 |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:30 PM |
. . .
. . .
. . . .
تابع - سورة المعارج
محور مواضيع السورة :
قال الصابوني:
* سورة المعارج من السور المكية، التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية، وقد تناولت الحديث عن القيامة وأهوالها، والآخرة وما فيها من سعادة وشقاوة، وراحة ونصب، وعن أحوال المؤمنين والمجرمين، في دار الجزاء والخلود، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن كفار مكة وإنكارهم للبعث والنشور، واستهزاؤهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن طغيان أهل مكة، وعن تمردهم على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستهزائهم بالإنذار والعذاب الذي خوفوا به، وذكرت مثلا لطغيانهم بما طلبه بعض صناديدهم وهو (النضر بن الحارث) حين دعا أن ينزل الله عليه وعلى قومه العذاب العاجل، ليستمتعوا به في الدنيا قبل الآخرة، وذلك مكابرة في الجحود والعناد {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج..} الآيات.
* ثم تناولت الحديث عن المجرمين في ذلك اليوم الفظيع الذي تتفطر فيه السموات، وتتطاير فيه الجبال، فتصير كالصوف الملون ألوانا غريبة {يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تئويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه}.
* ثم استطردت السورة إلى ذكر طبيعة الإنسان، فإنه يجزع عند الشدة، ويبطر عند النعمة فيمنع حق الفقير والمسكين {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}.
* ثم تحدثت عن المؤمنين، وما اتصفوا به من جلائل الصفات، وفضائل الأخلاق، وبينت ما أعد الله لهم من عظيم الأجر، في جنات الخلد والنعيم {إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} الآيات.
* ثم تناولت الكفرة المستهزئين بالرسول، الطامعين في دخول جنات النعيم {فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون}.
* وختمت السورة الكريمة بالقسم الجليل برب العالمين، على أن البعث والجزاء حق لا ريب فيه، وعلى أن الله تعالى قادر على أن يخلق خيرا منهم {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين..} إلى قوله تعالى: {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} نهاية السورة الكريمة، وهو ختم يناسب موضوع السورة، في عقاب الكفرة المجرمين، المكذبين بالبعث والنشور.
قال سيد قطب
هذه السورة حلقة من حلقات العلاج البطيء، المديد، العميق، الدقيق، لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة؛ وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق! وفي الظواهر لا في الحقائق!
أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس، وفي خلال دروبها ومنحنياتها، ورواسبها وركامها. وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون- فيما بعد- كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة!
والحقيقة الأساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء؛ وعلى وجه الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين، كما أوعدهم القرآن الكريم. وهي تلم- في طريقها إلى إقرار هذه الحقيقة- بحقيقة النفس البشرية في الضراء والسراء. وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون خاوية من الإيمان. كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك، واستحقاقها للتكريم. وبهوان الذين كفروا على الله وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين.. وتقرر السورة كذلك اختلاف القيم والمقاييس في تقدير الله وتقدير البشر، واختلاف الموازين...
تؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلاج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها، أو جولة من جولات المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها. تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في النهاية مجردا من كل قوة غير قوته الذاتية. فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية- ابتداء- قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضلا على أن يرغم به أعداءه على الاستسلام له!
والذي يقرأ هذا القرآن- وهو مستحضر في ذهنه لأحداث السيرة- يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة. ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعا عجيبا.. تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة! وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي لا يثبت لها شيء مما هو راسخ في كيانها من التصورات والرواسب! وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس فلا يطيق وقعها ولا يصبر على لذعها! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة، والمسارة الودود، التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب! وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة لا تدع مجالا للتلفت عنها ولا الجدال فيها. وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والأمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها. وتارة يتخلل مساربها ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين، وتخجل من بعضه، وتكره بعضه، وتتيقظ لحركاتها وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها!.. ومئات من اللمسات، ومئات من اللفتات، ومئات من الهتافات، ومئات من المؤثرات.. يطلع عليها قارئ القرآن، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة، وذلك العلاج البطيء. ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصية العنيدة.
( يتبع )
|
. . .. |
. . . |
. . . . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:31 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
تابع - سورة المعارج
محور مواضيع السورة :
إن هذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة، والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها.
وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة، ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى، وتعرض لها من زاوية جديدة، وصور وظلال جديدة..
في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم، ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلة: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية}.. وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوب: {والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}.. وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعر: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}..
كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب، حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه}.. كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم: {يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية..}
فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها، أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته. حتى المشاهد الكونية يكاد الهول يكون فيها نفسيا! وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال. إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخلة وذهول وروعة: {يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه}..
وجهنم هنا (نفس) ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي: إنها لظى. نزاعة للشوى. تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى..
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسيا: {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}..
سإن المشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة، باختلاف طابعي السورتين في عمومه. مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد.
ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج- فيما تناولت- تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء، في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان. وكان هذا متناسقا مع طابعها (النفسي) الخاص: فجاء في صفة الإنسان {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون..} إلخ..
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشيا مع طبيعة السورة وأسلوبها: {إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون...}..
ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة. ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة، كحقيقة أخذ المكذبين أخذا صارما في الأرض؛ وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح.. فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء، وموازين هذا الجزاء. فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها.
ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالا مباشرا بحقيقة الآخرة فيها. من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب الله في أيامه وحساب البشر، وتقدير الله لليوم الآخر وتقدير البشر: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فاصبر صبرا جميلا. إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا... إلخ وهو متعلق باليوم الآخر.
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان. وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء.
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم، مع هوانهم على الله وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه. وهو متصل اتصالا وثيقا بمحور السورة الأصيل.
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس. مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة! للموضوع الأصيل.
ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة، الناشئ من بنائها التعبيري.. فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة. وفق المعنى والجو فيه.. فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها. والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا. ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ.
( يتبع )
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:32 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
تابع - سورة المعارج
محور مواضيع السورة :
في هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة- مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها- من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي:
{سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا}.. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس.
{إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا}.. حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين.
{يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما}.. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث. مع تنوع الإيقاع في الداخل.
{يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى}.. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول.
{نزاعة للشوى.. تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}.. حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى.
ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء..
والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي- موسيقيا- من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي. ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه، وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي.
محور مواضيع السورة :
قال محمد الغزالي:
في أول هذه السورة وصف الحق نفسه بأنه ذو المعارج. وذلك كقوله في سورة أخرى {رفيع الدرجات ذو العرش}. والملكوت الإلهى من الفرش إلى العرش أو من الأرض السفلى إلى سدرة المنتهى قد يقطعه البشر في خمسين ألف سنة، أما الروح الأمين وجمهرة الملائكة فتقطعه في زمن محدود وقد رأينا كيف انتقل عرش بلقيس من اليمن إلى الشام في لمح البصر! والمراد هنا أن الذي دعا بعذاب واقع من الله ذى المعارج لم يدع بشيء صعب. إن إهلاكه ليس أصعب من إهلاك بعوضة، لكن هذا الداعى لا يصدق بعذاب قريب أو بعيد، إنه أحمق أو كافر! وسيرى هذا العذاب حتما {يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما}. إن الله خلق البشر على غرائز تشدهم إلى تحت، وطلب منهم أن يقاوموها صاعدين إلى أعلى فمن أخلد إلى الأرض هلك، ومن اتبع الوحى نجا.. والإيمان في حقيقته قوة صاعدة طاهرة تتلمس الطريق إلى مرضاة الله {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين..}. وإن المسلم ليأسى عندما يرى أمته لم تألف طريق الكمال، ولم تحصل الشمائل التي تفتح لها أبواب السماء، مع أنها أحصيت إحصاء في هذا الكتاب الكريم. لقد بين الله سبحانه أن في طريق الجنة عقبات يجب اقتحامها ومشقات يجب التغلب عليها، وما تعرف معادن الناس إلا بهذا الاختبار الجاد. يقول أبو الطيب:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ** الجود يفقر والإقدام قتال
وفى هذه السورة نتلو هذا التساؤل {فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون}. والإهطاع إمالة الرأس والعين لتدقيق النظر. وقد تحول المشركون إلى جماعات تلتف بالرسول تريد استكشاف أمره، إنهم يقتربون منه ولا يصدقونه ولا يتبعونه! هل يحقق هذا أملا؟ كلا لابد من الاتباع والإخلاص والجهاد، إن الله خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا. والجيل الذي يعييه الحق ويعجزه السباق، سوف يطويه الردى ويهال عليه التراب، ويجيء القدر بأنشط منه وأزكى. {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين} ذاك في الدنيا حيث تتخلف الأمم الكسول، أما في الآخرة فالتفاوت بين الأفراد والشعوب يجعل أمما في الحضيض وأخرى في الثريا.
( يتبع )
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:32 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
تابع - سورة المعارج
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
قال الزيلعي:
سورة المعارج ذكر فِيها أرْبعة أحادِيث:
الحديث الأول:
عن النّبِي صلى الله عليه وسلم انه قال «شرّ ما أعطي ابْن أدم شح هالِع وجبن خالع».
قلت رواهُ أبُو داوُد فِي سننه فِي كتاب الْجِهاد من حديث عبد الْعزِيز بن مرْوان بن الحكم قال سمِعت أبا هُريْرة يقول قال رسُول اله صلى الله عليه وسلم «شرّ ما فِي الرجل شح هالِع وجبن خالع»
قال ابْن طاهِر إِسْناده مُتّصِل وهُو من شرط أبي داوُد وقد احْتج مُسلم بمُوسى بن علّي عن أبِيه عن جماعة من الصّحابة انتهى.
وكذلِك رواهُ ابْن حبان فِي صحِيحه فِي النّوْع السّادِس والسبْعين من الْقسم الثّانِي.
ورواهُ احْمد وعبد بن حميد وإِسْحاق بن راهويْه والْبزّار فِي مسانيدهم وابْن أبي شيبة فِي مُصنفه فِي الْأدب والْبيْهقِيّ فِي شعب الْإِيمان فِي الْباب الثّالِث والسبْعين وأبُو نعيم فِي الْحِلْية فِي ترْجمة عبد الرّحْمن بن مهْدي.
والْهالِع ذُو الْهلع وهُو الْجزع والخالع الّذِي يخلع الْفُؤاد لِشِدّتِهِ واخْتلف فِي الشُّح والْبخل فقيل هما مُترادِفانِ وهُو شدّة الْحِرْص وقيل الشُّح الْحِرْص على ما ليْس لك والْبخل بِما عنْدك وهذا رواهُ الطّبرِيّ عن طاوس.
الحديث الثّانِي:
وعنهُ صلى الله عليه وسلم أنه قال «أفضل الْعمل أدْومه وإِن قل».
قلت رواهُ مُسلم فِي صحِيحه فِي الصّلاة من حديث سعد بن إِبْراهِيم أنه سمع أبا سلمة يحدث عن عائِشة رضِي اللّهُ عنْها «أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل أي عمل أحب إِلى الله قال أدْومه وإِن قل»
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
الحديث الثّالِث:
عن عائِشة رضِي اللّهُ عنْها قالت «كان عمله عليه السلام دِيمة».
قلت رواهُ البُخارِيّ فِي الصّوْم ومُسلم فِي الصّلاة من حديث علْقمة قال «سألت أم الْمُؤمنِين عائِشة رضِي اللّهُ عنْها فقالت يا أم الْمُؤمنِين كيف كان عمل رسُول الله صلى الله عليه وسلم هل كان يخص شيْئا من الْأيّام قالت لا كان عمله دِيمة وأيكُمْ يُطيق ما كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يُطيق»
الحديث الرّابِع:
عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سُورة سأل سائل أعطاهُ الله ثواب الّذين هم لِأماناتِهِمْ وعهْدهمْ راعُون».
