، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى اللّه. لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة! وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وتمثلت في ثناء اللّه العظيم ، وقوله : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ..

وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع المشركين ، الذين رموه بذلك البهت اللئيم ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين :
«فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ..

والمفتون الذي يطمئن اللّه نبيه إلى كشفه وتعيينه هو الضال. أو هو الممتحن الذي يكشف الامتحان عن حقيقته.
وكلا المدلولين قريب من قريب .. وهذا الوعد فيه من الطمأنينة لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وللمؤمنين معه ، بقدر ما فيه من التهديد للمناوئين له المفترين عليه .. أيا كان مدلول الجنون الذي رموه به. والأقرب إلى الظن أنهم لم يكونوا يقصدون به ذهاب العقل. فالواقع يكذب هذا القول. إنما كانوا يعنون به مخالطة الجنة له ، وإيحاءهم إليه بهذا القول الغريب البديع - كما كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطانا هو الذي يمده ببديع القول! - وهو مدلول بعيد عن حقيقة حال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وغريب عن طبيعة ما يوحى إليه من القول الثابت الصادق المستقيم.

وهذا الوعد من اللّه يشير إلى أن الغد سيكشف عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه. ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه أو أيهم الضال فيما يدعيه. ويطمئنه إلى أن ربه «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ..

وربه هو الذي أوحى إليه ، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه. وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه ، وما يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجي ء! ثم يكشف اللّه له عن حقيقة حالهم ، وحقيقة مشاعرهم ، وهم يخاصمونه ويجادلونه في الحق الذي معه ، ويرمونه بما يرمونه ، وهم مزعزعو العقيدة فيما لديهم من تصورات الجاهلية ، التي يتظاهرون بالتصميم عليها.

إنهم على استعداد للتخلي عن الكثير منها في مقابل أن يتخلى هو عن بعض ما يدعوهم إليه! على استعداد أن يدهنوا ويلينوا ويحافظوا فقط على ظاهر الأمر لكي يدهن هو لهم ويلين .. فهم ليسوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق ، وإنما هم أصحاب ظواهر يهمهم أن يستروها :
«فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» ..


فهي المساومة إذن ، والالتقاء في منتصف الطريق. كما يفعلون في التجارة. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها لأن الصغير منها كالكبير. بل ليس في العقيدة صغير وكبير. إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء. لا يطيع فيها صاحبها أحدا ، ولا يتخلى عن شيء منها أبدا.

وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، ولا أن يلتقيا في أي طريق. وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان. جاهلية الأمس وجاهلية اليوم ، وجاهلية الغد كلها سواء. إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر ، ولا تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة. وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق! ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - ليدهن لهم ويلين ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - كان حاسما في موقفه من دينه ، لا يدهن فيه ولا يلين. وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبا وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه : «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ»! ولم يساوم - صلى اللّه عليه وسلم - في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة. وهو محاصر بدعوته.

وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في اللّه أشد الإيذاء وهم صابرون. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين ، تأليفا لقلوبهم ، أو دفعا لأذاهم. ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد ..

( يتبع )





مديح ال قطب 01-31-2021 01:18 PM





https://c.top4top.io/p_15454rgb85.gif


تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال :
«فلما بادى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قومه بالإسلام. وصدع به كما أمره اللّه ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته - إلا من عصم اللّه تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون - وحدب على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - عمه أبو طالب ومنعه ، وقام دونه ، ومضى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - على أمر اللّه مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شيء.
«فلما رأت قريش أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب .. عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية. وأبو البختري واسمه العاص بن هشام.
والأسود بن المطلب بن أسد. وأبو جهل (و اسمه عمرو بن هشام وكان يكنى أبا الحكم) والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر .. أو من مشى منهم .. فقالوا : يا أبا طالب. إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه! فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه.
«ومضى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - على ما هو عليه : يظهر دين اللّه ، ويدعو إليه. ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وتذامروا فيه.
وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى. فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا واللّه لا نصبر على هذا : من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا له .. ثم انصرفوا عنه. فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لهم ولا خذلانه. قال ابن إسحق : وحدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدّث ، أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقال له :
يا بن أخي. إن قومك قد جاءوني فقالوا لي : كذا وكذا (للذي كانوا قالوا له) فأبق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. قال : فظن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قال : فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - : «يا عم واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك فيه ما تركته» ..
قال : واستعبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فبكى. ثم قام. فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي. قال : فأقبل عليه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت ، فو اللّه لا أسلمك لشيء أبدا».
فهذه صورة من إصرار النبي - صلى اللّه عليه وسلم - على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه. حاميه وكافيه ، وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه! هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها ، ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها ... جديدة جدة هذه العقيدة ، رائعة روعة هذه العقيدة ، قوية قوة هذه العقيدة. فيها مصداق قول اللّه العظيم : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».
وصورة أخرى رواها كذلك ابن اسحق ، كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بعد إذ أعياهم أمره ، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه.
قال ابن إسحق : وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش. ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يزيدون ويكثرون. فقالوا :
يا أبا الوليد قم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقال : يا بن أخي. إنك منا حيث علمت : من السطة «1» في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها. قال : فقال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - :
«قل يا أبا الوليد أسمع» .. قال : يا ابن أخي. إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت إنما تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه! - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يستمع منه قال : «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال : نعم. قال : «فاستمع مني». قال : أفعل. فقال : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ...» ثم مضى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه. ثم انتهى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد. ثم قال. «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت. فأنت وذاك» .. فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أنني سمعت قولا واللّه ما سمعت مثله قط ، واللّه ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فو اللّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم. وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به. قالوا : سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه. قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم ..



وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - إلى قوله تعالى : «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» .. فقام مذعورا فوضع يده على فم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يقول : أنشدك اللّه والرحم يا محمد! وذلك مخافة أن يقع النذير. وقام إلى القوم فقال ما قال! وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة. وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم. تبدو في أدبه - صلى اللّه عليه وسلم - وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد - صلى اللّه عليه وسلم - في تصوره لقيم هذا الكون ، وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض. ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر ، حتى يفرغ الرجل من مقالته ، وهو مقبل عليه.
ثم يقول في هدوء : «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» زيادة في الإملاء والتوكيد. إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث .. وهما معا بعض دلالة الخلق العظيم.
وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال :
«واعترض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي. وكانوا ذوي أسنان في قومهم.
فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر. فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه! فأنزل اللّه تعالى فيهم : «قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» : السورة كلها ..
وحسم اللّه المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة. وقال لهم الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - ما أمره ربه أن يقول ...

( يتبع )



مديح ال قطب 01-31-2021 01:19 PM









https://c.top4top.io/p_15454rgb85.gif



تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات ، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة ، ويتوعده بالإذلال والمهانة :
«وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» ..
وقد قيل : إنه الوليد بن المغيرة ، وإنه هو الذي نزلت فيه كذلك آيات من سورة المدثر : «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا!! إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ! كَيْفَ قَدَّرَ؟ ثُمَّ قُتِلَ! كَيْفَ قَدَّرَ؟ ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» ..
ورويت عنه مواقف كثيرة في الكيد لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وإنذار أصحابه ، والوقوف في وجه الدعوة ، والصد عن سبيل اللّه .. كما قيل : إن آيات سورة القلم نزلت في الأخنس بن شريق .. وكلاهما كان ممن خاصموا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ولجوا في حربه والتأليب عليه أمدا طويلا.
وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة ، والتهديدات القاصمة في السورة الأخرى ، وفي سواها ، شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس والأول أرجح ، في حرب الرسول والدعوة ، كما هي شاهد على سوء طويته ، وفساد نفسه ، وخلوها من الخير.
والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم ..
فهو حلاف .. كثير الحلف. ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق ، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به ، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه ، ويستجلب ثقة الناس.
وهو مهين .. لا يحترم نفسه ، ولا يحترم الناس قوله. وآية مهانته حاجته إلى الحلف ، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به. ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه. فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطانا طاغية جبارا.
والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا! وهو هماز .. يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم سواء. وخلق الهمز يكرهه الإسلام أشد الكراهية فهو يخالف المروءة ، ويخالف أدب النفس ، ويخالف الأدب في معاملة الناس وحفظ كراماتهم صغروا أم كبروا. وقد تكرر ذم هذا الخلق في القرآن في غير موضع فقال : «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» .. وقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» وكلها أنواع من الهمز في صورة من الصور ..
وهو مشاء بنميم. يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم ، ويقطع صلاتهم ، ويذهب بموداتهم. وهو خلق ذميم كما أنه خلق مهين ، لا يتصف به ولا يقدم عليه إنسان يحترم نفسه أو يرجو لنفسه احتراما عند الآخرين. حتى أولئك الذين يفتحون آذانهم للنمام ، ناقل الكلام ، المشاء بالسوء بين الأوداء. حتى هؤلاء الذين يفتحون آذانهم له لا يحترمونه في قرارة نفوسهم ولا يودونه.


لقد كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ينهى أن ينقل إليه أحد ما يغير قلبه على صاحب من أصحابه.
وكان يقول : «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» .
وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال : مر رسول اللّه - صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم - بقبرين ، فقال : «إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة».
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن حذيفة قال : سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يقول : «لا يدخل الجنة قتات» أي نمام (و رواه الجماعة إلا ابن ماجه).
وروى الإمام أحمد كذلك - بإسناده - عن يزيد بن السكن. أن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قال :
«ألا أخبركم بخياركم؟» قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : «الذين إذا رؤوا ذكر اللّه عز وجل» ثم قال :
«ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب».
ولم يكن بد للإسلام أن يشدد في النهي عن هذا الخلق الذميم الوضيع ، الذي يفسد القلب ، كما يفسد الصحب ، ويتدنى بالقائل قبل أن يفسد بين الجماعة ، ويأكل قلبه وخلقه قبل أن يأكل سلامة المجتمع ، ويفقد الناس الثقة بعضهم ببعض ، ويجني على الأبرياء في معظم الأحايين! وهو مناع للخير .. يمنع الخير عن نفسه وعن غيره. ولقد كان يمنع الإيمان وهو جماع الخير. وعرف عنه أنه كان يقول لأولاده وعشيرته ، كلما آنس منهم ميلا إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - : لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبدا. فكان يمنعهم بهذا التهديد عن الإسلام. ومن ثم سجل القرآن عليه هذه الصفة «مناع للخير» فيما كان يفعل ويقول.
وهو معتد .. متجاوز للحق والعدل إطلاقا. ثم هو معتد على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وعلى المسلمين وعلى أهله وعشيرته الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين .. والاعتداء صفة ذميمة تنال من عناية القرآن والحديث اهتماما كبيرا .. وينهى عنها الإسلام في كل صورة من صورها ، حتى في الطعام والشراب :
«كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» .. لأن العدل والاعتدال طابع الإسلام الأصيل.
وهو أثيم .. يرتكب المعاصي حتى يحق عليه الوصف الثابت. «أَثِيمٍ» .. بدون تحديد لنوع الآثام التي يرتكبها. فاتجاه التعبير إلى إثبات الصفة ، وإلصاقها بالنفس كالطبع المقيم! وهو بعد هذا كله «عُتُلٍّ» .. وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات ، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات. فقد يقال : إن العتل هو الغليظ الجافي. وإنه الأكول الشروب. وإنه الشره المنوع. وإنه الفظ في طبعه ، اللئيم في نفسه ، السيّء في معاملته ..


عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه : «العتل كل رغيب الجوف ، وثيق الخلق ، أكول شروب ، جموع للمال ، منوع له» .. ولكن تبقى كلمة «عتل» بذاتها أدل على كل هذا ، وأبلغ تصويرا للشخصية الكريهة من جميع الوجوه.
وهو زنيم .. وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام - وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم - والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم ، أو أن نسبه فيهم ظنين. ومن معانيه ، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره. والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة. وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهينا في القوم ، وهو المختال الفخور.
ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات اللّه ، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة اللّه عليه بالمال والبنين :
«أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ..
وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة اللّه عليه بالمال والبنين استهزاء بآياته ، وسخرية من رسوله ، واعتداء على دينه .. وهذه وحدها تعدل كل ما مر من وصف ذميم.
ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار ، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه .. ويسمع وعد اللّه القاطع :
«سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» ..
ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري .. ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه! والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال : أنف أشم للعزيز. وأنف في الرغام للذليل .. أي في التراب! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه ، إذا غضب معتزا. ومنه الأنفة .. والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير ..
الأول الوسم كما يوسم العبد .. والثاني جعل أنفه خرطوما كخرطوم الخنزير! وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصما. فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر - ولو بالباطل - مذمة يتوقاها الكريم! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض. بهذا الأسلوب الذي لا يبارى.
في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود. ثم يستقر في كيان الوجود .. في خلود ..
إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم ..

( يتبع )





مديح ال قطب 01-31-2021 01:20 PM









https://c.top4top.io/p_15454rgb85.gif



تابع – سورة القلم
محور مواضيع السورة :

وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين ، والبطر الذي يبطره المكذبون ، يضرب لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم ، شائعة بينهم ، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة ، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين ، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة ، وأن له ما بعده ، وأنهم غير متروكين لما هم فيه :
«إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ، وَلا يَسْتَثْنُونَ. فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ : أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ. فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ : أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ. فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا : إِنَّا لَضَالُّونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ! قالُوا : سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ، قالُوا : يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ .. كَذلِكَ الْعَذابُ ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..

وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة ، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل اللّه وقدرته ، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده. ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني.

ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج. ولعل هذا المستوي من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة ، الذين كانوا يعاندون ويجحدون ، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد ، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة! والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني للقصة في القرآن وفيه مفاجآت مشوقة ، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير اللّه وكيده. وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع - أو القارئ - يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى . فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني :

ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة - جنة الدنيا لا جنة الآخرة - وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا. لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة - كما تقول الروايات - على أيام صاحبها الطيب الصالح. ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن ، وأن يحرموا المساكين حظهم .. فلننظر كيف تجري الأحداث إذن! «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ. إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ».

لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر ، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين. وأقسموا على هذا ، وعقدوا النية عليه ، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه .. فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه ، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون. فإن اللّه ساهر لا ينام كما ينامون ، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون ، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير ، وبخل بنصيب المساكين المعلوم ..