قلت رواهُ الثّعْلبِيّ اخبرني مُحمّد بن الْقاسِم ثنا اسماعِيل بن نجيد ثنا مُحمّد ابْن إِبْراهِيم بن سعيد ثنا سعيد بن حفْص قال قرأت على معقل بن عبيد الله عن عِكْرِمة بن خالِد عن سعيد بن جُبير عن ابْن عبّاس عن أبي بن كعْب قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سُورة سأل سائل أعطاهُ الله ثواب الّذين هم لِأماناتِهِمْ وعهْدهمْ راعُون والّذين هم على صلاتهم يُحافِظُون»
ورواهُ ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره بسنديه فِي آل عمران ولفظ الثّعْلبِيّ.
وكذلِك رواهُ الواحدي فِي الْوسِيط بِسندِهِ فِي يُونُس ومتْن الثّعْلبِيّ.
فضل السّورة:
فيه حديث أُبي الضّعيف: «منْ قرأها أعطاه الله تعالى ثواب الّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والّذين هم على صلاتهم يحافظون».
وحديث علي: «يا علي منْ قرأها كتب الله له بكلّ كافر وكافرة، من الأحياءِ والأموات ستِّين حسنة، ورفع له ستِّين درجة وله بكلّ آية قرأها مثلُ ثواب يونس».
( يتبع – سورة نوح )
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:33 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
سورة نوح
التعريف بالسورة :
مكية .
من المفصل .
آياتها 28 .
ترتيبها الحادية والسبعون .
نزلت بعد النحل .
بدأت باسلوب توكيد " إِنَّا أَرْسَلْنَا " .
سبب التسمية :
سميت بهذا الاسم لأنها خُصَّتْ بذكر قصة نوح منذ بداية الدعوة حتى الطوفان وهلاك المكذبين . وسُميت أيضا " إنا أرسلنا نوح " .
محور مواضيع السورة :
تعنى السورة بأصول العقيدة ، وتثبيت قواعد الإيمان ، وقد تناولت السورة تفصيلا قصة شيخ الأنبياء نوح ، من بدء دعوته حتى نهاية حادثة الطوفان التي أغرق الله بها المكذبين من قومه ، ولهذا سميت " سورة نوح " ، وفي السورة بيان لسنة الله تعالى في الأمم التي انحرفت عن دعوة الله ، وبيان لعاقبة المرسلين ، وعاقبة المجرمين في شتى العصور والأزمان .
.قال البقاعي:
سورة نوح مقصودها الدلالة على تمام القدرة على ما أنذر به آخر {سأل} من إهلاك المنذرين وتبديل خير منهم، ومن القدرة على إيجاد يوم القيامة الذي طال إنذارهم به وهم عنه معرضون وبه مكذبون وبه لا هون، وتسميتها بنوح عليه السلام أدل ما فيها على ذلك، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب تكذيبهم له في قصته في هذه السورة مقرر ومسطور.
ومعظم مقصود السّورة:
أمر نوح بالدعوة، وشكاية نوح مِن قومه، والاستغفار لسعة النعمة، وتحويل حال الخلْق من حال إِلى حال، وإِظهار العجائب على سقف السّماءِ، وظهور دلائل القدرة على بسيط الأرض، وغرق قوم نوح، ودعاؤه عليهم بالهلاك، وللمؤمنين بالرّحمة، وللظّالمين بالتبار والخسارة، في قوله: {ولا تزِدِ الظّالِمِين إِلاّ تبارا}.
قال الصابوني:
* سورة نوح مكية، شأنها شأن سائر السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة، وتثبيت قواعد الإيمان، وقد تناولت السورة تفصيلا قصة شيخ الأنبياء (نوح عليه السلام) من بدء دعوته حتى نهاية (حادثة الطوفان) التي أغرق الله بها المكذبين من قومه، ولهذا سميت (سورة نوح)، وفي السورة بيان لسنة الله تعالى في الأمم التي انحرفت عن دعوة الله، وبيان لعاقبة المرسلين، وعاقبة المجرمين، في شتى العصور والأزمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بارسال الله تعالى لنوح عليه السلام، وتكليفه بتبليغ الدعوة، وإنذار قومه من عذاب الله {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} الآيات.
* ثم ذكرت السورة جهاد نوح عليه السلام، وصبره، وتضحيته في سبيل تبليغ الدعوة، فقد دعا قومه ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا إمعانا في الضلال والعصيان {قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائى إلا فرارا} الآيات.
* ثم تتابعت السورة تذكرهم بإنعام الله وأفضاله على لسان نوح عليه السلام، ليجدوا في طاعة الله، ويروا آثار قدرته ورحمته في هذا الكون الفسيح {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}!!. ومع كل هذا التذكير والنصح والإرشاد، فقد تمادى قومه في الكفر والضلال والعناد، واستخفوا بدعوة نبيهم (نوح) عليه السلام، حتى أهلكهم الله بالطوفان {قال نوح رب أنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا..} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بدعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار، بعد أن مكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، يدعوهم إلى الله، فما لانت قلوبهم، ولا انتفعت بالتذكير والإنذار {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا}.
قال سيد قطب :
هذه السورة كلها تقص قصة نوح - عليه السلام - مع قومه وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية ، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل.
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة ، الضالة ، الذاهبة وراء القيادات المضللة ، المستكبرة عن الحق ، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق ، المرقومة في كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون.
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية اللّه لهذا الكائن الإنساني ، وعنايته بأن يهتدي. تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى.
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني ، والعناء المرهق ، والصبر الجميل ، والإصرار الكريم من جانب الرسل - صلوات اللّه عليهم - لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة. وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية ، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون ، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم! هذه الصورة التي يعرضها نوح - عليه السلام - على ربه ، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاما قضاها في هذا الجهد المضني ، والعناء المرهق ، مع قومه المعاندين ، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة. وهو يقول :
رَبِّ. إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً. وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً. ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً؟ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً؟ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً؟ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» ..
( يتبع )
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:34 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر : «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً. وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً. وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ...» ..
وهي حصيلة مريرة. ولكن الرسالة هي الرسالة! هذه التجربة المريرة تعرض على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة اللّه في الأرض كلها في آخر الزمان ، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول .. يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل ، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض. ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة. ثم إرادة اللّه في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام.
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة ، وعلى الأمة المسلمة بعامة ، وهي الوارثة لدعوة اللّه في الأرض ، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة ، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك ، وفي وسط كل جاهلية تالية .. ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني. كما ترى فيها عناية اللّه بالقلة المؤمنة ، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين.
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين ويدركوا نعمة اللّه عليهم في إرساله إليهم رسولا رحيما بهم ، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل وذلك لما قدره اللّه من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين. فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح ، بعد ما استنفد كل الوسائل ، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم :
«وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» ..
«وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ..
محور مواضيع السورة :
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها ، وتأصل جذورها. كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة اللّه وقدره ، وأحداث الحياة الواقعة وفق قدر اللّه. وذلك من خلال دعوة نوح لقومه : «قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
وفي حكاية قوله لهم : «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً؟ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً؟ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» ..
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم ، وحقيقة نسبهم العريق! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية. وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها. وهي منهج اللّه القويم القديم.
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب ، كما تغمره الروعة والخشوع ، وهو يستعرض - بهذه المناسبة - ذلك الجهد الموصول من الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - لهداية البشرية الضالة المعاندة. ويتدبر إرادة اللّه المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة.
وقد يعن للإنسان أن يسأل : ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل ، وتلك التضحيات النبيلة ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة اللّه وتضحياتهم الضخام؟
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن ، وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول ، لم يكتف قومه فيه بالإعراض ، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام. وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى ، والأدب الجميل والبيان المنير.
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ.
من رسل يستهزأ بهم ، أو يحرقون بالنار ، أو ينشرون بالمنشار ، أو يهجرون الأهل والديار .. حتى تجيء الرسالة الأخيرة ، فيجهد فيها محمد - صلى اللّه عليه وسلم - ذلك الجهد المشهود المعروف ، هو والمؤمنون معه. ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل؟؟
ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود ، وكل هذه التضحيات ، وكل هذا الجهاد المرير الشاق؟ ثم ..
ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من اللّه ، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار ، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان؟! والجواب بعد التدبر : أن نعم .. وبلا جدال ..!
( يتبع )
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:35 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
إن استقرار حقيقة الإيمان باللّه في الأرض يساوي كل هذا الجهد ، وكل هذا الصبر ، وكل هذه المشقة ، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل! ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته بل أكبر من الأرض وما عليها بل أكبر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى! وقد شاءت إرادة اللّه أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة ، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولا إلى الجهد الإنساني ذاته ، بعون اللّه وتوفيقه. ولسنا نعلم لم خلق اللّه هذا الكائن بهذه الخصائص. ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة ، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس.
لسنا نعلم سر هذا. ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص! وإذن فلا بد من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان. هذا الجهد اختار اللّه له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل. وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون. اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض ، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة ، وتضحيات شاقة نبيلة.
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور اللّه وأن يكون مستودعا لسر من أسراره وأن يكون أداه من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود .. وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب ..
وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه ، ومن كل هذا الكون الكبير! كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر - أو جماعة منهم - معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية ، وارتفاعها إلى المستوي الذي يؤهلها لهذا الاتصال. معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق ... وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أو بعض يوم في عمر البشرية الطويل ، لأن تحققها - ولو في هذه الصورة - يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية ، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال! ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان باللّه فيها. وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة. وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض ، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة ، بل كانت حلما أكبر من الخيال ، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس.
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام ، إلى المستوي الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان باللّه في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم .. وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل ، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى ، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة.
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند اللّه هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر : لا علم ، ولا فلسفة ، ولا فن ، ولا نظام من النظم. وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله بل انحدرت قيمها وموازينها وإنسانيتها ، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية ، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين ، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي ، وأسباب السعادة المادية بجملتها. ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا. ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية ، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة ، ولم تشعر بكرامة «النفس الإنسانية» قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة. والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة.
إن هذا كله يستحق - بدون تردد - كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية ، ومن تضحيات نبيلة ، لإقرار حقيقة الإيمان باللّه في الأرض. وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور اللّه ، وتتصل بروح اللّه. وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج اللّه للحياة. وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم ، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوي الرفيع ، الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ.
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام. وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال. وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب ، وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال. كما ألقت إبراهيم في النار ، ونشرت غيره بالمنشار ، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ.
ولكن الدعوة إلى اللّه لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد اللّه. لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة ، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور اللّه ، ويتصل بروح اللّه! إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه أزكى السلام - لينبئ عن استقرار إرادة اللّه على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة ، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة. وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها. وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون من جواذبها ، ويتحررون من ربقتها. وهذا وحده كسب كبير ، أكبر من الجهد المرير. كسب للدعاة. وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم. وتستحق أن يسجد اللّه الملائكة لهذا الكائن ، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء. ولكنه يتهيأ - بجهده هو ومحاولته وتضحيته - لاستقبال قبس من نور اللّه. كما يتهيأ لأن ينهض - وهو الضعيف العاجز - بتحقيق قدر اللّه في الأرض ، وتحقيق منهجه في الحياة. ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة ، ويحتمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة ، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين ، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع. وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق ، يهون الجهد ، وتهون المشقة ، وتهون التضحية ، ويتوارى هذا كله ، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان اللّه ...
( يتبع )
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:35 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
والآن نستعرض قصة نوح في هذه السورة ، وما تمثله من حقيقة تلك الحقيقة! «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ : أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ : يا قَوْمِ : إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ : أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده : «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» .. فهذا هو المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف ، كما يتلقون حقيقة العقيدة. وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله ، وصدرت منه الحياة. وهو اللّه الذي خلق البشر وأودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده ، فلما انحرفوا عنها وزاغوا أرسل إليهم رسله ، يردونهم إليه. ونوح - عليه السلام - كان أول هؤلاء الرسل - بعد آدم عليه السلام. وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه إلى هذه الأرض ، وممارسته لهذه الحياة ولعله كان معلما لأبنائه وحفدته حتى إذا طال عليهم الأمد بعد وفاته ضلوا عن عبادة اللّه الواحد ، واتخذوا لهم أصناما آلهة. اتخذوها في أول الأمر أنصابا ترمز إلى قوى قدسوها. قوى غيبية أو مشهودة. ثم نسوا الرمز وعبدوا الأصنام! وأشهرها تلك الخمسة التي سيرد ذكرها في السورة. فأرسل اللّه إليهم نوحا يردهم إلى التوحيد ، ويصحح لهم تصورهم عن اللّه وعن الحياة والوجود. والكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس - عليه السلام - سابقا لنوح. ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم ، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب.
والذي يتجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن ، أن نوحا كان في فجر البشرية وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاما في دعوته لقومه ، ولا بد أنهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة .. أن طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأن البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية.
وذلك قياسا على ما نراه من سنة اللّه في الأحياء من طول العمر إذا قل العدد ، كأن ذلك للتعويض والتعادل ..
واللّه أعلم بذلك .. إنما هي نظرة في سنة اللّه وقياس! تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة وتوكيده ، ثم تذكر فحوى رسالة نوح في اختصار وهي الإنذار :
«أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
والحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا إليها ، من إعراض واستكبار وعناد وضلال - كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية لربه - تجعل الإنذار هو أنسب ما تلخص به رسالته ، وأول ما يفتتح به الدعوة لقومه ، الإنذار بعذاب أليم ، في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا.
ومن مشهد التكليف ينتقل السياق مباشرة إلى مشهد التبليغ في اختصار ، البارز فيه هو الإنذار ، مع الإطماع في المغفرة على ما وقع من الخطايا والذنوب وتأجيل الحساب إلى الأجل المضروب في الآخرة للحساب وذلك مع البيان المجمل لأصول الدعوة التي يدعوهم إليها :
«قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ، وَاتَّقُوهُ ، وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
«يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. مفصح عن نذارته ، مبين عن حجته ، لا يتمتم ولا يجمجم ، ولا يتلعثم في دعوته ، ولا يدع لبسا ولا غموضا في حقيقة ما يدعو إليه ، وفي حقيقة ما ينتظر المكذبين بدعوته.
وما يدعو إليه بسيط واضح مستقيم : «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ، وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ» .. عبادة للّه وحده بلا شريك.
وتقوى للّه تهيمن على الشعور والسلوك. وطاعة لرسوله تجعل أمره هو المصدر الذي يستمدون منه نظام الحياة وقواعد السلوك.
وفي هذه الخطوط العريضة تتلخص الديانة السماوية على الإطلاق. ثم تفترق بعد ذلك في التفصيل والتفريع.
وفي مدى التصور وضخامته وعمقه وسعته وشموله وتناوله للجوانب المختلفة للوجود كله ، وللوجود الإنساني في التفصيل والتفريع.
وعبادة اللّه وحده منهج كامل للحياة ، يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ولحقيقة الصلة بين الخلق والخالق ، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس .. ومن ثم ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور ، فيقوم منهج للحياة خاص. منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية ، وإلى القيم التي يقررها اللّه للأحياء والأشياء.
وتقوى اللّه .. هي الضمانة الحقيقية لاستقامة الناس على ذلك المنهج ، وعدم التلفت عنه هنا أو هناك ، وعدم الاحتيال عليه أو الالتواء في تنفيذه. كما أنها هي مبعث الخلق الفاضل المنظور فيه إلى اللّه ، بلا رياء ولا تظاهر ولا مماراة.
وطاعة الرسول .. هي الوسيلة للاستقامة على الطريق ، وتلقي الهدى من مصدره المتصل بالمصدر الأول للخلق والهداية ، وبقاء الاتصال بالسماء عن طريق محطة الاستقبال المباشرة السليمة المضمونة! فهذه الخطوط العريضة التي دعا نوح إليها قومه في فجر البشرية هي خلاصة دعوة اللّه في كل جيل بعده ، وقد وعدهم عليها ما وعد اللّه به التائبين الثائبين :
«يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» ..
وجزاء الاستجابة للدعوة إلى عبادة اللّه وتقواه وطاعة رسوله هي المغفرة والتخليص من الذنوب التي سلفت وتأخير الحساب إلى الأجل المضروب له في علم اللّه. وهو اليوم الآخر. وعدم الأخذ في الحياة الدنيا بعذاب الاستئصال (و سيرد في الحساب الذي قدمه نوح لربه أنه وعدهم أشياء أخرى في أثناء الحياة).
ثم بين لهم أن ذلك الأجل المضروب حتمي يجيء في موعده ، ولا يؤخر كما يؤخر عذاب الدنيا .. وذلك لتقرير هذه الحقيقة الاعتقادية الكبرى :
«إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:36 PM |
http://www.easy-gbpics.de/data/media...-gbpics.de.gif
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
كما أن النص يحتمل أن يكون هذا تقريرا لكل أجل يضربه اللّه ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة بوجه عام.
بمناسبة الحديث عن الوعد بتأخير حسابهم - لو أطاعوا وأنابوا - إلى يوم الحساب.
وراح نوح - عليه السلام - يواصل جهوده النبيلة الخالصة الكريمة لهداية قومه ، بلا مصلحة له ، ولا منفعة ويحتمل في سبيل هذه الغاية النبيلة ما يحتمل من إعراض واستكبار واستهزاء .. ألف سنة إلا خمسين عاما ..
وعدد المستجيبين له لا يكاد يزيد ودرجة الإعراض والإصرار على الضلال ترتفع وتزداد! ثم عاد في نهاية المطاف يقدم حسابه لربه الذي كلفه هذا الواجب النبيل وذلك الجهد الثقيل! عاد يصف ما صنع وما لا قى ..
وربه يعلم. وهو يعرف أن ربه يعلم. ولكنها شكوى القلب المتعب في نهاية المطاف ، إلى الجهة الوحيدة التي يشكو إليها الأنبياء والرسل والمؤمنون حقيقة الإيمان .. إلى اللّه ..
«قالَ : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا ، وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً. ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً؟ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً؟ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً؟ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» ..
هذا ما صنع نوح وهذا ما قال عاد يعرضه على ربه وهو يقدم حسابه الأخير في نهاية الأمد الطويل.
وهو يصور الجهد الدائب الذي لا ينقطع : «إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» ..
ولا يمل ولا يفتر ولا ييئس أمام الإعراض والإصرار : «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» .. فرارا من الداعي إلى اللّه. مصدر الوجود والحياة ، ومصدر النعم والآلاء ، ومصدر الهدى والنور. وهو لا يطلب أجرا على السماع ولا ضريبة على الاهتداء! الفرار ممن يدعوهم إلى اللّه ليغفر لهم ويخلصهم من جريرة الإثم والمعصية والضلال! فإذا لم يستطيعوا الفرار ، لأن الداعي واجههم مواجهة ، وتحين الفرصة ليصل إلى أسماعهم بدعوته ، كرهوا أن يصل صوته إلى أسماعهم. وكرهوا أن تقع عليه أنظارهم ، وأصروا على الضلال ، واستكبروا عن الاستجابة لصوت الحق والهدى : «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» .. وهي صورة لإصرار الداعية على الدعوة وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها وإصرارهم هم على الضلال. تبرز من ثناياها ملامح الطفولة البشرية العنيدة. تبرز في وضع الأصابع في الآذان ، وستر الرؤوس والوجوه بالثياب. والتعبير يرسم بكلماته صورة العناد الطفولي الكامل ، وهو يقول : إنهم «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ» وآذانهم لا تسع أصابعهم كاملة ، إنما هم يسدونها بأطراف الأصابع. ولكنهم يسدونها في عنف بالغ ، كأنما يحاولون أن يجعلوا أصابعهم كلها في آذانهم ضمانا لعدم تسرب الصوت إليها بتاتا! وهي صورة غليظة للإصرار والعناد ، كما أنها صورة بدائية لأطفال البشرية الكبار! ومع الدأب على الدعوة ، وتحين كل فرصة ، والإصرار على المواجهة .. اتبع نوح - عليه السلام - كل الأساليب فجهر بالدعوة تارة ، ثم زاوج بين الإعلان والإسرار تارة : «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» ..
وفي أثناء ذلك كله أطمعهم في خير الدنيا والآخرة. أطمعهم في الغفران إذا استغفروا ربهم فهو - سبحانه - غفار للذنوب : «فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» .. وأطمعهم في الرزق الوفير الميسور من أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير ، الذي تنبت به الزروع ، وتسيل به الأنهار ، كما وعدهم برزقهم الآخر من الذرية التي يحبونها - وهي البنين - والأموال التي يطلبونها ويعزونها : «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» ..
وقد ربط بين الاستغفار وهذه الأرزاق. وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى اللّه ، وبين تيسير الأرزاق ، وعموم الرخاء ... جاء في موضع : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ .. وجاء في موضع : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... .. وجاء في موضع :
«أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة ، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد اللّه ، ومن سنة الحياة كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون. والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد. وما من أمة قام فيها شرع اللّه ، واتجهت اتجاها حقيقيا للّه بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية اللّه .. ما من أمة اتقت اللّه وعبدته وأقامت شريعته ، فحققت العدل والأمن للناس جميعا ، إلا فاضت فيها الخيرات ، ومكن اللّه لها في الأرض واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء.
( يتبع )
|
|
|
|
|
مديح |
|
|
| . | . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:37 PM |
. .
. .
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
هي ظاهرة تستدعي النظر ولا ريب. فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض ، وأن نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات. من عناصرها الأولية يتكون. ومن عناصرها الأولية يتغذى وينمو ، فهو نبات من نباتها. وهبه اللّه هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة. وكلاهما من نتاج الأرض ، وكلاهما يرضع من هذه الأم! وكذلك ينشئ الإيمان في المؤمن تصورا حقيقيا حيا لعلاقته بالأرض وبالأحياء. تصورا فيه دقة العلم وفيه حيوية الشعور. لأنه قائم على الحقيقة الحية في الضمير. وهذه ميزة المعرفة القرآنية الفريدة.
والناس الذين نبتوا من الأرض يعودون إلى جوفها مرة أخرى. يعيدهم اللّه إليها كما أنبتهم منها. فيختلط رفاتهم بتربتها ، وتندمج ذراتهم في ذراتها ، كما كانوا فيها من قبل أن ينبتوا منها! ثم يخرجهم الذي أول مرة وينبتهم كما أنبتهم أول مرة .. مسألة سهلة يسيرة لا تستدعي التوقف عندها لحظة ، حين ينظر الإنسان إليها من هذه الزاوية التي يعرضها القرآن منها! ونوح - عليه السلام - وجه قومه إلى هذه الحقيقة لتستشعر قلوبهم يد اللّه وهي تنبتهم من هذه الأرض نباتا ، وهي تعيدهم فيها مرة أخرى. ثم تتوقع النشأة الأخرى وتحسب حسابها ، وهي كائنة بهذا اليسر وبهذه البساطة.
بساطة البداهة التي لا تقبل جدلا! وأخيرا وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة اللّه عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم : «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» ..
وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة ، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره. فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة - حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروبا وفجاجا ، كما جعل في سهولها من باب أولى. وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون ويبتغون من فضل اللّه ، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق.
وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة ، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض ، وتيسر لهم الحياة فيها. وكلما زاد الإنسان علما أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاقا بعيدة
هكذا سلك نوح - أو حاول أن يسلك - إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب ، ومتنوع الوسائل في دأب طويل ، وفي صبر جميل ، وفي جهد نبيل ، ألف سنة إلا خمسين عاما. ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم ، يقدم حسابه ، ويبث شكواه ، في هذا البيان المفصل ، وفي هذه اللهجة المؤثرة. ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة ، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية! فماذا كان بعد كل هذا البيان؟
«قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً. وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً. وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» ..
رب إنهم عصوني! بعد كل هذا الجهاد ، وبعد كل هذا العناء. وبعد كل هذا التوجيه. وبعد كل هذا التنوير. وبعد الإنذار والإطماع والوعد بالمال والبنين والرخاء .. بعد هذا كله كان العصيان. وكان السير وراء القيادات الضالة المضللة ، التي تخدع الأتباع بما تملك من المال والأولاد ، ومظاهر الجاه والسلطان. ممن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» فقد أغراهم المال والولد بالضلال والإضلال ، فلم يكن وراءهما إلا الشقاء والخسران.
هؤلاء القادة لم يكتفوا بالضلال .. «وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً». مكرا متناهيا في الكبر. مكروا لإبطال الدعوة وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس. ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم.
وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة : «وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ» ..
بهذه الإضافة : «آلِهَتَكُمْ» لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم. وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنا فخصوها بالذكر ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحمية والاعتزاز .. «وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا ، وَلا سُواعاً ، وَلا يَغُوثَ ، وَيَعُوقَ ، وَنَسْراً» .. وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية.
وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناما ، تختلف أسماؤها وأشكالها ، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية وتجمع حواليها الأتباع ، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام ، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء ، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد : «وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً» ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام .. أصنام الأحجار. وأصنام الأشخاص. وأصنام الأفكار .. سواء!! للصد عن دعوة اللّه ، وتوجيه القلوب بعيدا عن الدعاة ، بالمكر الكبّار ، والكيد والإصرار! هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح - عليه السلام - ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين ، الماكرين الكائدين :
«وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» ..
ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلا ، وعانى كثيرا ، وانتهى - بعد كل وسيلة - إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة.
( يتبع )
|
|
. . |
. . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:37 PM |
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
وقبل أن يعرض السياق بقية دعاء نوح - عليه السلام - يعرض ما صار إليه الظالمون الخاطئون في الدنيا والآخرة جميعا! فأمر الآخرة كأمر الدنيا حاضر بالقياس إلى علم اللّه ، وبالقياس إلى الوقوع الثابت الذي لا تغيير فيه :
«مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً».
فبخطيئاتهم وذنوبهم ومعصياتهم أغرقوا فأدخلوا نارا. والتعقيب بالفاء مقصود هنا ، لأن إدخالهم النار موصول بإغراقهم والفاصل الزمني القصير كأنه غير موجود ، لأنه في موازين اللّه لا يحسب شيئا. فالترتيب مع التعقيب كائن بين إغراقهم في الأرض وإدخالهم النار يوم القيامة. وقد يكون هو عذاب القبر في الفترة القصيرة بين الدنيا والآخرة .. «فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» ..
لا بنون ولا مال ولا سلطان ولا أولياء من الآلهة المدعاة! وفي آيتين اثنتين قصيرتين ينتهي أمر هؤلاء العصاة العتاة ، ويطوى ذكرهم من الحياة! وذلك قبل أن أن يذكر السياق دعاء نوح عليهم بالهلاك والفناء .. ولا يفصل هنا قصة غرقهم ، ولا قصة الطوفان الذي أغرقهم. لأن الظل المراد إبقاؤه في هذا الموقف هو ظل الإجهاز السريع ، حتى ليعبر المسافة بين الإغراق والإحراق في حرف الفاء! على طريقة القرآن في إيقاعاته التعبيرية والتصويرية المبدعة. فنقف نحن في ظلال السياق لا نتعداها إلى تفصيل قصة الإغراق .. ولا الإحراق ..!
ثم يكمل دعاء نوح الأخير وابتهاله إلى ربه في نهاية المطاف :
«وَقالَ نُوحٌ : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» ..
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه. وأحيانا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين ، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى اللّه نهائيا ، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين. وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح ، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازا كاملا لا يبقي منهم ديارا - أي صاحب ديار - فقال : «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ» .. ولفظة «عِبادَكَ» توحي بأنهم المؤمنون. فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضع بهذا المعنى. وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة ، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من اللّه في عافية! ثم إنهم يوجدون بيئة وجوا يولد فيها الكفار ، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار ، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون ، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور ، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها.
وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام ، وحكاها عنه القرآن : «وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» .. فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل ، وينشئون عادات وأوضاعا ونظما وتقاليد ، ينشأ معها المواليد فجارا كفارا ، كما قال نوح ..
من أجل هذا دعا نوح - عليه السلام - دعوته الماحقة الساحقة. ومن أجل هذا استجاب اللّه دعوته ، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير.
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول : «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» - أي هلاكا ودمارا - إلى جانب هذا كان الابتهال الخاشع الودود :
«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...» ..
ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له .. هو الأدب النبوي الكريم في حضرة اللّه العلي العظيم .. أدب العبد في حضرة الرب. العبد الذي لا ينسى أنه بشر ، وأنه يخطئ ، وأنه يقصر ، مهما يطع ويعبد ، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده اللّه بفضله ، كما قال أخوه النبي الكريم محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه ، فاستكبروا عليه .. وهو هو النبي يستغفر بعد كل هذا الجهد وكل هذا العناء. يستغفر وهو يقدم لربه سجل الحساب! ودعاؤه لوالديه .. هو بر النبوة بالوالدين المؤمنين - كما نفهم من هذا الدعاء - ولو لم يكونا مؤمنين لروجع فيهما كما روجع في شأن ولده الكافر الذي أغرق مع المغرقين (كما جاء في سورة هود).
ودعاؤه الخاص لمن دخل بيته مؤمنا .. هو بر المؤمن بالمؤمن وحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه ، وتخصيص الذي يدخل بيته مؤمنا ، لأن هذه كانت علامة النجاة ، وحصر المؤمنين الذين سيصحبهم معه في السفينة.
ودعاؤه العام بعد ذلك للمؤمنين والمؤمنات .. هو بر المؤمن بالمؤمنين كافة في كل زمان ومكان. وشعوره بآصرة القربى على مدار الزمن واختلاف السكن. وهو السر العجيب في هذه العقيدة التي تربط بين أصحابها برباط الحب الوثيق ، والشوق العميق ، على تباعد الزمان والمكان. السر الذي أودعه اللّه هذه العقيدة ، وأودعه هذه القلوب المربوطة برباط العقيدة ..
وفي مقابل هذا الحب للمؤمنين ، كان الكره للظالمين.
«وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» ..
وتختم السورة ، وقد عرضت تلك الصورة الوضيئة لجهاد النبي الكريم نوح عليه السلام. وتلك الصورة المطموسة لإصرار المعاندين الظالمين .. وقد تركت هذه وتلك في القلب حبا لهذا الروح الكريم وإعجابا بهذا الجهاد النبيل ، وزادا للسير في هذا الطريق الصاعد ، أيا كانت المشاق والمتاعب. وأيا كانت التضحيات والآلام.
فهو الطريق الوحيد الذي ينتهي بالبشرية إلى أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض. حين ينتهي بها إلى اللّه ، العلي الأعلى ، الجليل العظيم ..
( يتبع )
|
|
. . |
. . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:38 PM |
. .
. .
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
قال محمد الغزالي:
من عجائب سيرة نوح أنه ظل تسعة قرون ونصف يدعو قومه، وهم لا يستجيبون! إن هذا الزمان الطويل يتسع لازدهار دول! وانهيارها، ونضارة مبادئ وذبولها، بيد أن قوم نوح ظلوا على ضلالهم لا يتوبون ولا يفكرون في توبة! إن الرجل الوثيق العزم الواسع الحلم عاد إلى ربه يشكو سوء اللقاء وعناد الكفر {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا}. هل للكفر شبهة عقلية تجعل إنسانا ما يعبد حجرا، ويذر عبادة رب العالمين؟ لقد راقبت مسالك كفار، فوجدت العلل النفسية لا الفكرية هي التي تغرى بالجحود، وتصرف الناس عن ربهم العظيم! وكيف تفسر سلوك امرئ يرفض التدين ويبطن الولاء لبشر تافه؟ إن مئات الكتب ألفت في تمجيد (ستالين) ونسيان الله!! والأدلة على وجود الله ليست معادلات رياضية عسرة، إنها تنبيهات للعقل النائم كى يصحو ويرى {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}. إننا ما نزال نأكل نبات الأرض فيتحول في أجسامنا إلى عضلات ودماء، أنحن الذين نقوم بهذا التحويل؟ أم اللطيف الخبير؟ من الذي يدير الأفلاك؟ أهو الله أم ود أم سواع؟ من آلهة قوم نوح! إن غباء الكفر عجيب وليس أعجب منه إلا كبرياؤه وصلفه، ولذلك دعا نوح ربه بعد القرون الطوال التي أنفقها في البلاغ والتذكير {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}. إن الكفر على مر الأيام يتحول إلى تقاليد معوجة، وإلى جيل من الناس {لم يزده ماله وولده إلا خسارا}، أو إلى أسر تقول للمصلحين {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} والأخطر من هذا البلاء أن يضن الكفار على المؤمنين بحق الحياة والاستقرار {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}. إن طبيعة الضلال لا تلزم طورا واحدا. والمؤمنون في هذا العصر يعالجون الدواهى من الإلحاد والإحراج والفتنة!.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
قال الزيلعي:
سورة نوح عليه السلام ذكر فِيها ثلاثة أحادِيث:
قوله:
عن عمر رضِي اللّهُ عنْه «انه خرج يسْتسْقِي فما زاد على الاسْتِغْفار فقيل لهُ ما رأيْناك اسْتسْقيْت فقال لقد اسْتسْقيْت بِمجادِيح السّماء الّتِي يسْتنْزل بها الْمطر».
قلت رواهُ عبد الرّزّاق وابْن أبي شيبة فِي مصنفيهما فِي الاسْتِسْقاء والطّبرانِيّ فِي كتاب الدُّعاء لهُ والْبيْهقِيّ فِي سننه والطبري والثعلبي فِي تفسيريهما كلهم من حديث سُفْيان بن عُييْنة عن مطرف عن الشّعبِيّ أن عمر خرج يسْتسْقِي... إِلى آخِره وزادُوا ثمّ قرأ {اسْتغْفرُوا ربكُم...} إِلى آخر الْآية، وكذلِك رواهُ الواحدي فِي تفْسِيره الْوسِيط.
قال النّووِيّ فِي الْخُلاصة إِسْناده صحِيح لكنه مُرْسل فإِن الشّعبِيّ لم يدْرك عمر انْتهى.
قوله: عن ابْن عبّاس وابْن عمر إِن الشّمْس والْقمر وُجُوههما مِمّا يلِي السّماء وظُهُورهما مِمّا يلِي الأرْض.
قلت غرِيب روى ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره فِي أول سُورة يُونُس من حديث حمّاد بن سلمة عن علّي بن زيد عن يُوسُف بن مهْران عن ابْن عبّاس فِي قوله تعالى: {هُو الّذِي جعل الشّمْس ضِياء والْقمر نورا} قال وُجُوههما إِلى السّماء وأقْفِيتهما إِلى الأرْض.
ورُوِي أيْضا من حديث حمّاد بن سلمة عن عبد الْجلِيل عن شهر بن حوْشب عن عبد الله بن عمْرو نحوه.
وروى عبد الرّزّاق فِي تفْسِيره أخبرنا معمر عن قتادة قال قال عبد الله بن عمْرو بن الْعاصِ إِن الشّمْس والْقمر وُجُوههما قبل السّماء وأقْفِيتهما قبل الأرْض انتهى.