إن هناك مفاجأة تتم في خفية. وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام. والناس نيام :
«فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» ..

فلندع الجنة وما ألم بها مؤقتا لننظر كيف يصنع المبيتون الماكرون.
ها هم أولاء يصحون مبكرين كما دبروا ، وينادي بعضهم بعضا لينفذوا ما اعتزموا :
«فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ : أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ» ..
يذكر بعضهم بعضا ويوصي بعضهم بعضا ، ويحمس بعضهم بعضا! ثم يمضي السياق في السخرية منهم ، فيصورهم منطلقين ، يتحدثون في خفوت ، زيادة في إحكام التدبير ، ليحتجنوا الثمر كله لهم ، ويحرموا منه المساكين! «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ : أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ»!!! وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرؤه نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها .. أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام ، فتذهب بثمرها كله. ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب! فلنمسك أنفاسنا إذن ، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون.

إن السياق ما يزال يسخر من الماكرين المبيتين :
«وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ»! أجل إنهم لقادرون على المنع والحرمان .. حرمان أنفسهم على أقل تقدير!! وها هم أولاء يفاجأون. فلننطلق مع السياق ساخرين. ونحن نشهدهم مفجوئين :
«فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا : إِنَّا لَضَالُّونَ» ..
ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار. فقد ضللنا إليها الطريق! .. ولكنهم يعودون فيتأكدون :
«بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» ..


وهذا هو الخبر اليقين! والآن وقد حاقت بهم عاقبة المكر والتبييت ، وعاقبة البطر والمنع ، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم - ويبدو أنه كان له رأي غير رأيهم. ولكنه تابعهم عند ما خالفوه وهو فريد في رأيه ، ولم يصر على الحق الذي رآه فناله الحرمان كما نالهم. ولكنه يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه :
«قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ : لَوْلا تُسَبِّحُونَ»؟! والآن فقط يسمعون للناصح بعد فوات الأوان :
«قالُوا : سُبْحانَ رَبِّنا ، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ..

وكما يتنصل كل شريك من التبعة عند ما تسوء العاقبة ، ويتوجه باللوم إلى الآخرين .. ها هم أولاء يصنعون :
«فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ»! ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعا بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة. عسى أن يغفر اللّه لهم ، ويعوضهم من الجنة الضائعة على مذبح البطر والمنع والكيد والتدبير :
«قالُوا : يا وَيْلَنا! إِنَّا كُنَّا طاغِينَ. عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» ..

وقبل أن يسدل السياق الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب :
«كَذلِكَ الْعَذابُ. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..
وكذلك الابتلاء بالنعمة. فليعلم المشركون أهل مكة. «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» ولينظروا ماذا وراء الابتلاء .. ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا :
«وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ»! وكذلك يسوق إلى قريش هذه التجربة من واقع البيئة ، ومما هو متداول بينهم من القصص ، فيربط بين سنته في الغابرين وسنته في الحاضرين ويلمس قلوبهم بأقرب الأساليب إلى واقع حياتهم.


وفي الوقت ذاته يشعر المؤمنين بأن ما يرونه على المشركين - من كبراء قريش - من آثار النعمة والثروة إنما هو ابتلاء من اللّه ، له عواقبه ، وله نتائجه. وسنته أن يبتلي بالنعمة كما يبتلي بالبأساء سواء. فأما المتبطرون المانعون للخير المخدوعون بما هم فيه من نعيم ، فذلك كان مثلا لعاقبتهم : «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..

( يتبع )





ڇۚــﯜڔۑْۧ 02-03-2021 02:01 AM

جزاك الله خير ورفع قدرك
جعله الله في ميزان حسناتك

ترانيم الشجن 02-03-2021 04:02 AM

جزاك الله خير واثابك
ورزقك الجنه بغير حساب

مديح ال قطب 02-06-2021 03:50 PM

http://up.skoon-elamar.com/uploads/161261578694211.gif

مديح ال قطب 02-06-2021 03:51 PM

https://www.skoon-elqmar.com/vb/skoo...t-top-left.gif اقتباس: https://www.skoon-elqmar.com/vb/skoo...-top-right.gif
https://www.skoon-elqmar.com/vb/skoo...ot-by-left.gif المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ڇۚــﯜڔۑْۧ https://www.skoon-elqmar.com/vb/skoo...t-by-right.gif
https://www.skoon-elqmar.com/vb/skoo...p-right-10.gif



جزاك الله خير ورفع قدرك
جعله الله في ميزان حسناتك

https://www.skoon-elqmar.com/vb/skoo...t-bot-left.gif
https://www.skoon-elqmar.com/vb/skoo...-bot-right.gif



...........................


http://up.skoon-elamar.com/uploads/161261578694211.gif

بياض الثلج 02-09-2021 08:12 PM

https://i.pinimg.com/originals/02/dc...58db2658bb.gif

مديح ال قطب 02-12-2021 05:25 PM

http://up.skoon-elamar.com/uploads/1613139895141.gif

مديح ال قطب 03-13-2021 06:14 PM

[/align][/cell][/tabletext][/align][/align][/cell][/tabletext][/align][/align][/cell][/tabletext][/align][/align]



تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

وأما المتقون الحذرون فلهم عند ربهم جنات النعيم :
«إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» ..
وهو التقابل في العاقبة ، كما أنه التقابل في المسلك والحقيقة .. تقابل النقيضين اللذين اختلفت بهما الطريق ، فاختلفت بهما خاتمة الطريق! وعند هاتين الخاتمتين يدخل معهم في جدل لا تعقيد فيه كذلك ولا تركيب. ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال عن أمور ليس لها إلا جواب واحد يصعب المغالطة فيه ويهددهم في الآخرة بمشهد رهيب ، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبار القوي الشديد :
«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ؟ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ؟ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ؟ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ. فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ»
؟! والتهديد بعذاب الآخرة وحرب الدنيا يجي ء - كما

نرى - في خلال ذلك الجدل ، وهذا التحدي. فيرفع من حرارة الجدل ، ويزيد من ضغط التحدي.

والسؤال الاستنكاري الأول : «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟» يعود إلى عاقبة هؤلاء وهؤلاء التي عرضها في الآيات السابقة. وهو سؤال ليس له إلا جواب واحد .. لا. لا يكون. فالمسلمون المذعنون المستسلمون لربهم ، لا يكونون أبدا كالمجرمين الذين يأتون الجريمة عن لجاج يسمهم بهذا الوصف الذميم! وما يجوز في عقل ولا في عدل أن يتساوى المسلمون والمجرمون في جزاء ولا مصير.


ومن ثم يجيء السؤال الاستنكاري الآخر : «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» .. ماذا بكم؟ وعلام تبنون أحكامكم؟
وكيف تزنون القيم والأقدار؟ حتى يستوي في ميزانكم وحكمكم من يسلمون ومن يجرمون؟! ومن الاستنكار والإنكار عليهم ينتقل إلى التهكم بهم والسخرية منهم : «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ؟ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ؟» .. فهو التهكم والسخرية أن يسألهم إن كان لهم كتاب يدرسونه ، هو الذي يستمدون منه مثل ذلك الحكم الذي لا يقبله عقل ولا عدل وهو الذي يقول لهم : إن المسلمين كالمجرمين! إنه كتاب مضحك يوافق هواهم ويملق رغباتهم ، فلهم فيه ما يتخيرون من الأحكام وما يشتهون! وهو لا يرتكن إلى حق ولا إلى عدل ، ولا إلى معقول أو معروف! «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ؟» .. فإن لا يكن ذلك فهو هذا. وهو أن تكون لهم مواثيق على اللّه ، سارية إلى يوم القيامة ، مقتضاها أن لهم ما يحكمون ، وما يختارون وفق ما يشتهون! وليس من هذا شيء. فلا عهود لهم عند اللّه ولا مواثيق. فعلام إذن يتكلمون؟! وإلام إذن يستندون؟! «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ؟» .. سلهم من منهم المتعهد بهذا؟ من منهم المتعهد بأن لهم على اللّه ما يشاءون ، وأن لهم ميثاقا عليه ساري المفعول إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون؟! وهو تهكم ساخر عميق بليغ يذيب الوجوه من الحرج والتحدي السافر المكشوف! «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» ..

وهم كانوا يشركون باللّه. ولكن التعبير يضيف الشركاء إليهم لا للّه. ويتجاهل أن هناك شركاء. ويتحداهم أن يدعوا شركاءهم هؤلاء إن كانوا صادقين .. ولكن متى يدعونهم؟
«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» ..
فيقفهم وجها لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة ، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين.
وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم اللّه لا تتقيد في علمه بزمن. واستحضارها للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقا حيا حاضرا في النفوس على طريقة القرآن الكريم.

والكشف عن الساق كناية - في تعبيرات اللغة العربية المأثورة - عن الشدة والكرب. فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق ، ويشتد الكرب والضيق .. ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود ، إما لأن وقته قد فات ، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون : «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ» وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم! وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف ..

ثم يكمل رسم هيئتهم : «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» .. هؤلاء المتكبرون المتبجحون. والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة. وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة :
«سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» .. فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود! وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل ، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار : «وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» .. قادرون على السجود. فكانوا يأبون ويستكبرون .. كانوا. فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل. والدنيا وراءهم. وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون! وبينما هم في هذا الكرب ، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب :
«فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» ..
وهو تهديد مزلزل .. والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول - صلى اللّه عليه وسلم - : خل بيني وبين من يكذب بهذا الحديث. وذرني لحربه فأنا به كفيل! ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث؟

إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف! هذه النملة المضعوفة. بل هذه الهباءة المنثورة .. بل هذا العدم الذي لا يعني شيئا أمام جبروت الجبار القهار العظيم! فيا محمد. خل بيني وبين هذا المخلوق. واسترح أنت ومن معك من المؤمنين. فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين. الحرب معي. وهذا المخلوق عدوي ، وأنا سأتولى أمره فدعه لي ، وذرني معه ، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا! أي هول مزلزل للمكذبين! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين .. المستضعفين ..؟

( يتبع )



[/cell][/tabletext][/align]

مديح ال قطب 03-13-2021 06:15 PM



]





تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف! «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» ..
وإن شأن المكذبين ، وأهل الأرض أجمعين ، لأهون وأصغر من أن يدبر اللّه لهم هذه التدابير .. ولكنه - سبحانه - يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان. وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارّون. وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير. وأنه تدبير من اللّه ليحملوا أوزارهم كاملة ، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب ، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب ..
وليس أكبر من التحذير ، وكشف الاستدراج والتدبير ، عدلا ولا رحمة. واللّه سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير.


وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم ، فقد كشف القناع ووضحت الأمور! إنه سبحانه يمهل ولا يهمل. ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته. ويقول لرسوله - صلى اللّه عليه وسلم - ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان. فسأملي لهم ، واجعل هذه النعمة فخهم! فيطمئن رسوله ، ويحذر أعداءه ..

ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب! وفي ظل مشهد القيامة المكروب وظل هذا التهديد المرهوب يكمل الجدل والتحدي والتعجيب من موقفهم الغريب :
«أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟» ..
فثقل الغرامة التي تطلبها منهم أجرا على الهداية هو الذي يدفعهم إلى الإعراض والتكذيب ، ويجعلهم يؤثرون ذلك المصير البشع ، على فداحة ما يؤدون؟! «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟» ..

ومن ثم فهم على ثقة مما في الغيب ، فلا يخيفهم ما ينتظرهم فيه ، فقد اطلعوا عليه وكتبوه وعرفوه؟ أو أنهم هم الذين كتبوا ما فيه. فكتبوه ضامنا لما يشتهون؟

ولا هذا ولا ذاك؟ فما لهم يقفون هذا الموقف الغريب المريب؟! وبذلك التعبير العجيب الموحي الرعيب : «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» .. وبالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين اللّه وأعدائه المخدوعين .. بهذا وذلك يخلي اللّه النبي - صلى اللّه عليه وسلم - والمؤمنين من المعركة بين الإيمان والكفر. وبين الحق والباطل. فهي معركته - سبحانه - وهي حربه التي يتولاها بذاته.

والأمر كذلك في حقيقته ، مهما بدا أن للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وللمؤمنين دورا في هذه الحرب أصيلا.
إن دورهم حين ييسره اللّه لهم هو طرف من قدر اللّه في حربه مع أعدائه. فهم أداة يفعل اللّه بها أو لا يفعل.
وهو في الحالين فعال لما يريد. وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد.

وهذا النص نزل والنبي - صلى اللّه عليه وسلم - في مكة ، والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء. فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين ، والفزع للمغترين بالقوة والجاه والمال والبنين. ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة.
وشاء اللّه أن يكون للرسول ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة. ولكنه هنا لك أكد لهم ذلك القول الذي قاله لهم وهم في مكة قلة مستضعفون. وقال لهم وهم منتصرون في بدر : «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وذلك ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة. حقيقة أن المعركة معركته هو سبحانه. وأن الحرب حربه هو سبحانه.
وأن القضية قضيته هو سبحانه. وأنه حين يجعل لهم فيها دورا فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسنا. وليكتب لهم بهذا البلاء أجرا. أما حقيقة الحرب فهو الذي يتولاها. وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبها .. وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم. وهم حين يخوضونها أداة لقدرته ليست هي الأداة الوحيدة في يده! وهي حقيقة واضحة من خلال النصوص القرآنية في كل موضع ، وفي كل حال ، وفي كل وضع. كما أنها هي الحقيقة التي تتفق مع التصور الإيماني لقدرة اللّه وقدره ، ولسنته ومشيئته ، ولحقيقة القدرة البشرية التي تنطلق لتحقيق قدر اللّه .. أداة .. ولن تزيد على أن تكون أداة ..
وهي حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، في حالتي قوته وضعفه على السواء. ما دام يخلص قلبه للّه ، ويتوكل في جهاده على اللّه. فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الحق والباطل والإيمان والكفر ، إنما هو اللّه الذي يكفل له النصر. وضعفه لا يهزمه لأن قوة اللّه من ورائه وهي التي تتولى المعركة وتكفل له النصر.
ولكن اللّه يملي ويستدرج ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته ، ووفق عدله ورحمته.

كما أنها حقيقة تفزع قلب العدو ، سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة. فليس المؤمن هو الذي ينازله ، إنما هو اللّه الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته. اللّه الذي يقول لنبيه «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» وخل بيني وبين هذا البائس المتعوس! واللّه يملي ويستدرج فهو في الفخ الرعيب المفزع المخيف ، ولو كان في أوج قوته وعدته. فهذه القوة هي ذاتها الفخ وهذه العدة هي ذاتها المصيدة .. «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ»! أما متى يكون. فذلك علم اللّه المكنون! فمن يأمن غيب اللّه ومكره؟ وهل يأمن مكر اللّه إلا القوم الفاسقون؟

وأمام هذه الحقيقة يوجه اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى الصبر. الصبر على تكاليف الرسالة. والصبر على التواءات النفوس. والصبر على الأذى والتكذيب. الصبر حتى يحكم اللّه في الوقت المقدر كما يريد. ويذكره بتجربة أخ له من قبل ضاق صدره بهذه التكاليف ، فلولا أن تداركته نعمة اللّه لنبذ وهو مذموم :
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ. إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» ..

وصاحب الحوت هو يونس - عليه السّلام - كما جاء في سورة الصافات. وملخص تجربته التي يذكر اللّه بها محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - لتكون له زادا ورصيدا ، وهو خاتم النبيين ، الذي سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة ، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير ، وصاحب الرصيد الأخير ، وصاحب الزاد الأخير. فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير. عبء هداية البشرية جميعها لا قبيلة ولا قرية ولا أمة. وعبء هداية الأجيال جميعها لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله. وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجد في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب. وكل يوم يأتي بجديد ..

( يتبع )








مديح ال قطب 03-13-2021 06:17 PM













تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

ملخص تلك التجربة أن يونس بن متى - سلام اللّه عليه - أرسله اللّه إلى أهل قرية. قيل اسمها نينوى بالموصل.
فاستبطأ إيمانهم ، وشق عليه تلكؤهم ، فتركهم مغاضبا قائلا في نفسه : إن اللّه لن يضيق عليّ بالبقاء بين هؤلاء المتعنتين المعاندين ، وهو قادر على أن يرسلني إلى قوم آخرين! وقد قاده الغضب والضيق إلى شاطئ البحر ، حيث ركب سفينته ، فلما كانوا في وسط اللج ثقلت السفينة وتعرضت للغرق. فأقرعوا بين الركاب للتخفف من واحد منهم لتخف السفينة .. فكانت القرعة على يونس. فألقوه في اليم. فابتلعه الحوت.
عندئذ نادى يونس - وهو كظيم - في هذا الكرب الشديد في الظلمات في بطن الحوت ، وفي وسط اللجة ، نادى ربه : «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ! إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» فتداركته نعمة من ربه ، فنبذه الحوت على الشاطئ .. لحما بلا جلد .. ذاب جلده في بطن الحوت. وحفظ اللّه حياته بقدرته التي لا يقيدها قيد من مألوف البشر المحدود!

وهنا يقول : إنه لولا هذه النعمة لنبذه الحوت وهو مذموم. أي مذموم من ربه .. على فعلته. وقلة صبره.
وتصرفه في شأن نفسه قبل أن يأذن اللّه له. ولكن نعمة اللّه وقته هذا ، وقبل اللّه تسبيحه واعترافه وندمه. وعلم منه ما يستحق عليه النعمة والاجتباء. «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» ..

هذه هي التجربة التي مر بها صاحب الحوت. يذكر اللّه بها رسوله محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - في موقف العنت والتكذيب. بعد ما أخلاه من المعركة كما هي الحقيقة ، وأمره بتركها له يتولاها كما يريد. وقتما يريد.

وكلفه الصبر لحكم اللّه وقضائه في تحديد الموعد ، وفي مشقات الطريق حتى يحين الموعد المضروب! إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم اللّه ، حتى يأتي موعده ، في الوقت الذي يريده بحكمته.

وفي الطريق مشقات كثيرة. مشقات التكذيب والتعذيب. ومشقات الالتواء والعناد. ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه. ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون. ثم مشقات إمساك النفس على هذا كله راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد اللّه الحق ، لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق ، مهما تكن مشقات الطريق .. وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من اللّه وتوفيق .. أما المعركة ذاتها فقد قضى اللّه فيها ، وقدر أنه هو الذي يتولاها ، كما قدر أنه يملي ويستدرج لحكمة يراها. كذلك وعد نبيه الكريم ، فصدقه الوعد بعد حين.



وفي الختام يرسم مشهدا للكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم ، في غيظ عنيف ، وحسد عميق ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه ، ويصفها القرآن بما لا مزيد عليه :
«وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ. وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ».

فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - فتجعلها تزل وتزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها! وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة وضغن ، وحمى وسم .. مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسب القبيح ، والشتم البذي ء ، والافتراء الذميم : «وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» ..

وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في مكة. فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين ، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم! يعقب عليه بالقول الفصل الذي ينهي كل قول :
«وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ».
والذكر لا يقوله مجنون ، ولا يحمله مجنون ..
وصدق اللّه وكذب المفترون ..

ولا بد قبل نهاية الحديث من لفتة إلى كلمة «لِلْعالَمِينَ» .. هنا والدعوة في مكة تقابل بذلك الجحود ، ويقابل رسولها بتلك النظرات المسمومة المحمومة ، ويرصد المشركون لحربها كل ما يملكون .. وهي في هذا الوقت المبكر ، وفي هذا الضيق المستحكم ، تعلن عن عالميتها. كما هي طبيعتها وحقيقتها. فلم تكن هذه الصفة جديدة عليها حين انتصرت في المدينة - كما يدعي المفترون اليوم - إنما كانت صفة مبكرة في أيام مكة الأولى. لأنها حقيقة ثابتة في صلب هذه الدعوة منذ نشأتها.

كذلك أرادها اللّه. وكذلك اتجهت منذ أيامها الأولى. وكذلك تتجه إلى آخر الزمان. واللّه الذي أرادها كما أرادها هو صاحبها وراعيها. وهو المدافع عنها وحاميها. وهو الذي يتولى المعركة مع المكذبين. وليس على أصحابها إلا الصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين ..

قال الصابوني:

* سورة القلم من السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة والإيمان، وقد تناولت هذه السورة ثلاثة مواضيع أساسية وهي:

أ- موضوع الرسالة، والشبه التي أثارها كفار مكة حول دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ب- قصة أصحاب الجنة (البستان) لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى.
ج- الآخرة وأهوالها وشدائدها، وما أعد الله للفريقين: المسلمين والمجرمين. ولكن المحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو موضوع (إثبات نبوة محمد) صلى الله عليه وسلم.

* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على رفعة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشرفه وبراءته مما ألصقه به المشركون من اتهامه- وحاشاه- بالجنون، وبينت أخلاقه العظيمة، ومناقبه السامية {ن والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم} الآيات.

* ثم تناولت موقف المجرمين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعد الله لهم من العذاب والنكال في دار الجحيم {فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين..} الآيات.

* ثم ضربت مثلا لكفار مكة في كفرانهم (نعمة الله) العظمى عليهم، ببعثة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم إليهم، وتكذيبهم به، بقصة أصحاب الجنة (الحديقة) ذات الأشجار والزروع والثمار، حيث جحدوا نعمة الله، ومنعوا حقوق الفقراء والمساكين، فأحرق الله حديقتهم وجعل قصتهم عبرة للمعتبرين {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم} الآيات.

* ثم قارنت السورة بين المؤمنين والمجرمين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب {أفنجعل المسلمين كالمجرمين..}؟ الآيات.

* وتناولت السورة الكريمة، القيامة وأحوالها وأهوالها، وموقف المجرمين في ذلك اليوم العصيب، الذي يكلفون فيه بالسجود لرب العالمين فلا يقدرون {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} الآيات.

* وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين، وعدم التبرم والضجر بما يلقاه في سبيل تبليغ دعوة الله، كما حدث من يونس عليه السلام، حين ترك قومه وسارع إلى ركوب البحر، دون إذن من الله {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} الآيات.

( يتبع )









مديح ال قطب 03-13-2021 06:18 PM












تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

قال محمد الغزالي:

{ن والقلم وما يسطرون}. هل القلم المقسم به هو أداة المعرفة العامة؟ ربما، فالكتابة من أهم وسائل المعرفة. أو المقصود كتابة القرآن نفسه وتسجيل ما حوى من حكمة بالغة؟ هذا هو الأظهر هنا. فالقرآن الكريم أهم كتاب ظهر في الدنيا، وهو من ألفه إلى يائه وحى خالص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد اختار الله لتبليغه الإنسان الأول في الوجود فكرا وشرفا وسيرة، فلا قيمة لكلام الأعداء {ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم}. أما أعداء الوحى، فنفر من الناس لا يزينهم شيء، وستكشف الأيام عن دعاواهم وأحوالهم- وقد كشفت- فذهبوا بددا وبقى الإسلام. وقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة}، يفيد أن مشركى مكة سوف يتأبون على الإسلام أولا ثم يعرفون الحق، ويدخلون فيه وينصرونه. وذاك ما وقع! فإن ملاك الحديقة المذكورة شحوا بحق الفقراء فيها، فأهلك الله ثمرها فلما ندموا على رذيلتهم {قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون}. ومن يرغب إلى الله يتب الله عليه، ويلقه بقبول حسن. وقد أعز الله قريشا بالإسلام بعدما أهانت نفسها بالكفر. أما المصرون على زيغهم فلا مستقبل لهم {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون}؟ ومنطق الكفار في شتى الأحوال لا يسانده عقل ولا نقل، ولذلك قال الله سبحانه متهكما بهم {أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون}. إنه لا شيء لديهم يستندون إليه سوى الغرور والتعلق بالأوهام. وأمامهم حساب شاق يندمون فيه، ولات ساعة مندم {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون}. وكشف الساق مثل لبلوغ الأمر غاية.

ولا عذر للكافرين في هذا الموقف؟ فقد خوطبوا فعاندوا، وأعطوا فرصا شتى فأضاعوها {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والصبر على متاعبه وتحمل أذى المشركين مهما بلغ {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت..}. وقد مرت على صاحب الرسالة ليال كالحة عانى فيها من الحرج والألم ما يهز الرواسى، ولكنه ثبت حتى أدى الأمانة كاملة. وترك رسالة يحرسها جيل جليل نفخ فيه من روحه وبأسه فنشرها في العالمين. وعالمية الإسلام مذكورة في آيات كثيرة، وبدأ ذلك في أوائل الوحى النازل بمكة {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين}. لقد عرف محمد أنه رسول العالم أجمع من وقت مبكر. فسورة القلم المكية من أوائل السور نزولا..

سميت هذه السورة الكريمة بسورة القلم لأنها ابتدأت بالقسم على رفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وبراءته مما ألصقه به المشركون من اتهامه على أنهّ صلى الله عليه وسلم ساحر ومجنون, وعلى رأسهم الوليد بن المغيرة لعنة الله على الظالمين.

هذه السورة المكية شأنها شأن ما سبقها من السور التي تعنى بأصول العقيدة والايمان, وقد تناولت أربعة مواضيع أساسية:

1. موضوع الرسالة والشبهات التي أثارها كفار مكة حول دعوته صلى الله عليه وسلم, ما انت بنعمة ربك بمجنون* وانّ لك لأجرا غير ممنون* على ما تحملت من الأذى في سبيل الحق وتبليغ دعوة الله , أجرا غير مقطوع ولا ممنوع, يامن تتصف بالأدب الرفيع والخلق الفاضل الكريم ,االذي جمعت لك فيه كل الفضائل والكمالات الانسانية , وانك لعلى خلق عظيم.

ما هذا الشرف العظيم الذي لم يدرك شأوه بشر من قبللك يا نبي الله صلى الله وسلم وبارك عليك ما ذكر الله عزوجل الذاكرون وما غفل عن ذكره الغافلون, , فأي شرف يا نبي الله وربّ العزة تبارك وتعالى يصفك بهذا الوصف الجليل: وانك لعلى خلق عظيم, وأيّ كرامة تنالها أيها النبي الكريم؟ صلى الله وسلم عليك تسليما كثيرا, عليه وسلم؟
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسم بالمثل والأخلاق العظيمة, اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر, فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم: الصدق,العلم, الحلم, شدة الحياء, كثرة العبادة, السخاء, الصبر, الشكر,التواضع, الزهد, الرحمة, الشفقة, حسن العشرة, والأدب, الى غير ذلك من الخلال والصفات الكريمة العالية والأخلاق الفاضلة, ورحم الله من قال فيه صلى الله عليه وسلم:
اذا الله أثنى بالذي هو اهله عليك
فما مقدار ما تمدح الورى؟



2. عدم طاعة أحد في معصية الخالق, وعلى رأسهم رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا بالرسالة والقرآن, وأمره بعدم طاعة الفاجر الحقير المغتاب والذي يمشي بالنميمة بين الناس, والبخيل الممسك يده عن الانفاق في سبيل الله, وكل ظالم متجاوز في الظلم والعدوان, كثير الآثام والاجرام, الجاف القاسي غليظ القلب , والعديم الفهم , وابن الزنى اللقيط والذي اطلق عليه القرآن الكريم لفظ الزنيم اسما, وما الى ذلك من الأوصاف اللعينة الذميمة التي أجمع المفسرون وعلى رأسهم ابن عباس رضي الله عنما أنّ هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة الذي كان يسهزأ يستهزيء بآيات القرآن الكريم كلما تليت, ويقول عنها خرافات وأباطيل المتقدمين اختلقها النبي صلى الله عليه وسلم, ونسبها الى الله عزوجل, فأنزل الله تبارك وتعالى ردا على ادعاءاته الباطلة قوله: سنسمه على الخرطوم, أي سنكويه له أنفه لتبقى له علامة يعرف بها الى موته, وكني بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به, لأنّ الخرطوم للفيل والخنزير, فاذا شبه أنف انسان به كان في غاية الاذلال والاهانة, وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش, وقد خطم يوم بدر بالسيف, لأجل ذلك يقال في الذليل رغم أنفه, واذا كانت السمة على الوجه فيها شين فما بالنا ان كانت من الوجه؟

وقد قيل أنّ الوليد بن المغيرة كان دعيّا في قريش وليس منهم, بمعنى أنه دخيل عليهم , ولم يعرف الوليد بن المغيرة نفسه أنه ابن زنى الا بعدما نزل فيه تسع آيات فيها تسع صفات من صفاته القبيحة, وقد ختمها الله تعالى بزنيم, والزنيم هو ابن الزنا, وقد روي أنه عندما نزلت التسع آيات التالية: فلا تطع المكذبين* ودّوا لو تدهن فيدهنون* ولا تطع كلّ حلاف مهين* همّاز مشّاء بنميم* منّاع للخير معتد أثيم* عتلّ بعد ذلك زنيم, جاء الوليد الى أمه وقال لها: أنّ محمد (صلى الله عليه وسلم) قد وصفني بتسع صفات كلها ظاهرة فيّ وأعرفها غير التاسع منها, ويقصد بذلك لفظ زنيم, والزنيم بلغة العرب هو اللقيط أو ابن الزنا, ثم قال لها بلغة التهديد: ان لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك بالسيف, فقالت له: انّ أباك كان عنينا (أي لا يستطيع معاشرة النساء) فخفت على المال الكثير الذي بحوزته أن يذهب لغيري, فمكنت راعيا من نفسي وحملت بك , وهو لا يعلم الا أنك ابنه, وأنت ابن ذلك الراعي.