ورواهُ الطّبرِيّ فِي تفْسِيره اُخْبُرْنا يُونُس بن عبد الْأعْلى ثنا ابْن ثوْر عن معمر بِهِ.
حدثنا مُحمّد بن يسار ثنا معاذ بن هِشام الدستوائي ثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوْشب عن عبد الله بن عمْرو... فذكره.
وروى الْحاكِم فِي الْمُسْتدْرك من حديث يُوسُف بن مهْران عن ابْن عبّاس فِي قوله: {وجعل الْقمر فِيهِنّ نورا} قال وجهه إِلى الْعرْش وقفاهُ إِلى الأرْض انْتهى.
وقال صحِيح على شرط مُسلم ولم يخرجاهُ.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
الحديث الأول:
قال عليه السلام «من قتل قتِيلا فلهُ سلبه».
قلت رواهُ البُخارِيّ ومُسلم وتقدم أول الْبقرة.
الحديث الثّانِي:
قال النّبِي عليه السلام «يهْلكُون مهْلكا واحِدا ويصْدُرُون مصادر شتّى».
قلت رواهُ مُسلم فِي صحِيحه فِي الْفِتن فِي باب فتح ردم يأْجُوج ومأْجُوج من حديث عبد الله بن الزُّبيْر عن عائِشة قالت «عبث النّبِي صلى الله عليه وسلم فِي منامه فقُلْنا لهُ يا رسُول الله صنعت فِي منامك شيْئا لم تكن تفْعلهُ قال الْعجب أن أُناسا من أمتِي يؤمُّون هذا الْبيْت لرجل من قُريْش قد لجأ بِالْبيْتِ حتّى إِذا كانُوا بِالْبيْداءِ خسف بهم فقُلْنا يا رسُول الله إِن الطّرِيق قد يجمع النّاس فقال نعم فيهم الْمُسْتنْصر والْمجْبُور وابْن السّبِيل ويهْلِكُون مهْلكا واحِدا ويصْدُرُون مصادر شتّى يبْعثهُم الله على نياتهم».
وعزاهُ الْمزي فِي أطْرافه لمُسلم فِي الْحج وما وجدته إِلّا فِي الْفِتن.
الحديث الثّالِث:
عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سُورة نوح كان من الْمُؤمنِين الّذين تُدْرِكهُمْ دعْوة نوح».
قلت رواهُ الثّعْلبِيّ اخبرني مُحمّد بن الْقاسِم ثنا مُحمّد بن مُحمّد بن شادّة ثنا احْمد بن مُحمّد بن الْحسن ثنا مُحمّد بن يحْيى ثنا سلم بن قُتيْبة عن سعيد عن عاصِم بن بهْدلة عن زر بن حُبيْش عن أبي بن كعْب قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره.
ورواهُ ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره بسنديه فِي آل عمران.
ورواهُ الواحدي فِي الْوسِيط بِسند يُونُس.
فضل السّورة:
فيه من الأحاديث الواهية حديث أُبي: «منْ قرأها كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوح».
وحديث علي: «يا علي منْ قرأها كان في الجنّة رفيق نوح وله ثواب نوح وله بكلّ آية قرأها مثل ثواب سام ابن نوح»
( يتبع – سورة الجن )
|
|
. . |
. . |
|
مديح ال قطب |
03-13-2021 06:39 PM |
. .
. .
سورة الجن
التعريف بالسورة :
مكية .
من المفصل .
آياتها 28 .
ترتيبها الثانية والسبعون .
نزلت بعد الأعراف .
بدأت بفعل أمر " قُلْ أُوحِيَ إٍلَيَّ "
سبب التسمية :
سميت بهذا الاسم لأنها ذُكر فيها أوصاف الجن وأحوالهم وطوائفهم وأيضا سورة ( قُلْ أُوْحِيَ إَلَىَّ ) .
وسميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها الكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس (سورة الجن). وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من (جامعه)، وترجمها البخاري في كتاب التفسير (سورة قل أوحي إليّ).
واشتهرت على ألسنة المُكتِّبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم {قل أوحي} (الجن: 1).
ولم يذكرها في (الإِتقان) في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.
سبب نزول السورة :
عن عبد الله بن عباس قال : انطلق النبي في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأُرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : مال لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلت علينا الشهب قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شئ حدث فاضربوا مشارق الارض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف اولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا :" يا قومنا إنا سمعنا قرأنا عجبا يهدى إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأنزل الله على نبيه" قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن " ( البخاري ).
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي (الصحيحين) و(جامع الترمذي) من حديث ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سُوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا} (الجن: 1) وأنزل الله على نبيئه {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن} (الجن: 1).
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة كان بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.
وقد عُدّت السورة الأربعين في نزول السور نزلتْ بعد الأعراف وقبل يس.
محاور ومقاصد السورة
تعالج السورة أصول العقيدة الإسلامية "الوحدانية ، الرسالة ، البعث ، والجزاء " ومحور السورة يدور حول الجن وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءا من استماعهم للقرآن إلى دخلوهم في الإيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم : كاستراقهم للسمع ، ورميهم بالشهب المحرقة ، وإطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية ، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة .
قال البقاعي:
سورة الجن وتسمى {قل أوحى} مقصودها إظهار الشرف لهذا النبي الكريم الفاتح صلى الله عليه وسلم وعلى أنه وأصحابه وذريته، أهل بيته حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره، وذلك لعظمة هذا القرآن، ولطف ما له من غريب الشأن، هذا والزمان في آخره وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن نوح عليه السلام أول نبي بعثه الله تعالى إلى المخالفين وما آمن معه من قومه إلا قليل، وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن ويقل أوحي، وبتأمل الآية المشتملة على ذلك وما فيها من لطيف المسالك، أعاذنا الله بمنه وكرمه من الوقوع في المهالك.
ومعظم مقصود السّورة عجائب علوم القرآن، وعظمة سلطان الملِك الدّيّان، وتعدّى الجنِّ على الإِنسان، ومنعهم عن الوصول إِلى السّماءِ بالطّيران، والرّشد والصّلاح لأهل الإِيمان، وتهديدُ الكفّار بالجحيم والنيران، وعِلْم الله تعالى بالإِسرار والإِعلان، وكيفية تبليغ الوحى من الملائكة إِلى الأنبياءِ بالإِتقان، وحصْر المعلومات في علم خالق الخلْق في قوله: {وأحْصى كُلّ شيء عددا}.
قال الصابوني:
* سورة الجن مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإسلامية (الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء) ومحور السورة يدور حول الجن، وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءا من استماعهم للقرآن، إلى دخولهم في الإيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم، كاستراقهم للسمع، ورميهم بالشهب المحرقة، واطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة.
* ابتدأت السورة الكريمة بالإخبار عن استماع فريق من الجن للقرآن، وتأثرهم بما فيه من روعة البيان، حتى آمنوا به فور استماعه، ودعوا قومهم إلى الإيمان {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا..} الآيات.
* ثم انتقلت للحديث عن تمجيدهم وتنزيههم لله جل وعلا، وإفرادهم له بالعبادة، وتسفيههم لمن جعل لله ولدا {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا..} الآيات.
* ثم تحدثت السورة عن استراق الجن للسمع، وإحاطة السماء بالحرس من الملائكة، وإرسال الشهب على الجن، بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين، وتعجبهم من هذا الحدث الغريب {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا..} الآيات.
* ثم تحدثت السورة عن انقسام الجن إلى فريقين: مؤمنين، وكافرين ومآل كل من الفريقين {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}.
* ثم انتقلت للحديث عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن التفاف الجن حوله حين سمعوه يتلو القرآن {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربى ولا أشرك به أحدا}.
* ثم أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعلن استسلامه وخضوعه لله، ويفرده جل وعلا بإخلاص العمل، وأن يتبرأ من الحول والطول {قل إنما أدعو ربى ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا}.
وختمت السورة ببيان اختصاص الله جل وعلا بمعرفة الغيب، وإحاطته بعلم جميع ما في الكائنات {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا..} الآيات إلى آخر السورة الكريمة.
( يتبع )
.
|
|
. . |
. . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:22 PM |
. .
. .
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
قال سيد قطب
هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها .. إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين مع صبغة من الحزن في إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها. وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ :
«قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً .. قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً .. قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً .. قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد.
وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور والاستجابة لها تغشى الحس بحالة من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي! وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها ..
إذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات.
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل ، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة ، ويزعمون أحيانا أن محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد - صلى اللّه عليه وسلم - فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل ، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا ، ولا الإجمال فيما عرفوا ، ولا الاختصار فيما شعروا. فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ ، ووهلة المشدوه ، عن هذا الحادث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب.
وترك آثاره ونتائجه في الكون كله! .. وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما.
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف. فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .. ثم بات آمنا! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون. وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين اللّه نسبا ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة! والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية ، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا!!! وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم ، وما تزال ..
نجد في الصف الآخر اليوممنكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة ..
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا : «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» .. ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» .. وهم قابلون للهداية من الضلال ، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا : «قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .. وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان والكفر فيهم : «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ ، فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» .. وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. وأنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلة بالسماء : «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. وأنهم لا صهر بينهم وبين اللّه - سبحانه وتعالى - ولا نسب : «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
وأن الجن لا قوة لهم مع قوة اللّه ولا حيلة : «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً»
( يتبع )
|
|
. . |
. . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:23 PM |
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة ، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب :
«فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ «1»» ..
ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء : «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ «2»» .. وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر ، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن.
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله : «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب ، تثبت وجوده ، وتحدد الكثير من خصائصه وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير ، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق ، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك! وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا ، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار ، بصيغة الجزم والقطع ، والسخرية من الاعتقاد بوجوده ، وتسميته خرافة! ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم ، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام! ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى.
.هناك قوى مكنونة تكشف كل يوم وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية ، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها ، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون ، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد! ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها ، فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه. فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها! ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشي ء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس ، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته ، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع
والسورة التي بين أيدينا بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، ثم عن هذا الكون وخلائقه ، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة.
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية اللّه ، ونفي الصاحبة والولد ، وإثبات الجزاء في الآخرة وأن أحدا من خلق اللّه لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته ، فلا يلاقي جزاءه العادل. وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من الخطاب : «قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» ... «قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» .. وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة.
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية للّه وحده ، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر : «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» .. ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من خطاب : «قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» ..
والغيب موكول للّه وحده لا تعرفه الجن : «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم اللّه عليه منه لحكمة يعلمها : «قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ...» ..
أما العباد والعبيد في هذا الكون ، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ ، ولو اختلف تكوينها ، كالمشاركات التي بين الجن والإنس ، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى.
فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى. وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور. وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه. وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار. قد يجهلها الإنسان ، ولكنها موجودة بالفعل من حوله ، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر!! ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة ، وتحركات هذا الكون ونتائجها ، وقدر اللّه في العباد : «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» .. وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر اللّه.
( يتبع )
|
|
. . |
. . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:24 PM |
[ALIGN=center]
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
وعلى أية حال فقد وجه نوح قومه إلى النظر في أنفسهم ، وأنكر عليهم أن يكون اللّه خلقهم أطوارا ، ثم هم بعد ذلك لا يستشعرون في أنفسهم توقيرا للجليل الذي خلقهم .. وهذا أعجب وأنكر ما يقع من مخلوق! كذلك وجههم إلى كتاب الكون المفتوح : «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً؟» .. والسماوات السبع لا يمكن حصرها في مدلول مما تقول به الفروض العلمية في التعريف بالكون. فهي كلها مجرد فروض. إنما وجه نوح قومه إلى السماء وأخبرهم - كما علمه اللّه - أنها سبع طباق. فيهن القمر نور وفيهن الشمس سراج. وهم يرون القمر ويرون الشمس ، ويرون ما يطلق عليه اسم السماء. وهو هذا الفضاء ذو اللون الأزرق. أما ما هو؟ فلم يكن ذلك مطلوبا منهم. ولم يجزم أحد إلى اليوم بشيء في هذا الشأن .. وهذا التوجيه يكفي لإثارة التطلع والتدبر فيما وراء هذه الخلائق الهائلة من قدرة مبدعة .. وهذا هو المقصود من ذلك التوجيه. ثم عاد نوح فوجه قومه إلى النظر في نشأتهم من الأرض وعودتهم إليها بالموت ليقرر لهم حقيقة إخراجهم منها بالبعث : «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» ..
والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات تعبير عجيب موح. وهو يكرر في القرآن في صور شتى.
كقوله تعالى : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً». وهو يشير في هذا إلى نشأة الناس كنشأة النبات. كما يقرن نشأة الإنسان بنشأة النبات في مواضع متفرقة : ففي سورة الحج يجمع بينهما في آية واحدة في صدد البرهنة على حقيقة البعث فيقول : «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً. وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» .. وفي سورة «المؤمنون» يذكر أطوار النشأة الجنينية قريبا مما ذكرت في سورة الحج ويجيء بعدها : «فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ» .. وهكذا.
هي ظاهرة تستدعي النظر ولا ريب. فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض ، وأن نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات. من عناصرها الأولية يتكون. ومن عناصرها الأولية يتغذى وينمو ، فهو نبات من نباتها. وهبه اللّه هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة. وكلاهما من نتاج الأرض ، وكلاهما يرضع من هذه الأم! وكذلك ينشئ الإيمان في المؤمن تصورا حقيقيا حيا لعلاقته بالأرض وبالأحياء. تصورا فيه دقة العلم وفيه حيوية الشعور. لأنه قائم على الحقيقة الحية في الضمير. وهذه ميزة المعرفة القرآنية الفريدة.
والناس الذين نبتوا من الأرض يعودون إلى جوفها مرة أخرى. يعيدهم اللّه إليها كما أنبتهم منها. فيختلط رفاتهم بتربتها ، وتندمج ذراتهم في ذراتها ، كما كانوا فيها من قبل أن ينبتوا منها! ثم يخرجهم الذي أول مرة وينبتهم كما أنبتهم أول مرة .. مسألة سهلة يسيرة لا تستدعي التوقف عندها لحظة ، حين ينظر الإنسان إليها من هذه الزاوية التي يعرضها القرآن منها! ونوح - عليه السلام - وجه قومه إلى هذه الحقيقة لتستشعر قلوبهم يد اللّه وهي تنبتهم من هذه الأرض نباتا ، وهي تعيدهم فيها مرة أخرى. ثم تتوقع النشأة الأخرى وتحسب حسابها ، وهي كائنة بهذا اليسر وبهذه البساطة.
بساطة البداهة التي لا تقبل جدلا! وأخيرا وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة اللّه عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم : «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» ..
وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة ، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره. فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة - حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروبا وفجاجا ، كما جعل في سهولها من باب أولى. وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون ويبتغون من فضل اللّه ، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق.
وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة ، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض ، وتيسر لهم الحياة فيها. وكلما زاد الإنسان علما أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاقا بعيدة
هكذا سلك نوح - أو حاول أن يسلك - إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب ، ومتنوع الوسائل في دأب طويل ، وفي صبر جميل ، وفي جهد نبيل ، ألف سنة إلا خمسين عاما. ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم ، يقدم حسابه ، ويبث شكواه ، في هذا البيان المفصل ، وفي هذه اللهجة المؤثرة. ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة ، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية! فماذا كان بعد كل هذا البيان؟
«قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً. وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً. وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» ..
رب إنهم عصوني! بعد كل هذا الجهاد ، وبعد كل هذا العناء. وبعد كل هذا التوجيه. وبعد كل هذا التنوير. وبعد الإنذار والإطماع والوعد بالمال والبنين والرخاء .. بعد هذا كله كان العصيان. وكان السير وراء القيادات الضالة المضللة ، التي تخدع الأتباع بما تملك من المال والأولاد ، ومظاهر الجاه والسلطان. ممن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» فقد أغراهم المال والولد بالضلال والإضلال ، فلم يكن وراءهما إلا الشقاء والخسران.
هؤلاء القادة لم يكتفوا بالضلال .. «وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً». مكرا متناهيا في الكبر. مكروا لإبطال الدعوة وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس. ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم.
وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة : «وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ» ..
بهذه الإضافة : «آلِهَتَكُمْ» لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم. وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنا فخصوها بالذكر ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحمية والاعتزاز .. «وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا ، وَلا سُواعاً ، وَلا يَغُوثَ ، وَيَعُوقَ ، وَنَسْراً» .. وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية.
وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناما ، تختلف أسماؤها وأشكالها ، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية وتجمع حواليها الأتباع ، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام ، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء ، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد : «وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً» ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام .. أصنام الأحجار. وأصنام الأشخاص. وأصنام الأفكار .. سواء!! للصد عن دعوة اللّه ، وتوجيه القلوب بعيدا عن الدعاة ، بالمكر الكبّار ، والكيد والإصرار! هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح - عليه السلام - ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين ، الماكرين الكائدين :
«وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» ..
ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلا ، وعانى كثيرا ، وانتهى - بعد كل وسيلة - إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة.
( يتبع )
|
|
|
[/
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:25 PM |
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
وقبل أن يعرض السياق بقية دعاء نوح - عليه السلام - يعرض ما صار إليه الظالمون الخاطئون في الدنيا والآخرة جميعا! فأمر الآخرة كأمر الدنيا حاضر بالقياس إلى علم اللّه ، وبالقياس إلى الوقوع الثابت الذي لا تغيير فيه :
«مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً».
فبخطيئاتهم وذنوبهم ومعصياتهم أغرقوا فأدخلوا نارا. والتعقيب بالفاء مقصود هنا ، لأن إدخالهم النار موصول بإغراقهم والفاصل الزمني القصير كأنه غير موجود ، لأنه في موازين اللّه لا يحسب شيئا. فالترتيب مع التعقيب كائن بين إغراقهم في الأرض وإدخالهم النار يوم القيامة. وقد يكون هو عذاب القبر في الفترة القصيرة بين الدنيا والآخرة .. «فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» ..
لا بنون ولا مال ولا سلطان ولا أولياء من الآلهة المدعاة! وفي آيتين اثنتين قصيرتين ينتهي أمر هؤلاء العصاة العتاة ، ويطوى ذكرهم من الحياة! وذلك قبل أن أن يذكر السياق دعاء نوح عليهم بالهلاك والفناء .. ولا يفصل هنا قصة غرقهم ، ولا قصة الطوفان الذي أغرقهم. لأن الظل المراد إبقاؤه في هذا الموقف هو ظل الإجهاز السريع ، حتى ليعبر المسافة بين الإغراق والإحراق في حرف الفاء! على طريقة القرآن في إيقاعاته التعبيرية والتصويرية المبدعة. فنقف نحن في ظلال السياق لا نتعداها إلى تفصيل قصة الإغراق .. ولا الإحراق ..!
ثم يكمل دعاء نوح الأخير وابتهاله إلى ربه في نهاية المطاف :
«وَقالَ نُوحٌ : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» ..
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه. وأحيانا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين ، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى اللّه نهائيا ، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين. وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح ، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازا كاملا لا يبقي منهم ديارا - أي صاحب ديار - فقال : «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ» .. ولفظة «عِبادَكَ» توحي بأنهم المؤمنون. فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضع بهذا المعنى. وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة ، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من اللّه في عافية! ثم إنهم يوجدون بيئة وجوا يولد فيها الكفار ، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار ، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون ، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور ، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها.
وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام ، وحكاها عنه القرآن : «وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» .. فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل ، وينشئون عادات وأوضاعا ونظما وتقاليد ، ينشأ معها المواليد فجارا كفارا ، كما قال نوح ..
من أجل هذا دعا نوح - عليه السلام - دعوته الماحقة الساحقة. ومن أجل هذا استجاب اللّه دعوته ، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير.
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول : «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» - أي هلاكا ودمارا - إلى جانب هذا كان الابتهال الخاشع الودود :
«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...» ..
ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له .. هو الأدب النبوي الكريم في حضرة اللّه العلي العظيم .. أدب العبد في حضرة الرب. العبد الذي لا ينسى أنه بشر ، وأنه يخطئ ، وأنه يقصر ، مهما يطع ويعبد ، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده اللّه بفضله ، كما قال أخوه النبي الكريم محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه ، فاستكبروا عليه .. وهو هو النبي يستغفر بعد كل هذا الجهد وكل هذا العناء. يستغفر وهو يقدم لربه سجل الحساب! ودعاؤه لوالديه .. هو بر النبوة بالوالدين المؤمنين - كما نفهم من هذا الدعاء - ولو لم يكونا مؤمنين لروجع فيهما كما روجع في شأن ولده الكافر الذي أغرق مع المغرقين (كما جاء في سورة هود).
ودعاؤه الخاص لمن دخل بيته مؤمنا .. هو بر المؤمن بالمؤمن وحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه ، وتخصيص الذي يدخل بيته مؤمنا ، لأن هذه كانت علامة النجاة ، وحصر المؤمنين الذين سيصحبهم معه في السفينة.
ودعاؤه العام بعد ذلك للمؤمنين والمؤمنات .. هو بر المؤمن بالمؤمنين كافة في كل زمان ومكان. وشعوره بآصرة القربى على مدار الزمن واختلاف السكن. وهو السر العجيب في هذه العقيدة التي تربط بين أصحابها برباط الحب الوثيق ، والشوق العميق ، على تباعد الزمان والمكان. السر الذي أودعه اللّه هذه العقيدة ، وأودعه هذه القلوب المربوطة برباط العقيدة ..
وفي مقابل هذا الحب للمؤمنين ، كان الكره للظالمين.
«وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» ..
وتختم السورة ، وقد عرضت تلك الصورة الوضيئة لجهاد النبي الكريم نوح عليه السلام. وتلك الصورة المطموسة لإصرار المعاندين الظالمين .. وقد تركت هذه وتلك في القلب حبا لهذا الروح الكريم وإعجابا بهذا الجهاد النبيل ، وزادا للسير في هذا الطريق الصاعد ، أيا كانت المشاق والمتاعب. وأيا كانت التضحيات والآلام.
فهو الطريق الوحيد الذي ينتهي بالبشرية إلى أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض. حين ينتهي بها إلى اللّه ، العلي الأعلى ، الجليل العظيم ..