( يتبع )









مديح ال قطب 03-13-2021 06:18 PM












تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

بقي أن نذكر للقاريء الباحث عن المعرفة بأنّ الوليد بن المغيرة كان له من الأبناء عشرة, وثلاثة منهم دخلوا الاسلام وهم:الصحابي الجليل وسيف الله المسلول خالد بن الوليد, والوليد بن الوليد, وهشلم بن الوليد رضي الله عن ثلاثتهم, وشتان , شتان ما بين الوالد والمولود, ومن أحسن من الله قولا وهو يقول: أفمن كلن مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون.
3. قصة أصحاب البستان لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى, وهي شبيهة الى حدما بقصة البستانين الواردة في سورة الكهف.
4. الآخرة وأهوالها وشدائدها, كما في قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون للسجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون وبما أعده الله تعالى لكلا الفريقين المسلمين والمجرمين, كما في قواله عزجل: أنجعل المسلمين كالمجرمين؟
وختمت السورة بحث النبي صلى الله عليه وسلم على االصبر على المشركين وتحمل أذاهم وعدم التبرّم والضجر مما يلقاه صلى الله عليه وسلم منهم في سبيل تبليغ دعوة الله عزوجل, كما حدث مع يونس عليه الصلاة والسلام حين ترك قومه وسارع الى ركوب البحر, وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله عزوجل: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت اذ نادى ربه وهو مكظوم


سورة القلم وقصة أصحاب الجنة

قالى تعالى فى كتابه الحكيم : بسم الله الرحمن الرحيم
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ(5)بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ(6)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(7)}

يقول الحافظ بن كثير :
سورة القلم من الصور المكية والمعروف ان الصور المكية أغلبهايدور على بيان العقيده وتقريرها والاحتجاج لها ، وضرب الأمثال لبيانها وتثبيتها وسورة القلم تدور على ثلاث محاور مهمين وهم على
النحو التالى :

1- موضوع الرسالة، والشبه التي أثارها كفار مكة حول دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
2- قصة أصحاب الجنة "البستان"، لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى.
3- الآخرة وأهوالها وشدائدها، وما أعدَّ الله للفريقين: المسلمين والمجرمين من جنة الجلد وجنهم وبئس المصير.
ولكن الموضوع الأساسى الذي تدور عليه السورة الكريمة هو موضوع إِثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على رفعة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشرفه وبراءته مما ألصقه به المشركون من اتهامه - وحاشاه - بالجنون، وبينت أخلاقه العظيمة، ومناقبه السامية { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإِنك لعلى خُلُقٍ عظيم} .. الآيات. من 1 الى 4

* ثم تناولت موقف المجرمين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعدَّ الله لهم من العذاب والنكال {فلا تطع المكذبين ودُّوا لو تُدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاَّف مهين ..} الآيات من 8 الى 10

* ثم ضربت مثلاً لكفار مكة في كفرانهم نعمة الله العظمى ببعثة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم إليهم وتكذيبهم به بقصة أصحاب الجنة "الحديقة" ذاتِ الأشجار والزروع والثمار، حيث جحدوا نعمة الله ومنعوا حقوق الفقراء والمساكين، فأحرق الله حديقتهم وجعل قصتهم عبرةً للمعتبرين {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذْ أقسموا ليصر مُنَّها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم} الآيات 17 الى 20

* ثم قارنت السورة بين المؤمنين والمجرمين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ..}
الآية 35

* وتناولت السورة الكريمة القيامة وأحوالها وأهوالها، وموقف المجرمين في ذلك اليوم العصيب، الذي يكلفون فيه بالسجود لربِّ العالمين فلا يقدرون {يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} الآية 42

* وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين، وعدم التبرم والضجر بما يلقاه في سبيل تبليغ دعوة الله كما حدث من يونس عليه السلام حين ترك قومه وسارع إلى ركوب البحر {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} الآية 48





بيان رفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ(5)بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ(6)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(7)}

سبب النزول:
نزول الآية (2) {ما أنت ..}:
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنبّي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، ثم شيطان، فنزلت: {ما أنت بنعمة ربِّك بمجنون}.
نزول الآية (4) {وإِنك لعلى خلق عظيم}:
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: {قد أفلح المؤمنون} إلى عشر ءايات [المؤمنون: 10].
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} نون حرف من الحروف المقطعة، ذكر للتنبيه على إعجاز القرآن .. أقسم تعالى بالقلم الذي يكتب الناس به العلوم والمعارف، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده والمعنى: أُقسم بالقلم وما يكتبه الكاتبون على صدق محمد وسلامته مما نسبه إليه المجرمون من السفه والجنون، وفي القسم بالقلم والكتابة إشادة بفضل الكتابة والقراءة، فالإِنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله بمعرفة الكتابة ليفصح عما في ضميره {الذي علَّم بالقلم * علَّم الإِنسان ما لم يعلم} وحسبك دليلاً على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيداً لشأن الكاتبين، ورفعاً من قدر أهل العلم، ففي القلم البيان كما في اللسان، وبه قوام العلوم والمعارف، قال ابن كثير: والظاهر من قوله تعالى {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أنه جنس القلم الذي يكتب به، وهو قسم منه تعالى لتنبيه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي لست يا محمد بفضل الله وإنعامه عليك بالنبوة مجنوناً، كما يقول الجهلة المجرمون، {يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر إنك لمجنون} قال ابن عطية: هذا جواب القسم، وقوله {بنعمة ربك} اعتراض كما تقول للإِنسان: أنت - بحمد الله - فاضل {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي وإِنّ لك لثواباً على ما تحملت من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله غير مقطوع ولا منقوص {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي وإنك يا محمد لعلى أدب رفيع جم، وخلق فاضل كريم، فقد جمع الله فيه الفضائل والكمالات .. يا له من شرف عظيم، لم يدرك شأوه بشر، فربُّ العزة جل وعلا يصف محمداً بهذا الوصف الجليل {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقد كان من خلقه صلى الله عليه وسلم العلم والحلم، وشدة الحياء، وكثرة العبادة والسخاء، والصبر والشكر، والتواضع والزهد، والرحمة والشفقة، وحسن المعاشرة والأدب، إلى غير ذلك من الخلال العلية، والأخلاق المرضية ولقد أحسن القائل:
إذا الـلــه أثنى بالذي هو أهــله عليك فما مقدار ما تمدح الورى؟
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي فسوف ترى يا محمد، ويرى قومك ومخالفوك -كفار مكة - إذا نزل بهم العذاب {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أي أيكم الذي فتن بالجنون؟ هل أنت كما يفترون، أم هم بكفرهم وانصرافهم عن الهدى؟ قال القرطبي: والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان، ومعظم السورة نزل في "الوليد بن المغيرة" و "أبي جهل" وقد كان المشركون يقولون: إن بمحمد شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم المجنون أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي هو سبحانه العالم بالشقي المنحرف عن دين الله وطريق الهدى {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي وهو العالم بالتقي المهتدي إلى الدين الحق، وهو تعليل لما قبله وتأكيد للوعد والوعيد كأنه يقول: إنهم هم المجانين على الحقيقة لا أنت، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما ينجيهم ويسعدهم.

( يتبع )








مديح ال قطب 03-13-2021 06:20 PM














تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

الأخلاق الذميمة عند الكفار

{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ(10)هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ(11)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(12)عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ(13)أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ(14)إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(15)سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(16)}
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أي فلا تطع رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا برسالتك وبالقرآن، فيما يدعونك إليه، قال الرازي: دعاه رؤساء أهل مكة إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله إلهاب وتهييج للتشدد في مخالفتهم {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي تمنوا لو تلين لهم يا محمد، وتترك بعض ما لا يرضونه مصانعة لهم، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك، قال ابن جزي: المداهنة: هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي، روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت الآية {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} أي ولا تطع يا محمد كثير الحلف بالحق والباطل، الذي يكثر من الحلف مستهيناً بعظمة الله {مَهِينٍ} أي فاجر حقير {هَمَّازٍ} أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس، وينقل حديثهم ليوقع بينهم وهو الفتان، وفي الحديث الصحيح (لا يدخل الجنة نمام) {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي بخيل ممسك عن الإِنفاق في سبيل الله {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي ظالم متجاوز في الظلم والعدوان، كثير الآثام والإِجرام، وجاءت الأوصاف {حلاف، هماز مشاء، مناع} بصيغة المبالغة للدلالة على الكثرة {عُتُلٍّ} أي جاف غليظ، قاسي القلب عديم الفهم {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد تلك الأوصاف الذميمة التي تقدمت {زَنِيمٍ} أي ابن زنا، وهذه أشد معايبه وأقبحُها، أنه لصيق دعي ليس له نسب صحيح، قال المفسرون: نزلت في "الوليد بن المغيرة" فقد كان دعياً في قريش وليس منهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة - أي تبناه ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب - قال ابن عباس: لا نعلم أحداً وصفه الله بهذه العيوب غير هذا، فألحق به عاراً لا يفارقه أبداً، وإِنما ذَمَّ بذلك لأن النطفة إِذا خبثت خبث الولد، وروي أن الآية لما نزلت جاء الوليد إلى أمه فقال لها: إن محمداً وصفني بتسع صفات، كلها ظاهرة فيَّ اعرفها غير التاسع منها يريد أنه {زَنِيم} فإن لم تصدقيني ضربت عنقك بالسيف، فقالت له: إن أباك كان عنيناً - أي لا يستطيع معاشرة النساء - فخفت على المال فمكنت راعياً من نفسي فأنت ابن ذلك الراعي، فلم يعرف أنه ابن زنا حتى نزلت الآية {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} أي لأن كان ذا مال وبنين قال في القرآن ما قال، وزعم أنه أساطير الأولين؟ وكان ينبغي أن يقابل النعمة بالشكر لا بالجحود والتكذيب {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي إذا قرئت ءايات القرآن على ذلك الفاجر قال مستهزئاً ساخراً: إنها خرافات وأباطيل المتقدمين اختلقها محمد ونسبها إلى الله، قال تعالى رداً عليه متوعداً له بالعذاب {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي سنجعل له علامة على أنفه بالخطم عليه يعرف بها إلى موته، وكنى بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به، لأن الخرطوم للفيل والخنزير، فإذا شبه أنف الإِنسان به كان ذلك غاية في الإِذلال والإِهانة كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، قال ابن عباس: سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، وقد خطم يوم بدر بالسيف، قال الإِمام الفخر الرازي: لما كان الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنفَة، وقال في الذليل: رغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإِذلال والإِهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه!!

نزول الآية (17):
{إنا بلوناهم ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذاً، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحداً، فنزلت: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} أي في قدرة أهل مكة على المؤمنين، كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.


قصة أصحاب الحديقة

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلا يَسْتَثْنُونَ(18)فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ(20)فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ(21)أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ(22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ(23)أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ(24)وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(25)فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27)قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ(30)قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ(31)عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ(32)كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33)}

ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحديقة وما ابتلاهم تعالى به من إتلاف الزروع والثمار وضربه مثلاً لكفار مكة فقال {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} أي إنا اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه، وكلفنا أهل مكة أن يشكروا ربهم على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم، قال المفسرون: كان لرجل مسلم بقرب صنعاء بستان فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار، وكان إذا حان وقت الحصاد دعا الفقراء فأعطاهم نصيباً وافراً منه وأكرمهم غاية الإِكرام فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة فقالوا: عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا، فتشاوروا فيما بينهم وعزموا على ألا يعطوا أحداً من الفقراء شيئاً، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفية عنهم، وحلفوا على ذلك، فأرسل الله تعالى ناراً على الحديقة ليلاً أحرقت الأشجار وأتلفت الثمار، فلما أصبحواذهبوا إلى حديقتهم فلم يروا فيها شجراً ولا ثمراً، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم تبين لهم أنها بستانهم وحديقتهم وعرفوا أن الله تعالى عاقبهم فيها بنيتهم السيئة، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح، قبل أن يخرج إليهم المساكين {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا، كأنهم واثقون من الأمر {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أي فطرقها طارق من عذاب الله، وهم في غفلة عما حدث لأنهم كانوا نياماً، قال الكلبي: أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي فأصبحت كالزرع المحصود إذا أصبح هشيماً يابساً،

جزاء المؤمنين المتقين

{إِنَّ لِلْمتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(34)أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ(37)إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ(38)أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ(39)سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ(40)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(41)يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ(42)خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)}
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين المتقين بعد أن ذكر حال المجرمين من كفار مكة فقال {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي إن للمتقين في الآخرة حدائق وبساتين ليس فيها إلا النعيم الخالص، الذي لا يشوبه كدر ولا منغص كما هو حال الدنيا {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}؟ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أفنساوي بين المطيع والعاصي، والمحسن والمجرم؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ تعجب منهم حيث إنهم يسوُّون المطيع بالعاصي، والمؤمن بالكافر، فإن مثل هذا لا يصدر عن عاقل {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}؟ أي هل عندكم كتاب منزل من السماء تقرؤون وتدرسون فيه {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} هذه الجملة مفعول لتدرسون أي تدرسون في هذا الكتاب ما تشتهون وتطلبون؟ وهذا توبيخ آخر للمشركين فيما كانوا يزعمونه من الباطل حيث قالوا: إن كان ثمة بعث وجزاء، فسنعطى خيراً من المؤمنين كما أعطينا في الدنيا، قال الطبري: وهذا توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأماني الكاذبة {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي هل لكم عهود ومواثيق مؤكدة من جهتنا ثابتة إلى يوم القيامة؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} هذا جوابه أي إن لكم الذي تريدونه وتحكمون به؟ قال ابن كثير: المعنى أمعكم عهود ومواثيق مؤكدة أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي سل يا محمد هؤلاء المكابرين أيهم كفيل وضامن بهذا الذي يزعمون؟ وفيه نوع من السخرية والتهكم بهم، حيث يحكمون بأمور خارجة عن العقول، يرفضها المنطق وتأباها العدالة {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أي أم لهم شركاء وأرباب يكفلون لهم بذلك، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم، قال ابن جزي: وهذا تعجيز للكفار والمراد إن كان لكم شركاء يقدرون على شيء، فأتوا بهم وأحضروهم حتى نرى حالهم .. ولما أبطل مزاعمهم وسفه أحلامهم، شرع في بيان أهوال الآخرة وشدائدها فقال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي اذكر يا محمد لقومك ذلك اليوم العصيب الذي يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة، قال ابن عباس: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة، قال القرطبي: والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة كقول الراجز:
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ(44)وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ(46)أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ(47)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ(48)لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ(49)فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(50)وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ(51)وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(52)}

( يتبع )










مديح ال قطب 03-13-2021 06:20 PM










تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} أي اتركني يا محمد ومن يكذب بهذا القرآن لأكفيك شره وأنتقم لك منه!! وهذا منتهى الوعيد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي سنأخذهم بطريق الاستدراج بالنعم، إلى الهلاك والدمار، من حيث لا يشعرون، قال الحسن: كم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه، قال الرازي: الاستدراج أن يستنزله إليه درجة حتى يورطه فيه، فكلما أذنبوا ذنباً جدَّد الله لهم نعمة وأنساهم الاستغفار، فالاستدراج إنما حصل لهم من الإِنعام عليهم، لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أُمهلهم وأُطيل في أعمارهم ليزدادوا إثماً {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي إن انتقامي من الكافرين قوي شديد وفي الحديث (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وإنما سمى إحسانه كيداً كما سماه استدارجاً لكونه في صورة الكيد، فما وقع لهم من سعة الأرزاق، وطول الأعمار، وعافية الأبدان، إحسانٌ في الظاهر، وبلاء في الباطن، لأن المقصود معاقبتهم وتعذيبهم به {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي أتسألهم يا محمد غرامة مالية على تبليغ الرسالة، فهم معرضون عن الإِيمان بسبب ذلك التكليف الثقيل ببذلهم المال؟ والغرض توبيخهم في عدم الإِيمان فإن الرسول لا يطلب منهم شيئاً من الأجر، قال الخازن: المعنى أتطلب منهم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم عن الإِيمان {أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي أم هل عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب، فهم ينقلون منه أنهم خير من أهل الإِيمان، فلذلك أصروا على الكفر والطغيان؟ وهو استفهام على سبيل الإِنكار والتوبيخ {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي فاصبر يا محمد على أذاهم، وامض لما أُمرت به من تبليغ رسالة ربك {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} أي ولا تكن في الضجر والعجلة، كيونس بن متى عليه السلام، لما غضب على قومه لأنهم لم يؤمنوا فتركهم وركب البحر ثم التقمه الحوت، وكان من أمره ما كان {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي حين دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غماً وغيظاً بقوله {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين}{لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي لولا أن تداركته رحمة الله {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي لطرح في الفضاء الواسع الخالي من الأشجار والجبال، وهو ملام على ما ارتكب، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموماً {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين، قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك، من قولهم نظر إلي نظراً كاد يصرعني، قال ابن كثير: وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، ويؤيده حديث (لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أي حين سمعوك تقرأ القرآن، ويقولون من شدة بغضهم وحسدهم لك: إن محمداً مجنون، قال تعالى رداً عليهم {وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإِنس والجن، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون؟! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن، كما بدأها ببيان عظمة الرسول.

( يتبع – سورة الحاقة )














مديح ال قطب 03-13-2021 06:21 PM












سورة الحاقة

التعريف بالسورة :
مكية .
من المفصل .
آياتها 52 .
ترتيبها التاسعة والستون .
نزلت بعد الملك .
بدأت السورة باسم من أسماء يوم القيامة وهو الحاقة .

سبب التسمية

قال ابن عاشور:
سميت (سورة الحاقّة) في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وروى أحمد بن حنبل أن عمر بن الخطاب قال: «خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله قبل أن أُسْلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت: هذا والله شاعر، (أي قلت في خاطري)، فقرأ {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون}(الحاقة: 41) قلت: كاهن، فقرأ {ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من ربّ العالمين} (الحاقة: 42 43) إلى آخر السورة، فوقع الإِسلام في قلبي كلّ موقع».
وباسم (الحاقة) عنونت في المصاحف وكُتب السنة وكتب التفسير.
وقال الفيروزأبادي في بصائر ذوي التمييز: إنها تسمى أيضا (سورة السلسلة) لقوله: {ثم في سلسلة} (الحاقة: 32) وسماها الجعربي في منظومته في ترتيب نزول السور (الواعية) ولعله أخذه من وقوع قوله {وتعِيها أُذن واعية} (الحاقة: 12) ولم أر له سلفا في هذه التسمية.
ووجه تسميتها (سورة الحاقة) وقوع هذه الكلمة في أولها ولم تقع في غيرها من سور القرآن.

سبب نزول السورة :

قال تعالى " وتعيها أذن واعية " قال رسول الله: لعلي أن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وتعي وحق على الله أن تعي فنزلت ( وتعيها أذن واعية ) .


محور مواضيع السورة :

تناولت السورة أمور عديدة : كالحديث عن القيامة وأهوالها ، والساعة وشدائدها، والحديث عن المكذبين وما جرى لهم ، مثل عاد وثمود وقوم لوط وفرعون وقوم نوح ، وغيرهم من الطغاة المفسدين في الأرض ، كما تناولت ذكر السعداء والأشقياء ، ولكن المحور الذي تدور عليه السورة هو إثبات صدق القرآن ، وأنه كلام الحكيم العليم ، وبراءة الرسول مما اتهمه به أهل الضلال .

قال البقاعي:
سورة الحاقة مقصودها تنزيه الخالق ببعث الخلائق لإحقاق الحق وإزهاق الباطل بالكشف التام لشمول العلم للكليات والجزئيات وكمال القدرة على العلويات والسلفيات، وإظهار العدل بين سائر المخلوقات، ليميز المسلم من المجرم بالملذذ والمؤلم، وتسميتها بالحاقة في غاية الوضوح في ذلك وهو أدل ما فيها عليه

ومعظم مقصود السّورة الخبر عن صعوبة القيامة، والإِشارة بإِهلاك القرون الماضية، وذكر نفْخة الصُّور، وانشقاق السّموات، وحال السّعداءِ والأشقياءِ وقت قراءة الكتب، وذلّ الكفّار مقهورين في أيدى الزّبانية، ووصف الكفّار القرآن بأنه كِهانة وشعر، وبيان أنّ القرآن تذكِرة للمؤمن، وحسرة للكافر، والأمر بتسبيح الرّكوع في قوله: {فسبِّحْ بِاسْمِ ربِّك الْعظِيمِ}.

( يتبع )










مديح ال قطب 03-13-2021 06:22 PM








تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

قال سيد قطب:

هذه سورة هائلة رهيبة؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس، وتطالعه بالهول القاصم، والجد الصارم، والمشهد تلو المشهد، كله إيقاع ملح على الحس، بالهول آنا وبالجلال آنا، وبالعذاب آنا، وبالحركة القوية في كل آن!

والسورة بجملتها تلقي في الحس بكل قوة وعمق إحساسا واحدا بمعنى واحد.. أن هذا الأمر، أمر الدين والعقيدة، جد خالص حازم جازم. جد كله لا هزل فيه. ولا مجال فيه للهزل. جد في الدنيا وجد في الآخرة، وجد في ميزان الله وحسابه. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا. وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم، وأخذه الحاسم. ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول. فالأمر أكبر من الرسول وأكبر من البشر.. إنه الحق. حق اليقين. من رب العالمين.

يبرز هذا المعنى في اسم القيامة المختار في هذه السورة، والذي سميت به السورة: (الحاقة).. وهي بلفظها وجرسها ومعناها تلقي في الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار. وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شيء برفع الثقل طويلا، ثم استقراره استقرارا مكينا. رفعه في مدة الحاء بالألف، وجده في تشديد القاف بعدها، واستقراره بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاء ساكنة.

ويبرز في مصارع المكذبين بالدين وبالعقيدة وبالآخرة قوما بعد قوم، وجماعة بعد جماعة، مصارعهم العاصفة القاصمة الحاسمة الجازمة: كذبت ثمود وعاد بالقارعة. فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية. فهل ترى لهم من باقية؟ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة، فعصوا رسول ربهم، فأخذهم أخذة رابية. إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية.. وهكذا كل من تلفت عن هذا الأمر أخذ أخذة مروعة داهمة قاصمة، تتناسب مع الجد الصارم الحاسم في هذا الأمر العظيم الهائل، الذي لا يحتمل هزلا، ولا يحتمل لعبا، ولا يحتمل تلفتا عنه من هنا أو هناك!

ويبرز في مشهد القيامة المروع، وفي نهاية الكون الرهيبة، وفي جلال التجلي كذلك وهو أروع وأهول: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة ,وانشقت السماء فهي يومئذ واهية.. والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}..

ذلك الهول. وهذا الجلال. يخلعان الجد الرائع الجليل على مشهد الحساب عن ذلك الأمر المهول. ويشاركان في تعميق ذلك المعنى في الحس مع سائر إيقاعات السورة وإيحاءاتها. هو وما بعده من مقالة الناجين والمعذبين: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه.. فقد نجا وما يكاد يصدق بالنجاة.. {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه}.. بهذا التفجع الطويل، الذي يطبع في الحس وقع هذا المصير..

ثم يبدو ذلك الجد الصارم والهول القاصم في النطق العلوي بالقضاء الرهيب الرعيب، في اليوم الهائل، وفي الموقف الجليل: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه}.. وكل فقرة كأنها تحمل ثقل السماوات والأرض، وتنقض في جلال مذهل، وفي هول مروع، وفي جد ثقيل..

ثم ما يعقب كلمة القضاء الجليل، من بيان لموجبات الحكم الرهيب ونهاية المذنب الرعيبة: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم هاهنا حميم. ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون..

ثم يبرز ذلك المعنى في التلويح بقسم هائل، وفي تقرير الله لحقيقة الدين الأخير: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين}.


وأخيرا يبرز الجد في الإيقاع الأخير. وفي التهديد الجازم والأخذ القاصم لكل من يتلاعب في هذا الأمر أو يبدل. كائنا من كان، ولو كان هو محمدا الرسول: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين}.. فهو الأمر الذي لا تسامح فيه ولا هوادة ولا لين..

وعندئذ تختم السورة بالتقرير الجازم الحاسم والقول الفصل الأخير عن هذا الأمر الخطير: {وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين.. فسبح باسم ربك العظيم}.. وهو الختام الذي يقطع كل قول، ويلقي بكلمة الفصل، وينتهي إلى الفراغ من كل لغو، والتسبيح باسم الله العظيم..

ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب:

إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية، المتناهية الحيوية، بحيث لا يملك منها فكاكا، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة!

فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط {المؤتفكات} حاضرة شاخصة، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها. وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوما في آيتين اثنتين سريعتين.. ومن ذا الذي يقرأ: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية}.. ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرةالمحطمة المدمرة. سبع ليال وثمانية أيام. ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين {كأنهم أعجاز نخل خاوية}.

( يتبع )






مديح ال قطب 03-13-2021 06:23 PM







تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

وهو مشهد حي ماثل للعين، ماثل للقلب، ماثل للخيال! وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة.

ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون. هذه هي تخايل للحس، وتقرقع حوله، وتغمره بالرعب والهول والكآبة. ومن ذا الذي يسمع: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة}.. ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة!! ومن الذي يسمع:


{وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها}.. ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة؟! ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع: {والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}..

ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحة، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة: هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه!

ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله. والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته: {يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه}.

ومن ذا الذي لا يرتعش حسه، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب: خذوه، فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه... إلخ.. وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير!

وحاله هناك: فليس له اليوم هاهنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون.

وأخيرا فمن ذا الذي لا تأخذه الرجفة وتلفه الرهبة، وهو يتمثل في الخيال صورة التهديد الشديد: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين}..

إنها مشاهد من القوة والحيوية والحضور بحيث لا يملك الحس أن يتلفت عنها طوال السورة، وهي تلح عليه، وتضغط، وتتخلل الأعصاب والمشاعر في تأثير حقيقي عنيف!


ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة، برنته الخاصة وتنوع هذه الرنة، وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق.. فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة:
{الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة}.. إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها. سواء كانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسكون، أو هاء سكت مزيدة لتنسيق الإيقاع، طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء. ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه..}.. ثم يتغير مرة أخرى عند تقرير أسباب الحكم، وتقرير جدية الأمر، إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة مستقرة على الميم أو النون: نه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين.. {وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم}..

وهذا التغير في حرف الفاصلة وفي نوع المد قبلها وفي الإيقاع كله ظاهرة ملحوظة تتبع تغير السياق والمشاهدوالجو، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق. وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس. في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير.



إنها سورة هائلة رهيبة. قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة. وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل، ومن كل تعليق!

«الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ؟. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» ..
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة. ومن ثم تبدأ السورة باسمها ، وتسمى به ، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا. فالحاقة هي التي تحق فتقع. أو تحق فتنزل بحكمها على الناس. أو تحق فيكون فيها الحق .. وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها. ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعا معينا يساوق هذا المعنى الكامن فيها ، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها ويمهد لما حق على المكذبين بها.
في الدنيا وفي الآخرة جميعا.

والجو كله في السورة جو جد وجزم ، كما أنه جو هول وروع. وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم ، شعورا بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة ، وبضالة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى وأخذها له أخذا شديدا في الدنيا والآخرة ، عند ما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده اللّه للبشرية ، ممثلا فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة فهو لا يجيء ليهمل ، ولا ليبدل ، إنما يجيء ليطاع ويحترم ، ويقابل بالتحرج والتقوى. وإلا فهناك الأخذ والقصم ، وهناك الهول والروع.