( يتبع )
|
|
|
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:26 PM |
[ALIGN=center]
تابع – سورة نوح
محور مواضيع السورة :
قال محمد الغزالي:
من عجائب سيرة نوح أنه ظل تسعة قرون ونصف يدعو قومه، وهم لا يستجيبون! إن هذا الزمان الطويل يتسع لازدهار دول! وانهيارها، ونضارة مبادئ وذبولها، بيد أن قوم نوح ظلوا على ضلالهم لا يتوبون ولا يفكرون في توبة! إن الرجل الوثيق العزم الواسع الحلم عاد إلى ربه يشكو سوء اللقاء وعناد الكفر {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا}. هل للكفر شبهة عقلية تجعل إنسانا ما يعبد حجرا، ويذر عبادة رب العالمين؟ لقد راقبت مسالك كفار، فوجدت العلل النفسية لا الفكرية هي التي تغرى بالجحود، وتصرف الناس عن ربهم العظيم! وكيف تفسر سلوك امرئ يرفض التدين ويبطن الولاء لبشر تافه؟ إن مئات الكتب ألفت في تمجيد (ستالين) ونسيان الله!! والأدلة على وجود الله ليست معادلات رياضية عسرة، إنها تنبيهات للعقل النائم كى يصحو ويرى {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}. إننا ما نزال نأكل نبات الأرض فيتحول في أجسامنا إلى عضلات ودماء، أنحن الذين نقوم بهذا التحويل؟ أم اللطيف الخبير؟ من الذي يدير الأفلاك؟ أهو الله أم ود أم سواع؟ من آلهة قوم نوح! إن غباء الكفر عجيب وليس أعجب منه إلا كبرياؤه وصلفه، ولذلك دعا نوح ربه بعد القرون الطوال التي أنفقها في البلاغ والتذكير {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}. إن الكفر على مر الأيام يتحول إلى تقاليد معوجة، وإلى جيل من الناس {لم يزده ماله وولده إلا خسارا}، أو إلى أسر تقول للمصلحين {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} والأخطر من هذا البلاء أن يضن الكفار على المؤمنين بحق الحياة والاستقرار {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}. إن طبيعة الضلال لا تلزم طورا واحدا. والمؤمنون في هذا العصر يعالجون الدواهى من الإلحاد والإحراج والفتنة!.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
قال الزيلعي:
سورة نوح عليه السلام ذكر فِيها ثلاثة أحادِيث:
قوله:
عن عمر رضِي اللّهُ عنْه «انه خرج يسْتسْقِي فما زاد على الاسْتِغْفار فقيل لهُ ما رأيْناك اسْتسْقيْت فقال لقد اسْتسْقيْت بِمجادِيح السّماء الّتِي يسْتنْزل بها الْمطر».
قلت رواهُ عبد الرّزّاق وابْن أبي شيبة فِي مصنفيهما فِي الاسْتِسْقاء والطّبرانِيّ فِي كتاب الدُّعاء لهُ والْبيْهقِيّ فِي سننه والطبري والثعلبي فِي تفسيريهما كلهم من حديث سُفْيان بن عُييْنة عن مطرف عن الشّعبِيّ أن عمر خرج يسْتسْقِي... إِلى آخِره وزادُوا ثمّ قرأ {اسْتغْفرُوا ربكُم...} إِلى آخر الْآية، وكذلِك رواهُ الواحدي فِي تفْسِيره الْوسِيط.
قال النّووِيّ فِي الْخُلاصة إِسْناده صحِيح لكنه مُرْسل فإِن الشّعبِيّ لم يدْرك عمر انْتهى.
قوله: عن ابْن عبّاس وابْن عمر إِن الشّمْس والْقمر وُجُوههما مِمّا يلِي السّماء وظُهُورهما مِمّا يلِي الأرْض.
قلت غرِيب روى ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره فِي أول سُورة يُونُس من حديث حمّاد بن سلمة عن علّي بن زيد عن يُوسُف بن مهْران عن ابْن عبّاس فِي قوله تعالى: {هُو الّذِي جعل الشّمْس ضِياء والْقمر نورا} قال وُجُوههما إِلى السّماء وأقْفِيتهما إِلى الأرْض.
ورُوِي أيْضا من حديث حمّاد بن سلمة عن عبد الْجلِيل عن شهر بن حوْشب عن عبد الله بن عمْرو نحوه.
وروى عبد الرّزّاق فِي تفْسِيره أخبرنا معمر عن قتادة قال قال عبد الله بن عمْرو بن الْعاصِ إِن الشّمْس والْقمر وُجُوههما قبل السّماء وأقْفِيتهما قبل الأرْض انتهى.
ورواهُ الطّبرِيّ فِي تفْسِيره اُخْبُرْنا يُونُس بن عبد الْأعْلى ثنا ابْن ثوْر عن معمر بِهِ.
حدثنا مُحمّد بن يسار ثنا معاذ بن هِشام الدستوائي ثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوْشب عن عبد الله بن عمْرو... فذكره.
وروى الْحاكِم فِي الْمُسْتدْرك من حديث يُوسُف بن مهْران عن ابْن عبّاس فِي قوله: {وجعل الْقمر فِيهِنّ نورا} قال وجهه إِلى الْعرْش وقفاهُ إِلى الأرْض انْتهى.
وقال صحِيح على شرط مُسلم ولم يخرجاهُ.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
الحديث الأول:
قال عليه السلام «من قتل قتِيلا فلهُ سلبه».
قلت رواهُ البُخارِيّ ومُسلم وتقدم أول الْبقرة.
الحديث الثّانِي:
قال النّبِي عليه السلام «يهْلكُون مهْلكا واحِدا ويصْدُرُون مصادر شتّى».
قلت رواهُ مُسلم فِي صحِيحه فِي الْفِتن فِي باب فتح ردم يأْجُوج ومأْجُوج من حديث عبد الله بن الزُّبيْر عن عائِشة قالت «عبث النّبِي صلى الله عليه وسلم فِي منامه فقُلْنا لهُ يا رسُول الله صنعت فِي منامك شيْئا لم تكن تفْعلهُ قال الْعجب أن أُناسا من أمتِي يؤمُّون هذا الْبيْت لرجل من قُريْش قد لجأ بِالْبيْتِ حتّى إِذا كانُوا بِالْبيْداءِ خسف بهم فقُلْنا يا رسُول الله إِن الطّرِيق قد يجمع النّاس فقال نعم فيهم الْمُسْتنْصر والْمجْبُور وابْن السّبِيل ويهْلِكُون مهْلكا واحِدا ويصْدُرُون مصادر شتّى يبْعثهُم الله على نياتهم».
وعزاهُ الْمزي فِي أطْرافه لمُسلم فِي الْحج وما وجدته إِلّا فِي الْفِتن.
الحديث الثّالِث:
عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سُورة نوح كان من الْمُؤمنِين الّذين تُدْرِكهُمْ دعْوة نوح».
قلت رواهُ الثّعْلبِيّ اخبرني مُحمّد بن الْقاسِم ثنا مُحمّد بن مُحمّد بن شادّة ثنا احْمد بن مُحمّد بن الْحسن ثنا مُحمّد بن يحْيى ثنا سلم بن قُتيْبة عن سعيد عن عاصِم بن بهْدلة عن زر بن حُبيْش عن أبي بن كعْب قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره.
ورواهُ ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره بسنديه فِي آل عمران.
ورواهُ الواحدي فِي الْوسِيط بِسند يُونُس.
فضل السّورة:
فيه من الأحاديث الواهية حديث أُبي: «منْ قرأها كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوح».
وحديث علي: «يا علي منْ قرأها كان في الجنّة رفيق نوح وله ثواب نوح وله بكلّ آية قرأها مثل ثواب سام ابن نوح»
( يتبع – سورة الجن )
|
|
|
[/
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:26 PM |
سورة الجن
التعريف بالسورة :
مكية .
من المفصل .
آياتها 28 .
ترتيبها الثانية والسبعون .
نزلت بعد الأعراف .
بدأت بفعل أمر " قُلْ أُوحِيَ إٍلَيَّ "
سبب التسمية :
سميت بهذا الاسم لأنها ذُكر فيها أوصاف الجن وأحوالهم وطوائفهم وأيضا سورة ( قُلْ أُوْحِيَ إَلَىَّ ) .
وسميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها الكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس (سورة الجن). وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من (جامعه)، وترجمها البخاري في كتاب التفسير (سورة قل أوحي إليّ).
واشتهرت على ألسنة المُكتِّبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم {قل أوحي} (الجن: 1).
ولم يذكرها في (الإِتقان) في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.
سبب نزول السورة :
عن عبد الله بن عباس قال : انطلق النبي في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأُرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : مال لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلت علينا الشهب قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شئ حدث فاضربوا مشارق الارض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف اولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا :" يا قومنا إنا سمعنا قرأنا عجبا يهدى إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأنزل الله على نبيه" قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن " ( البخاري ).
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي (الصحيحين) و(جامع الترمذي) من حديث ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سُوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا} (الجن: 1) وأنزل الله على نبيئه {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن} (الجن: 1).
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة كان بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.
وقد عُدّت السورة الأربعين في نزول السور نزلتْ بعد الأعراف وقبل يس.
محاور ومقاصد السورة
تعالج السورة أصول العقيدة الإسلامية "الوحدانية ، الرسالة ، البعث ، والجزاء " ومحور السورة يدور حول الجن وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءا من استماعهم للقرآن إلى دخلوهم في الإيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم : كاستراقهم للسمع ، ورميهم بالشهب المحرقة ، وإطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية ، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة .
قال البقاعي:
سورة الجن وتسمى {قل أوحى} مقصودها إظهار الشرف لهذا النبي الكريم الفاتح صلى الله عليه وسلم وعلى أنه وأصحابه وذريته، أهل بيته حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره، وذلك لعظمة هذا القرآن، ولطف ما له من غريب الشأن، هذا والزمان في آخره وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن نوح عليه السلام أول نبي بعثه الله تعالى إلى المخالفين وما آمن معه من قومه إلا قليل، وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن ويقل أوحي، وبتأمل الآية المشتملة على ذلك وما فيها من لطيف المسالك، أعاذنا الله بمنه وكرمه من الوقوع في المهالك.
ومعظم مقصود السّورة عجائب علوم القرآن، وعظمة سلطان الملِك الدّيّان، وتعدّى الجنِّ على الإِنسان، ومنعهم عن الوصول إِلى السّماءِ بالطّيران، والرّشد والصّلاح لأهل الإِيمان، وتهديدُ الكفّار بالجحيم والنيران، وعِلْم الله تعالى بالإِسرار والإِعلان، وكيفية تبليغ الوحى من الملائكة إِلى الأنبياءِ بالإِتقان، وحصْر المعلومات في علم خالق الخلْق في قوله: {وأحْصى كُلّ شيء عددا}.
قال الصابوني:
* سورة الجن مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإسلامية (الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء) ومحور السورة يدور حول الجن، وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءا من استماعهم للقرآن، إلى دخولهم في الإيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم، كاستراقهم للسمع، ورميهم بالشهب المحرقة، واطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة.
* ابتدأت السورة الكريمة بالإخبار عن استماع فريق من الجن للقرآن، وتأثرهم بما فيه من روعة البيان، حتى آمنوا به فور استماعه، ودعوا قومهم إلى الإيمان {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا..} الآيات.
* ثم انتقلت للحديث عن تمجيدهم وتنزيههم لله جل وعلا، وإفرادهم له بالعبادة، وتسفيههم لمن جعل لله ولدا {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا..} الآيات.
* ثم تحدثت السورة عن استراق الجن للسمع، وإحاطة السماء بالحرس من الملائكة، وإرسال الشهب على الجن، بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين، وتعجبهم من هذا الحدث الغريب {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا..} الآيات.
* ثم تحدثت السورة عن انقسام الجن إلى فريقين: مؤمنين، وكافرين ومآل كل من الفريقين {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}.
* ثم انتقلت للحديث عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن التفاف الجن حوله حين سمعوه يتلو القرآن {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربى ولا أشرك به أحدا}.
* ثم أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعلن استسلامه وخضوعه لله، ويفرده جل وعلا بإخلاص العمل، وأن يتبرأ من الحول والطول {قل إنما أدعو ربى ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا}.
وختمت السورة ببيان اختصاص الله جل وعلا بمعرفة الغيب، وإحاطته بعلم جميع ما في الكائنات {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا..} الآيات إلى آخر السورة الكريمة.
( يتبع )
|
|
|
[/
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:27 PM |
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
قال سيد قطب
هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها .. إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين مع صبغة من الحزن في إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها. وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ :
«قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً .. قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً .. قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً .. قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد.
وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور والاستجابة لها تغشى الحس بحالة من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي! وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها ..
إذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات.
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل ، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة ، ويزعمون أحيانا أن محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد - صلى اللّه عليه وسلم - فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل ، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا ، ولا الإجمال فيما عرفوا ، ولا الاختصار فيما شعروا. فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ ، ووهلة المشدوه ، عن هذا الحادث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب.