( يتبع )








مديح ال قطب 03-13-2021 06:23 PM














تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب ، وبدلالة التركيب كله .. تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره. فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة ، لا خبر لها في ظاهر اللفظ : «الْحَاقَّةُ» .. ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم : «مَا الْحَاقَّةُ؟» .. ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل ، وإخراج المسألة عن حدود العلم والإدراك : «وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» .. ثم يسكت فلا يجيب على هذا السؤال. ويدعك واقفا أمام هذا الأمر المستهول المستعظم ، الذي لا تدريه ، ولا يتأتى لك أن تدريه! لأنه أعظم من أن يحيط به العلم والإدراك! ويبدأ الحديث عن المكذبين به ، وما نالهم من الهول ، وما أخذوا به من القصم ، فذلك الأمر جدّ لا يحتمل التكذيب ، ولا يذهب ناجيا من يصر فيه على التكذيب :

«كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟».

وهذا اسم جديد للحاقة. إنها فوق أنها تحق .. فهي تقرع .. والقرع ضرب الشيء الصلب والنقر عليه بشيء مثله. والقارعة تقرع القلوب بالهول والرعب ، وتقرع الكون بالدمار والحطم. وها هي ذي بجرسها تقعقع وتقرقع ، وتقرع وتفزع .. وقد كذبت بها ثمود وعاد. فلننظر كيف كانت عاقبة التكذيب ..

«فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» ..
وثمود - كما جاء في مواضع أخرى - كانت تسكن الحجر في شمالي الحجاز بين الحجاز والشام. وكان أخذهم بالصيحة كما سماها في غير موضع. أما هنا فهو يذكر وصف الصيحة دون لفظها .. «بِالطَّاغِيَةِ» .. لأن هذا الوصف يفيض بالهول المناسب لجو السورة. ولأن إيقاع اللفظ يتفق مع إيقاع الفاصلة في هذا المقطع منها.
ويكتفي بهذه الآية الواحدة تطوي ثمود طيا ، وتغمرهم غمرا ، وتعصف بهم عصفا ، وتطغى عليهم فلا تبقي لهم ظلا! وأما عاد فيفصل في أمر نكبتها ويطيل ، فقد استمرت وقعتها سبع ليال وثمانية أيام حسوما. على حين كانت وقعة ثمود خاطفة .. صيحة واحدة. طاغية .. «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ». والريح الصرصر :
الشديدة الباردة. واللفظ ذاته فيه صرصرة الريح. وزاد شدتها بوصفها «عاتِيَةٍ» .. لتناسب عتو عاد وجبروتها المحكيّ في القرآن ، وقد كانوا يسكنون الأحقاف في جنوب الجزيرة بين اليمن وحضر موت. وكانوا أشداء بطاشين جبارين. هذه الريح الصرصر العاتية : «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» .. والحسوم القاطعة المستمرة في القطع. والتعبير يرسم مشهد العاصفة المزمجرة المدمرة المستمرة هذه الفترة الطويلة المحددة بالدقة :
«سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ». ثم يعرض المشهد بعدها شاخصا : «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» ..
فترى .. فالمنظر معروض تراه ، والتعبير يلح به على الحس حتى يتملاه! «صَرْعى » .. مصروعين مجدلين متناثرين «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ» بأصولها وجذوعها «خاوِيَةٍ» فارغة تآكلت أجوافها فارتمت ساقطة على الأرض هامدة! إنه مشهد حاضر شاخص. مشهد ساكن كئيب بعد العاصفة المزمجرة المدمرة .. «فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟» .. لا! فليس لهم من باقية!!! ذلك شأن عاد وثمود .. وهو شأن غيرهما من المكذبين. وفي آيتين اثنتين يجمل وقائع شتى :


«وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» ..

وفرعون كان في مصر - وهو فرعون موسى - ومن قبله لا يذكر عنهم تفصيل. والمؤتفكات قرى لوط المدمرة التي اتبعت الإفك أو التي انقلبت ، فاللفظ يعني هذا وهذا. ويجمل السياق فعال هؤلاء جميعا ، فيقول عنهم انهم جاءوا «بِالْخاطِئَةِ» أي بالفعلة الخاطئة .. من الخطيئة .. «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ» .. وهم عصوا رسلا متعددين ولكن حقيقتهم واحدة ، ورسالتهم في صميمها واحدة. فهم إذن رسول واحد ، يمثل حقيقة واحدة - وذلك من بدائع الإشارات القرآنية الموحية - وفي إجمال يذكر مصيرهم في تعبير يلقي الهول والحسم حسب جو السورة :

«فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» .. والرابية العالية الغامرة الطامرة. لتناسب «الطاغية» التي أخذت ثمود «والعاتية» التي أخذت عادا ، وتناسب جو الهول والرعب في السياق بدون تفصيل ولا تطويل! ثم يرسم مشهد الطوفان والسفينة الجارية ، مشيرا بهذا المشهد إلى مصرع قوم نوح حين كذبوا. وممتنا على البشر بنجاة أصولهم التي انبثقوا منها ، ثم لم يشكروا ولم يعتبروا بتلك الآية الكبرى

( يتبع )










مديح ال قطب 03-13-2021 06:24 PM






.
.
.


.
.
.


.
.
.
.








تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

«إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» ..
ومشهد طغيان الماء ومشهد الجارية على الماء الطاغي ، كلاهما يتناسق مع مشاهد السورة وظلالها. وجرس الجارية وواعية يتمشى كذلك مع إيقاع القافية.


وهذه اللمسة «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ»
تلمس القلوب الخامدة والآذان البليدة ، التي تكذب بعد كل ما سبق من النذر وكل ما سبق من المصائر ، وكل ما سبق من الآيات ، وكل ما سبق من العظات ، وكل ما سبق من آلاء اللّه ونعمه على أصول هؤلاء الغافلين!

وكل هذه المشاهد المروعة الهائلة القاصمة الحاسمة تبدو ضئيلة صغيرة إلى جانب الهول الأكبر. هول الحاقة والقارعة التي يكذب بها المكذبون ، وقد شهدوا مصارع المكذبين ..

إن الهول في هذه المصارع - على ضخامتها - محدود إذا قيس إلى هول القارعة المطلق من الحدود المدخر لذلك اليوم المشهود.


بعد هذا التمهيد يكمل العرض ، ويكشف عن الهول كأنه التكملة المدخرة للمشاهد الأولى :
«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» ..

ونحن نؤمن أن هناك نفخة في الصور وهو البوق تحدث بعدها هذه الأحداث. ولا نزيد في تفصيلها شيئا.
لأنها غيب. ليس عندنا من دلائله إلا مثل هذه النصوص المجملة وليس لنا مصدر آخر لتفصيل هذا الإجمال.

والتفصيل لا يزيد في حكمة النص شيئا ، والجري وراءه عبث لا طائل تحته ، إلا اتباع الظن المنهيّ عنه أصلا.
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، فتبع هذه النفخة تلك الحركة الهائلة : «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» .. ومشهد حمل الأرض والجبال ونفضها ودكها دكة واحدة تسوي عاليها بسافلها .. مشهد مروع حقا. هذه الأرض التي يجوس الإنسان خلالها آمنا مطمئنا ، وهي تحته مستقرة مطمئنة. وهذه الجبال الراسية الوطيدة الراسخة التي تهول الإنسان بروعتها واستقرارها .. هذه مع هذه تحمل فتدك كالكرة في يد الوليد ..

إنه مشهد يشعر معه الإنسان بضالته وضآلة عالمه إلى جانب هذه القدرة القادرة ، في ذلك اليوم العظيم ..

فإذا وقع هذا. إذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة .. فهو حينئذ الأمر الذي تتحدث عنه السورة : «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ»


.. والواقعة اسم من أسمائها كالحاقة والقارعة.
فهي الواقعة لأنها لا بد واقعة. كأن طبيعتها وحقيقتها الدائمة أن تكون واقعة! وهو اسم ذو إيحاء معين وهو إيحاء مقصود في صدد الارتياب فيها والتكذيب!




لا يقتصر الهول على حمل الأرض والجبال ودكها دكة واحدة ، فالسماء في هذا اليوم الهائل ليست بناجية :
«وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» ..

ونحن لا ندري على وجه التحقيق ما السماء المقصودة بهذا اللفظ في القرآن. ولكن هذا النص والنصوص الأخرى التي تشير إلى الأحداث الكونية في ذلك اليوم العظيم كلها تشير إلى انفراط عقد هذا الكون المنظور ، واختلال روابطه وضوابطه التي تمسك به في هذا النظام البديع الدقيق ، وتناثر أجزائه بعد انفلاتها من قيد الناموس ..
ولعله من المصادفات الغريبة أن يتنبأ الآن علماء الفلك بشيء يشبه هذا تكون فيه نهاية العالم ، استنباطا من ملاحظتهم العلمية البحتة ، وحسب القليل الذي عرفوه من طبيعة هذا الكون وقصته كما افترضوها ..

فأما نحن فنكاد نشهد هذه المشاهد المذهلة ، من خلال النصوص القرآنية الجازمة وهي نصوص مجملة توحي بشيء عام ونحن نقف عند إيحاء هذه النصوص ، فهي عندنا الخبر الوحيد المستيقن عن هذا الشأن ، لأنها صادرة من صاحب الشأن ، الذي خلق ، والذي يعلم ما خلق علم اليقين.

نكاد نشهد الأرض وهي تحمل بجبالها بكتلتها هذه ، الضخمة بالقياس إلينا ، الصغيرة كالهباءة بالقياس إلى الكون ، فتدك دكة واحدة ونكاد نشهد السماء وهي مشققة واهية والكواكب وهي متناثرة منكدرة ..


كل ذلك من خلال النصوص القرآنية الحية ، المشخصة المشاهد بكامل قوتها كأنها حاضرة ..

( يتبع )



.
.
..

.
.
.

.
.
.
.


مديح ال قطب 03-13-2021 06:24 PM







.
.
.


.
.
.


.
.
.
.






تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

ثم يغمر الجلال المشهد ويغشية ، وتسكن الضجة التي تملأ الحس من النفخة والدكة والتشقق والانتثار. يسكن هذا كله ويظهر في المشهد عرش الواحد القهار :

«وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها ، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» ..
والملائكة على أرجاء هذه السماء المنشقة وأطرافها ، والعرش فوقهم يحمله ثمانية .. ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منهم ، أو ثمانية طبقات من طبقاتهم ، أو ثمانية مما يعلم اللّه. لا ندري نحن من هم ولا ما هم. كما لا ندري نحن ما العرش؟ ولا كيف يحمل؟ ونخلص من كل هذه الغيبيات التي لا علم لنا بها ، ولم يكلفنا اللّه من علمها إلا ما قص علينا. نخلص من مفردات هذه الغيبيات إلى الظل الجليل الذي تخلعه على الموقف. وهو المطلوب منا أن تستشعره ضمائرنا. وهو المقصود من ذكر هذه الأحداث ليشعر القلب البشري بالجلال والرهبة والخشوع ، في ذلك اليوم العظيم ، وفي ذلك الموقف الجليل


إن طبيعة الإنسان لمعقدة شديدة التعقيد ففي نفسه منحنيات شتى ودروب ، تتخفى فيها نفسه وتتدسس بمشاعرها ونزواتها وهفواتها وخواطرها وأسرارها وخصوصياتها.

وان الإنسان ليصنع أشد مما تصنعه القوقعة الرخوة الهلامية حين تتعرض لوخزة إبرة ، فتنطوي سريعا ، وتنكمش داخل القوقعة ، وتغلق على نفسها تماما.

إن الإنسان ليصنع أشد من هذا حين يحس أن عينا تدسست عليه فكشفت منه شيئا مما يخفيه ، وأن لمحة أصابت منه دربا خفيا أو منحنى سريا! ويشعر بقدر عنيف من الألم الواخز حين يطلع عليه أحد في خلوة من خلواته الشعورية ..
فكيف بهذا المخلوق وهو عريان. عريان حقا. عريان الجسد والقلب والشعور والنية والضمير. عريان من كل ساتر. عريان ... كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار ، وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟! ألا إنه لأمر ، أمّر من كل أمر!!! وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين ، كأنه حاضر تراه العيون ..

«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ .. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. قُطُوفُها دانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ».

وأخذ الكتاب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر قد يكون حقيقة مادية ، وقد يكون تمثيلا لغويا جاريا على اصطلاحات اللغة العربية من تعبيرهم عن وجهة الخير باليمين ووجهة الشر بالشمال أو من وراء الظهر .. وسواء كان هذا أو ذاك فالمدلول واحد ، وهو لا يستدعي جدلا يضيع فيه جلال الموقف! والمشهد المعروض هو مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب ، وهو ينطلق في فرحة غامرة ، بين الجموع الحاشدة ، تملأ الفرحة جوانحه ، وتغلبه على لسانه ، فيهتف : «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» .. ثم يذكر في بهجة أنه لم يكن يصدق أنه ناج ، بل كان يتوقع أن يناقش الحساب .. «ومن نوقش الحساب عذب» كما جاء في الأثر : عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - : «من نوقش الحساب عذب» فقلت : أليس يقول اللّه تعالى : «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» فقال : «إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك

( يتبع )



.
.
..

.
.
.

.
.
.
.


مديح ال قطب 03-13-2021 06:25 PM






.
.
.


.
.
.


.
.
.
.









تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

قال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مطر الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم ، عن الأحول ، عن أبي عثمان ، قال : المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من اللّه ، فيقرأ سيئاته ، فكلما قرأ سيئة تغير لونه ، حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات. قال :
فعند ذلك يقول : «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ».

وروى عن عبد اللّه بن حنظلة - غسيل الملائكة - قال : إن اللّه يوقف عبده يوم القيامة فيبدي - أي يظهر - سيئاته في ظهر صحيفته ، فيقول له : أنت عملت هذا؟ فيقول : نعم أي رب! فيقول له : إني لم أفضحك به ، وإني قد غفرت لك. فيقول عند ذلك : «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ».

وفي الصحيح من حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى ، فقال : «سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يقول : «يدني اللّه العبد يوم القيامة ، فيقرره بذنوبه كلها ، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال اللّه تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة اللّه على الظالمين» ..

ثم يعلن على رؤوس الأشهاد ما أعد لهذا الناجي من النعيم ، الذي تبدو فيه هنا ألوان من النعيم الحسي ، تناسب حال المخاطبين إذ ذاك ، وهم حديثو عهد بجاهلية ، ولم يسر من آمن منهم شوطا طويلا في الإيمان ، ينطبع به حسه ، ويعرف به من النعيم ما هو أرق وأعلى من كل متاع


«فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. قُطُوفُها دانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» ..
وهذا اللون من النعيم ، مع هذا اللون من التكريم في الالتفات إلى أهله بالخطاب وقوله : «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» .. فوق أنه اللون الذي تبلغ إليه مدارك المخاطبين بالقرآن في أول العهد بالصلة باللّه ، قبل أن تسمو المشاعر فترى في القرب من اللّه ما هو أعجب من كل متاع .. فوق هذا فإنه يلبي حاجات نفوس كثيرة على مدى الزمان. والنعيم ألوان غير هذا وألوان ..

«وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ» وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته ، وأن إلى العذاب مصيره ، فيقف في هذا المعرض الحافل الحاشد ، وقفة المتحسر الكسير الكئيب .. «فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ! وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ! يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ! ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ! هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ!» ..

وهي وقفة طويلة ، وحسرة مديدة ، ونغمة يائسه ، ولهجة بائسة. والسياق يطيل عرض هذه الوقفة حتى ليخيل إلى السامع أنها لا تنتهي إلى نهاية ، وأن هذا التفجع والتحسر سيمضي بلا غاية! وذلك من عجائب العرض في إطالة بعض المواقف ، وتقصير بعضها ، وفق الإيحاء النفسي الذي يريد أن يتركه في النفوس. وهنا يراد طبع موقف الحسرة وإيحاء الفجيعة من وراء هذا المشهد الحسير. ومن ثم يطول ويطول ، في تنغيم وتفصيل. ويتمنى ذلك البائس أنه لم يأت هذا الموقف ، ولم يؤت كتابه ، ولم يدر ما حسابه كما يتمنى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية ، التي تنهي وجوده أصلا فلا يعود بعدها شيئا .. ثم يتحسر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه : «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ» .. «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» .. فلا المال أغنى أو نفع. ولا السلطان بقي أو دفع .. والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة وفي ياء العلة قبلها بعد المد بالألف ، في تحزن وتحسر .. هي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاء عميقا بليغا


ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم ، بجلاله وهوله وروعته :
«خُذُوهُ. فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» ..

يا للهول الهائل! ويا للرعب القاتل! ويا للجلال الماثل! «خُذُوهُ» ..

كلمة تصدر من العلي الأعلى. فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل. ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب ، كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو : «إذا قال اللّه تعالى : خذوه ابتدره سبعون ألف ملك. إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار» .. كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة! «فَغُلُّوهُ» ..

فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه ..!
«ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ» ..

ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه ..

«ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» ..
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها.
ولعل هذا الإيحاء هو المقصود! .

( يتبع )
.
.
..

.
.
.

.
.
.
.


مديح ال قطب 03-13-2021 06:26 PM






.
.
.


.
.
.


.
.
.
.







تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

فإذا انتهى الأمر ، نشرت أسبابه على الحشود :
«إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» ..

إنه قد خلا قلبه من الإيمان باللّه ، والرحمة بالعباد. فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار وذلك العذاب.

خلا قلبه من الإيمان باللّه فهو موات ، وهو خرب ، وهو بور. وهو خلو من النور. وهو مسخ من الكائنات لا يساوي الحيوان بل لا يساوي الجماد. فكل شيء مؤمن ، يسبح بحمد ربه ، موصول بمصدر وجوده. أما هو فمقطوع من اللّه. مقطوع من الوجود المؤمن باللّه.

وخلا قلبه من الرحمة بالعباد. والمسكين هو أحوج العباد إلى الرحمة ولكن هذا لم يستشعر قلبه ما يدعو إلى الاحتفال بأمر المسكين. ولم يحض على طعامه وهي خطوة وراء إطعامه. توحي بأن هناك واجبا اجتماعيا يتحاض عليه المؤمنون. وهو وثيق الصلة بالإيمان. يليه في النص ويليه في الميزان! «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» ..

وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي. فلقد كان لا يؤمن باللّه العظيم ، وكان لا يحض على طعام المسكين. فهو هنا مقطوع «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ» .. وهو ممنوع : «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» .. والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد! طعام «لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» .. المذنبون المتصفون بالخطيئة .. وهو منهم في الصميم! وبعد ، فذلك هو الذي يجعله اللّه مستحقا للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعا في الجحيم.

وهو أشد دركات جهنم عذابا .. فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ ، ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء؟ أين ترى يذهب هؤلاء ، وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين؟ وما الذي أعده اللّه لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين ، ذلك العذاب في الجحيم

وينتهي هذا المشهد العنيف المثير. الذي لعله جاء في هذه الصورة المفزعة لأن البيئة كانت جبارة قاسية عنيدة تحتاج إلى عرض هذه المشاهد العنيفة كي تؤثر فيها وتهزها وتستحييها. ومثل هذه البيئة يتكرر في الجاهليات التي تمر بها البشرية ، كما أنه يوجد في الوقت الواحد مع أرق البيئات وأشدها تأثرا واستجابة. لأن رقعة الأرض واسعة. وتوزيع المستويات والنفسيات فيها مختلف. والقرآن يخاطب كل مستوى وكل نفس بما يؤثر فيها ، وبما تستجيب له حين يدعوها. والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوبا أقسى ، وطبائع أجسى ، وجبلات لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات. ومشاهد وصور مثيرة كهذه المشاهد والصور المثيرة ..

وفي ظل هذه المشاهد العنيفة المثيرة ، المتوالية منذ أول السورة ، مشاهد الأخذ في الدنيا والآخرة ، ومشاهد التدمير الكونية الشاملة ، ومشاهد النفوس المكشوفة العارية ، ومشاهد الفرحة الطائرة والحسرة الغامرة ..

في ظل هذه المشاهد العميقة الأثر في المشاعر يجيء التقرير الحاسم الجازم عن حقيقة هذا القول الذي جاءهم به الرسول الكريم ، فتلقوه بالشك والسخرية والتكذيب :

«فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ ، قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..

إن الأمر لا يحتاج إلى قسم وهو واضح هذا الوضوح ، ثابت هذا الثبوت ، واقع هذا الوقوع. لا يحتاج إلى قسم أنه حق ، صادر عن الحق ، وليس شعر شاعر ، ولا كهانة كاهن ، ولا افتراء مفتر! لا. فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين :

«فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ» ..
بهذه الفخامة وبهذه الضخامة ، وبهذا التهويل بالغيب المكنون ، إلى جانب الحاضر المشهود .. والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر. بل مما يدركون. وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة ، تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها - كما شاء اللّه لهم - والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير. والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض ، ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود ..

«فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ» ..
ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسرارا أخرى لا يبصرها ولا يدركها. وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة. فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه ، ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود. فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون. ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض ..

ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة ، وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر - بما لا يقاس - مما وصل إليه .. عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه ، ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور! إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين ، ويدرك الوعي ، بأدواته الميسرة له .. مساكين! سجناء حسهم وإدراكهم المحدود. محصورون في عالم ضيق على سعته ، صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير ..

( يتبع )



.
.
..

.
.
.

.
.
.
.


مديح ال قطب 03-13-2021 06:26 PM






.
.
.


.
.
.


.
.
.
.







تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

في فترات مختلفة من تاريخ هذه البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود ، والحاضر المشهود ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور ، والاتصال بالحق الكبير ، عن طريق الإيمان والشعور. ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم .. تارة باسم الجاهلية. وتارة باسم العلمانية! وهذه كتلك سجن كبير. وبؤس مرير. وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور! والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها - بحمق وغرور - حول نفسه في القرنين الماضيين .. يتخلص من تلك القضبان ، ويتصل بالنور - عن طريق تجاربه ذاتها - بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا وعرف حدوده ، وجرب أن أدواته المحدودة تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة. وعاد «العلم يدعو إلى الإيمان» في تواضع تبشر أوائله بالفرج! أي نعم بالفرج. فما يسجن الإنسان نفسه وراء قضبان المادة الموهومة إلا وقد قدر عليه الضيق!


ولقد رأينا عالما مثل ألكسيس كاريل الطبيب المتخصص في بحوث الخلية ونقل الدم والمشتغل بالطب علما وجراحة وإشرافا على معاهد العلاج والنظريات العلاجية ، وصاحب جائزة نوبل سنة 1912 ومدير معهد الدراسات الإنسانية بفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية يرى :

«أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا ، وأن العقل الإنساني هاد قاصد بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته. وان الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا ، وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة ، فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء» .

«وأن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة ، لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح» ..

ورأينا طبيبا آخر مثل «دي نوي» الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي ، وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته ، واستدعاه معهد رو كفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح .. يقول :

«كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان باللّه لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه.
على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور اللّه إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب. فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل. وليس الكهرب قابلا للتصور في كيانه المادي! وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب» ...


ورأينا عالما طبيعيا مثل سير أرثر طومسون المؤلف الاسكتلندي الشهير يقول : «إننا في زمن شفت فيه الأرض الصلبة ، وفقد فيه الأثير كيانه المادي ، فهو أقل الأزمنة صلاحا للغلو في التأويلات المادية».

ويقول في مجموعة «العلم والدين» :
«ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة. إذ ليست هذه وجهته. وقد تكون النتيجة أكبر جدا من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة.
إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم ، حيث لم يكن ذلك يسيرا في أيام آبائنا وأجدادنا ... فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في اللّه - كما زعم مستر لا نجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه - فنحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم ، أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن اللّه أنبل وأسمى ، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول : إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضا جديدة ، وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي ، فإذا به ، في كثير من الأحيان ، لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم ، وذلك في اليقين والاطمئنان إلى اللّه»

ورأينا عالما مثل «ا. كريسي موريسون» رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة سابقا يقول في كتابه : «الإنسان لا يقوم وحده » :

«إننا نقترب فعلا من عالم المجهول الشاسع ، إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربائية. ولكن مما لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون ، لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون.

«إن ارتقاء الإنساني الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده ، هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي ، ودون قصد ابتداعي.

«وإذا قبلت واقعية القصد ، فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازا. ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز؟
لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه. والعلم لا يعلل من يتولى إدارته ، وكذلك لا يزعم أنه مادي.

«لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن اللّه قد منح الإنسان قبسا من نوره ...».

( يتبع )


.
.
..

.
.
.

.
.
.
.


مديح ال قطب 03-13-2021 06:27 PM




.
.
.


.
.
.


.
.
.
.








تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

وهكذا بدأ العلم يخرج من سجن المادية وجدرانها بوسائله الذاتية ، فيتصل بالجو الطليق الذي يشير القرآن إليه بمثل تلك الآية الكريمة : «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ». ونظائره المتعددة. وإن يكن بيننا نحن من أقزام التفكير والشعور من لا يزال يغلق بكلتا يديه نوافذ النور على نفسه وعلى من حوله باسم العلم! في تخلف عقلي عن العلم ، وفي تخلف روحي عن الدين ، وفي تخلف شعوري عن الحرية الطليقة في معرفة الحقيقة! وفي تخلف إنساني عما يليق بالكائن الإنساني الكريم! فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون .. «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ، وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..

ولقد كان مما تقوّل به المشركون على القرآن وعلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قولهم : إنه شاعر. وإنه كاهن. متأثرين في هذا بشبهة سطحية ، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر. وأن الشاعر في وهمهم له رئي من الجن يأتيه بالقول الفائق ، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن. فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع! وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة ، وطبيعة الشعر أو الكهانة ..

فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع ، رائع الأخيلة ، جميل الصور والظلال ولكنه لا يختلط أبدا ولا يشتبه بهذا القرآن إن هنالك فارقا أساسيا فاصلا بينهما. إن هذا القرآن يقرر منهجا متكاملا للحياة يقوم على حق ثابت ، ونظرة موحدة ، ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت ، وللكون والحياة كذلك. والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة ، قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب ، والانطلاق والانكماش ، والحب والكره ، والتأثرات المتغيرة على كل حال! هذا إلى أن التصور الثابت الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن من الأساس ، في كلياته وجزئياته ، مع تعين مصدره الإلهي. فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر ، فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصورا كونيا كاملا كهذا التصور .. لم يسبق لهم هذا ولم يلحق .. وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له المدبرة لنظامه .. هذا هو معروضا مسجلا في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرها من المذاهب الفكرية فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة! وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر.




كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها. فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهنا أنشأ منهجا متكاملا ثابتا كالمنهج الذي جاء به القرآن. وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع لفظية أو حكمة مفردة ، أو إشارة ملغزة! وهناك لفتات ليس من طبيعة البشر أن يلتفتوها ، وقد وقفنا عند بعضها في هذه الظلال أحيانا. فلم يسبق لبشر ولم يلحق كذلك أن أراد التعبير عن العلم الشامل الدقيق اللطيف ، فاتجه إلى مثل هذه الصورة التي جاءت في القرآن :

«وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » .. أو إلى مثل هذه الصورة : «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » أو إلى مثل هذه الصورة : «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ »


كذلك لم يسبق لبشر ولم يلحق أن التفت مثل هذه اللفتة إلى القدرة التي تمسك هذا الكون وتدبره : «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا. وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ..» أو هذه اللفتة إلى انبثاقات الحياة في الكون من يد القدرة المبدعة وما يحيط بالحياة من موافقات كونية مدبرة مقدرة :

«إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. ذلِكُمُ اللَّهُ. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فالِقُ الْإِصْباحِ. وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ ، فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً ، نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً ، وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ ، وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..


وهذه اللفتات الكونية كثيرة في القرآن كثرة ملحوظة ، ولا نظير لها فيما تتجه إليه خواطر البشر للتعبير عن مثل المعاني التي يعبر عنها القرآن .. وهذه وحدها كافية لمعرفة مصدر هذا الكتاب .. بغض النظر عن كل دلالة أخرى من صلب الكتاب أو من الملابسات المصاحبة له على السواء.

فالشبهة واهية سطحية. حتى حين كان القرآن لم يكتمل ، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص ، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد.

وكبراء قريش كانوا يراجعون أنفسهم ، ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين. ولكن الغرض يعمي ويصم.
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : هذا إفك قديم. كما يقول القرآن الكريم! وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش ، وهم يراجعون هذه الشبهة وينفونها فيما بينهم.

من ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة ، وعن النضر بن الحارث ، وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول :

«ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش. وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم. فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقل به. قال : بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا : نقول : كاهن. قال : لا واللّه ، ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : مجنون. قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا : فنقول : شاعر. قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا : فنقول : ساحر. قال : ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم .. قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال :

واللّه إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره ...»

( يتبع )



.
.
..

.
.
.

.
.
.
.

مديح ال قطب 03-13-2021 06:28 PM






.
.
.


.
.
.


.
.
.
.








تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

وحكى عن الثاني (النضر بن الحارث) قال :
«فقال يا معشر قريش. إنه واللّه قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر! لا واللّه ، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا واللّه ما هو بكاهن.

قد رأينا الكهنة وتخالجهم ، وسمعنا سجعهم. وقلتم : شاعر! لا واللّه ما هو بشاعر. قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم : مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنه واللّه قد نزل بكم أمر عظيم ...».

والمطابقة تكاد تكون تامة - بين قوله وقول عتبة. وقد يكون هو حادثا واحدا نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك.
ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن! وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء .. وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به ..
فما كان قولهم : ساحر أو كاهن ، إلا حيلة ما كرة أحيانا وشبهة مفضوحة أحيانا. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير. وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعلمون وما لا يعلمون : إنه لقول رسول كريم.


وما هو بقول شاعر. ولا بقول كاهن .. إنما هو تنزيل من رب العالمين.
وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه ، ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر. لا يقوله شاعر ، ولا يقوله كاهن ، إنما يقوله رسول ، يرسل به من عند اللّه ، فيحمله من هناك ، من ذلك المصدر الذي أرسله. والذي يعين هذا المعنى هو كلمة رسول. أي مرسل به من عند ربه ، وليس شاعرا ولا كاهنا يقوله من عند نفسه.
أو بمساعدة رئي أو شيطان .. إنما هو رسول يقول ما يحمله عمن أرسله. ويقرر هذا تقريرا حاسما ما جاء بعده :

«تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
والتعقيب : «قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» .. «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» .. مدلوله نفي الإيمان ، ونفي التذكر. وفق تعبيرات اللغة المألوفة. وفي الحديث في وصف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - «إنه كان يقل اللغو». أي لا يلغو أصلا .. فقد نفى عنهم أصل الإيمان وأصل التذكر. وإلا فما يقول مؤمن عن الرسول : إنه شاعر ، ولا يقول متذكر متدبر : إنه كاهن. إنما هما الكفر والغفلة ينضحان بهذا القول النكير! وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب ، لمن يفتري على اللّه في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه.
يجيء لتقرير الاحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره ، وهو صدق الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه. بشهادة أن اللّه لم يأخذه أخذا شديدا. كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ :

«وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» ..
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - صادق فيما أبلغهم. وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه ، لأخذه اللّه فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات. ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق.


هذه هي القضية من الناحية التقريرية .. ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر ، يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري. ظلالا فيها رهبة وفيها هول. كما أن فيها حركة وفيها حياة. ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات! فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين. وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته. ووراءها الإيحاء بقدرة اللّه العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه .. البشر أجمعين .. كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان. ولو كان هو محمد الكريم عند اللّه الأثير الحبيب. ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع! وأخيرا تجيء الخاتمة التقريرية بحقيقة هذا الأمر وطبيعته القوية :
«وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ. وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ».

فهذا القرآن يذكر القلوب التقية فتذكر. إن الحقيقة التي جاء بها كامنة فيها. فهو يثيرها فيها ويذكرها بها فتتذكرها. فأما الذين لا يتقون فقلوبهم مطموسة غافلة لا تتفتح ولا تتذكر ، ولا تفيد من هذا الكتاب شيئا.
وإن المتقين ليجدون فيه من الحياة والنور والمعرفة والتذكير ما لا يجده الغافلون.

«وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ» .. ولكن هذا لا يؤثر في حقيقة هذا الأمر ، ولا يغير من هذه الحقيقة. فأمركم أهون من أن يؤثر في حقائق الأمور.

وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ» .. بما يرفع من شأن المؤمنين ، ويحط من قدر المكذبين وبما ينتهي إليه من إقرار الحق وإزهاق الباطل الذي يستمسك به الكافرون. ثم إنه حجة عليهم عند اللّه في اليوم الآخر ، يعذبون به ، ويتحسرون لما يصيبهم بسببه. فهو حسرة على الكافرين في الدنيا والآخرة.

( يتبع )



.
.
..

.
.
.

.
.
.
.


مديح ال قطب 03-13-2021 06:28 PM






.
.
.


.
.
.


.
.
.
.






تابع – سورة الحاقة

محور مواضيع السورة :

«وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» .. مع تكذيب المكذبين. حق اليقين. فليس مجرد اليقين ، ولكنه الحق في هذا اليقين.
وهو تعبير خاص يضاعف المعنى ويضاعف التوكيد. وإن هذا القرآن لعميق في الحق ، عميق في اليقين. وإنه ليكشف عن الحق الخالص في كل آية ما يشي بأن مصدره هو الحق الأول الأصيل ..

فهذه هي طبيعة هذا الأمر وحقيقته المستيقنة. لا هو قول شاعر. ولا هو قول كاهن. ولا هو تقول على اللّه.

إنما هو التنزيل من رب العالمين. وهو التذكرة للمتقين. وهو حق اليقين.

هنا يجيء التلقين العلوي للرسول الكريم ، في أنسب وقت وأنسب حالة لهذا التلقين :

«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» ..
والتسبيح بما فيه من تنزيه وتمجيد. وبما فيه من اعتراف وتحقيق. وبما فيه من عبودية وخشوع ... هو الشعور الذي يخالج القلب ، بعد هذا التقرير الأخير ، وبعد ذلك الاستعراض الطويل ، لقدرة اللّه العظيم ، وعظمة الرب الكريم ..


قال الصابوني:

* سورة الحاقة من السور المكية، شأنها شأن سائر السور المكية في تثبيت العقيدة والإيمان، وقد تناولت أمورا عديدة كالحديث عن القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، والحديث عن المكذبين وما جرى لهم، مثل (قوم عاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون، وقوم نوح) وغيرهم من الطغاة المفسدين في الأرض، كما تناولت ذكر السعداء والأشقياء، ولكن المحور الذي تدور عليه السورة هو (إثبات صدق) القرآن، وأنه كلام الحكيم العليم، وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، مما اتهمه به أهل الضلال من الافتراء على الله.

* ابتدأت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة والمكذبين بها، وما عاقب تعالى به أهل الكفر والعناد {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} الآيات.

* ثم تناولت الوقائع والفجائع التي تكون عند النفخ في الصور، من خراب العالم، واندكاك الجبال، وانشقاق السموات إلخ {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة..} الآيات.

* ثم ذكرت حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم المفزع، حيث يعطى المؤمن كتابه بيمينه، ويلقى الإكرام والإنعام، ويعطى الكافر كتابه بشماله، ويلقى الذل والهوان {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه وأما من أوتي كتابه بشماله..} الآيات.

* وبعد هذا العرض لأحوال الأبرار والفجار، جاء القسم البليغ بصدق الرسول، وصدق ما جاء به من الله، ورد افتراءات المشركين الذين زعموا أن القرآن سحرا وكهانة {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم} الآيات.

* ثم ذكرت البرهان القاطع على صدق القرآن، وأمانة رسول الله في تبليغه الوحي كما نزل عليه، بذلك التصوير الذي يهز القلب هزا ويثير في النفس الخوف والفزع، من هول الموضوع {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين..} الآيات.

* وختمت السورة بتمجيد القرآن وبيان أنه رحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين {وإنه لتذكرة للمتقين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم}.


قال محمد الغزالي:
{الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة}. نحن نظن الدار الدنيا هي الواقع الذي لا ريب فيه. فهل يبقى هذا الظن بعد أن نغادرها بالموت، ونستقبل عالما آخر هو الحقيقة الباقية؟ ونسأل: هل بقى أحد على ظهر الأرض ممن عمروا هذه الدنيا؟ أم أن الموت حصد الجميع؟ إن. كل الذين جاءوا ذهبوا، وأغلبهم بوغت بالموت دون أن يستعد لما بعده! وأمام الجميع يوم آخر يلتقى فيه الأولون والآخرون، ويعرف الناس الحق كله فيما قدموا وأخروا.. إن أمما شتى كذبت رسلها، منها من عوقب ومنها من أرجئ عقابه، وسوف ينكشف أمر الجميع حتما {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة..}.

لقد آن أوان الحساب الجامع والجزاء العام وميز المحسن والمسيء {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه..} {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه..}.

إن الإيمان بالمحسوس وحده يسود العالم الآن. وهناك سباق مجنون لامتلاك المال وتحصيل اللذات، وهناك زهد عام في الصلاة والإيثار والحديث عن الله وحده. وبقايا الوحى في الأمم التي ورثته لم تتحول إلى إيمان واضح وعمل صالح، ويكاد حملة الحق يكونون صورة منفرة عنه مزهدة فيه. ومن المحزن أن تكون هدايات أولى العزم من الرسل في أيدى أناس واهنى العزم ضعاف البصر.


ربما وجدت أحدهم ملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ومع ذلك يشح بمواساة فقير. ذاك الذي يقال فيه: {خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين}.

ثم إن هناك جماهير غفيرة ودولا ذات بأس تتوارث إن محمدا دعى وأن رسالته كاذبة. قلت: ماذا كسب محمد من رسالته؟ الإلحاح على أن الله واحد وأن لقاءه حتم؟


الإلحاح على أن التقوى وحدها طريق النجاة؟ الإلحاح على أنه عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؟ طول الركوع والسجود وحمل السلاح لهزيمة الطغيان؟ إن محمدا أجدر الناس بالحديث عن الله، وما نعرف أحدا تحمس لتنزيهه وتقديسه مثله!! وهذا سر القسم في الآيات هنا {فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين}. ولو حدث أن محمدا افتعل هذا الوحى لكان عقابه صارما {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين}.


إن هذا القرآن سيبقى ما بقى العالم دعما للإيمان الحق، وبناء للنفوس الزاكية وبرهانا على صدق صاحبه.

( يتبع – سورة المعارج )



.
.
..

.
.
.

.
.
.
.


مديح ال قطب 03-13-2021 06:29 PM






.
.
.


.
.
.


.
.
.
.








سورة المعارج

التعريف بالسورة :
مكية .
من المفصل .
آياتها 44 .
ترتيبها السبعون .
نزلت بعد الحاقة .
بدأت السورة بفعل ماضي " سأل سائل بعذاب واقع " .

سبب التسمية :
سميت ‏بهذا ‏الاسم ‏لأنها ‏تَضَمُّن ‏على ‏وصف ‏حالة ‏الملائكة ‏في ‏عروجها ‏إلى ‏السماء ‏‏، ‏ فسُميت ‏بهذا ‏الاسم ‏‏، ‏وتسمى ‏أيضا ‏سورة ( ‏‏سَأَلَ ‏سَائِلٌ‎ ) ‏‎.‎‏
سميت هذه السورة في كتب السنّة وفي (صحيح البخاري) و(جامع الترمذي) وفي (تفسير الطبري) وابن عطيّة وابن كثير (سورة سال سائل). وكذلك رأيتها في بعض المصاحف المخطوطة بالخط الكوفي بالقيروان في القرن الخامس.
وسميت في معظم المصاحف المشرقية والمغربية وفي معظم التفاسير (سورة المعارج). وذكر في (الإِتقان) أنها تسمى (سورة الواقع).
وهذه الأسماء الثلاثة مقتبسة من كلمات وقعت في أولها، وأخصُّها بها جملة {سال سائل}(المعارج: 1) لأنها لم يرد مثلها في غيرها من سور القرآن إلاّ أنها غلب عليها اسم (سورة المعارج) لأنه أخف.

سبب نزول السورة :
نزلت في النضر بن الحرث حين قال :اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ... فدعا على نفسه وسأل العذاب فنزل به ما سأل يوم بدر فقتل صبرا ونزل فيه سأل سائل بعذاب واقع .

محور مواضيع السورة :
تعالج السورة أصول العقيدة الاسلامية، وقد تناولت الحديث عن القيامة وأهوالها والآخرة وما فيها من سعادة وشقاوة ، ورآية ونصب وعن أحوال المؤمنين والمجرمين في دار الجزاء والخلود ، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن كفار مكة وإنكارهم للبعث والنشور ، واستهزاؤهم بدعوة الرسول .
ومقصود السّورة بيان جُرْأة الكافر في استعجال العذاب، وطول القيامة وهولها، وشُغْل الخلائق في ذلك اليوم المهيب، واختلاف حال الناس في الخير والشرّ ومحافظة المؤمنين على خصال الخير، وطمع الكفّار في غير مطْمع، وذُلّ الكافرين في يوم القيامة في قوله: {ترْهقُهُمْ ذِلّة}.
وتسمى سأل، مقصودها إثبات القيامة وإنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة ملكها وطول يومه وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار، ودل على وجوب وقوعها سابقا بما ختمه بتسميتها في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لابد منها ولا محيد عنها، ودل على ذلك بالقدرة في أولها والعلم في أثنائها والتنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام يفي الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعدما كانوا عليه يفي زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الاتفاق على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب، فعلم منه أو من بعده أولى بذلك لقربهم منها وأتبع ذلك الإعلام أنه دعا إلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين، وأتبع ذلك بعد إرسال أول الرسل بها زمانا- آخرهم زمانات وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد، فبدا بسورة المزمل بنبوته ومزيد ترزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذي من مخالفته، وأتبع ذلك الإنذار بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة،

لما تقررت نبوة سيدنا نوح وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها وأبينها وأعلاها، اشرفها وأولاها، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر عظيم جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد، ثم اتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان، فاليسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أملاها حق لابد منه ولا مندوحة عنه، ثم عجب في (عم) منهم في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على زقزعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيله في تصديقه بها مع ما تبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها، ثم صورها في (كورت) تصوير صارت من رأي عين لو كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنأ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة، والكل خاضعون مخبتون خاشعون، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم هنالك صغارا وتحسرا، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان، واستمر على هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختمك بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي الدين وأشار في (تبت) إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيها إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه لا كتاب بعد هذا الكتاب ينتظر ولا أمة أشرف من هذه تخص ببيان أعظم من بيانها وهو أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية، وعلى هذا المقصد دل اسمها (سأل) وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين.



يتبع






.
.
..

.
.
.

.
.
.
.



الساعة الآن 01:32 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd.

 ملاحظة: كل مايكتب في هذا المنتدى لا يعبر عن رأي إدارة الموقع أو الأعضاء بل يعبر عن رأي كاتبه فقط

دعم وتطوير نواف كلك غلا