وترك آثاره ونتائجه في الكون كله! .. وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما.
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف. فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .. ثم بات آمنا! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون. وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين اللّه نسبا ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة! والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية ، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا!!! وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم ، وما تزال ..
نجد في الصف الآخر اليوممنكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا : «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» .. ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» .. وهم قابلون للهداية من الضلال ، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا : «قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .. وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان والكفر فيهم : «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ ، فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» .. وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. وأنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلة بالسماء : «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. وأنهم لا صهر بينهم وبين اللّه - سبحانه وتعالى - ولا نسب : «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
وأن الجن لا قوة لهم مع قوة اللّه ولا حيلة : «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً»
..
( يتبع )
|
|
|
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:27 PM |
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة ، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب :
«فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ «1»» ..
ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء : «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ «2»» .. وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر ، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن.
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله : «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب ، تثبت وجوده ، وتحدد الكثير من خصائصه وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير ، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق ، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك! وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا ، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار ، بصيغة الجزم والقطع ، والسخرية من الاعتقاد بوجوده ، وتسميته خرافة! ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم ، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام! ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى.
( يتهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية ، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها ، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون ، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد! ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها ، فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه. فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها! ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشي ء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس ، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته ، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع
والسورة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، ثم عن هذا الكون وخلائقه ، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة.
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية اللّه ، ونفي الصاحبة والولد ، وإثبات الجزاء في الآخرة وأن أحدا من خلق اللّه لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته ، فلا يلاقي جزاءه العادل. وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من الخطاب : «قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» ... «قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» .. وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة.
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية للّه وحده ، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر : «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» .. ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من خطاب : «قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» ..
والغيب موكول للّه وحده لا تعرفه الجن : «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم اللّه عليه منه لحكمة يعلمها : «قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ...» ..
أما العباد والعبيد في هذا الكون ، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ ، ولو اختلف تكوينها ، كالمشاركات التي بين الجن والإنس ، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى.
فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى. وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور. وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه. وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار. قد يجهلها الإنسان ، ولكنها موجودة بالفعل من حوله ، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر!! ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة ، وتحركات هذا الكون ونتائجها ، وقدر اللّه في العباد : «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» .. وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر اللّه.
( يتبع )
|
|
|
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:28 PM |
https://mrkzgulfup.com/uploads/157113501723263.gif
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة ، وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة ..
فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة. حادث استماع نفر من الجن للقرآن. فتختلف بشأنه الروايات.
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه : «دلائل النبوة» : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - قال : «ما قرأ رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - على الجن ولا رآهم. انطلق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، أرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب. قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه ، فقالوا : هذا واللّه الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا : «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .. وأنزل اللّه على نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - : «قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ» .. وإنما أوحي إليه قول الجن (و رواه البخاري عن مسدد بنحو هذا ، وأخرجه مسلم عن شيبان ابن فروخ عن أبي عوانة بهذا النص).
فهذه رواية. وهناك رواية أخرى .. قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر ، قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود - رضي اللّه عنه - فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير؟ اغتيل؟ قال : فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو ، جاء من قبل حراء. قال : فقلنا : يا رسول اللّه ، فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال : «أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن».
قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وسألوه الزاد فقال : «كل عظم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - : «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» ..
وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق. فنضرب عن هذه وأمثالها .. ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول : إن الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - لم يعرف بحضور النفر من الجن ، وأن ابن مسعود يقول : إنهم استدعوه. ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد.
وهناك رواية ثالثة لابن اسحق قال :
«ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من اللّه عز وجل ، فخرج إليهم وحده.
«قال ابن إسحق : فحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة :
يا ليل بن عمرو بن عمير ، ومسعود بن عمرو بن عمير ، وحبيب بن عمرو بن عمير ... وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح. فجلس إليهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فدعاهم إلى اللّه ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة (أي يمزقها) إن كان اللّه أرسلك! وقال الآخر : أما وجد اللّه أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث :
واللّه لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من اللّه كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على اللّه ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - من عندهم وقد يئس من خير ثقيف. وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : «إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني». وكره رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أن يبلغ قومه عنه ، فيذئرهم (أي يحرشهم) ذلك عليه! «فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجئوه إلى حائط (أي بستان) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة - وهما فيه - ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب (أي طاقة من قضبان الكرم) فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف ... فلما اطمأن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلم - قال - فيما ذكر لي - : «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى عبد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك» ..
«قال : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له :
عداس. فقال له : خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه. ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ثم قال له :
كل. فلما وضع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فيه يده قال : «بسم اللّه» ثم أكل. فنظر عداس في وجهه ثم قال : واللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - :
«ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى. فقال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - : «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» فقال عداس : وما يدريك ما يونس ابن متى؟ فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - : «ذاك أخي. كان نبيا وأنا نبي» فأكب عداس على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال : يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟
قال : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا. لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. قالا له : ويحك يا عداس! لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه! «قال : ثم إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي. فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم اللّه تبارك وتعالى ، وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص اللّه خبرهم عليه - صلى اللّه عليه وسلم - قال اللّه عز وجل :
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» إلى قوله : «وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ». وقال تبارك وتعالى :
«قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ» إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة».
وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن إسحاق هذه فقال : «هذا صحيح. ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي اللّه عنهما - المذكور. وخروجه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى الطائف كان بعد موت عمه. وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره. واللّه أعلم».
( يتبع ) |
|
|
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:29 PM |
https://mrkzgulfup.com/uploads/157113501723263.gif
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من الطائف ، مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف ، وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه ، فإنه ليكون عجيبا حقا من هذا الجانب. أن يصرف اللّه إليه ذلك النفر من الجن ، وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم ، وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه ..
وأيا كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم. عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه. وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين .. فلنمض مع هذا كله كما يعرضه القرآن الكريم.
«قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً. وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» ..
والنفر ما بين الثلاثة والتسعة كالرهط. وقيل كانوا سبعة.
وهذا الافتتاح يدل على أن معرفة النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بأمر استماع الجن له ، وما كان منهم بعد أن سمعوا القرآن منه .. كانت بوحي من اللّه سبحانه إليه ، وإخبارا عن أمر وقع ولم يعلم به الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - ولكن اللّه أطلعه عليه. وقد تكون هذه هي المرة الأولى ، ثم كانت هناك مرة أو مرات أخرى قرأ النبي فيها على الجن عن علم وقصد. ويشهد بهذا ما جاء بشأن قراءته - صلى اللّه عليه وسلم - سورة الرحمن «أخرجه الترمذي بإسناده - عن جابر رضي اللّه عنه قال : «خرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها ، فسكتوا. فقال : «لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن ردودا منكم. كنت كلما أتيت على قوله تعالى : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟» قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد» .. وهذه الرواية تؤيد رواية ابن مسعود - رضي اللّه عنه التي سبقت الإشارة إليها في المقدمة.
ولا بد أن هذه المرة التي تحكيها هذه السورة هي التي تحكيها آيات الأحقاف : «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ. فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا : أَنْصِتُوا. فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا : يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
فإن هذه الآيات - كالسورة - تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن مفاجأة أطارت تماسكهم ، وزلزلت قلوبهم ، وهزت مشاعرهم ، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض ، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعا ، ولا تملك عليه صبرا ، قبل أن تفيضه على الآخرين
في هذا الأسلوب المتدفق ، النابض بالحرارة والانفعال ، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان ، وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه ، وتخلخل تماسكه ، وتدفعه دفعا إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع ، وفي جد كذلك واحتفال! «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» ..
فأول ما بدههم منه أنه «عجب» غير مألوف ، وأنه يثير الدهش في القلوب ، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح ، ومشاعر مرهفة ، وذوق ذواق .. عجب! ذو سلطان متسلط ، وذو جاذبية غلابة ، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب .. عجب! فعلا. يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون!
«يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» ..
وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن ، والتي أحسها النفر من الجن ، حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم .. وكلمة الرشد في ذاتها ذات دلالة واسعة المدى. فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب. ولكن كلمة الرشد تلقي ظلا آخر وراء هذا كله. ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب.
ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات ، فهو ينشئ حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب.
والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية ، وإدراك ومعرفة ، واتصال بمصدر النور والهدى ، واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى. كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها.
هذا المنهج الذي لم تبلغ البشرية في تاريخها كله ، في ظل حضارة من الحضارات ، أو نظام من الأنظمة ، ما بلغته في ظله أفرادا وجماعات ، قلوبا ومجتمعات ، أخلاقا فردية ومعاملات اجتماعية .. على السواء.
«فَآمَنَّا بِهِ» ..
وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن ، وإدراك طبيعته ، والتأثر بحقيقته .. يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون. وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجن ، فيقولون : كاهن أو شاعر أو مجنون .. وكلها صفات للجن فيها تأثير. وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن مسحورين متأثرين أشد التأثر ، منفعلين أشد الانفعال ، لا يملكون أنفسهم من الهزة التي ترج كيانهم رجا .. ثم يعرفون الحق ، فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان : «فَآمَنَّا بِهِ» غير منكرين لما مس نفوسهم منه ولا معاندين ، كما كان المشركون يفعلون! «وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» ..
فهو الإيمان الخالص الصريح الصحيح. غير مشوب بشرك ، ولا ملتبس بوهم ، ولا ممتزج بخرافة ، الإيمان الذي ينبعث من إدراك حقيقة القرآن ، والحقيقة التي يدعو إليها القرآن ، حقيقة التوحيد للّه بلا شريك.
«وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ، مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
والجد : الحظ والنصيب. وهو القدر والمقام. وهو العظمة والسلطان .. وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام. والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء اللّه - سبحانه - وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة - أي زوجة - وولدا بنين أو بنات! وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات اللّه ، جاءته من صهر مع الجن! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح للّه وتنزيه ، واستنكاف من هذا التصور أن يكون! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين! وكل تصور يشبه هذه التصورات ، ممن زعموا أن للّه ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير! «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ..
( يتبع )
|
|
|
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:29 PM |
https://mrkzgulfup.com/uploads/157113501723263.gif
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
وهذه مراجعة من الجن لما كانوا يسمعون من سفهائهم من الشرك باللّه ، وادعاء الصاحبة والولد والشريك ، بعد ما تبين لهم من سماع القرآن أنه لم يكن حقا ولا صوابا ، وأن قائليه إذن سفهاء فيهم خرق وجهل وهم يعللون تصديقهم لهؤلاء السفهاء من قبل بأنهم كانوا لا يتصورون أن أحدا يمكن أن يكذب على اللّه من الإنس أو الجن. فهم يستعظمون ويستهولون أن يجرؤ أحد على الكذب على اللّه. فلما قال لهم سفهاؤهم : إن للّه صاحبة وولدا ، وإن له شريكا صدقوهم ، لأنهم لم يتصوروا أنهم يكذبون على اللّه أبدا .. وهذا الشعور من هؤلاء النفر بنكارة الكذب على اللّه ، هو الذي أهلهم للإيمان. فهو دلالة على أن قلوبهم نظيفة مستقيمة إنما جاءها الضلال من الغرارة والبراءة! فلما مسها الحق انتفضت ، وأدركت ، وتذوقت وعرفت. وكان منهم هذا الهتاف المدوي : «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً. وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
وهذه الانتفاضة من مس الحق ، جديرة بأن تنبه قلوبا كثيرة مخدوعة في كبراء قريش ، وزعمهم أن للّه شركاء أو صاحبة وولدا. وأن تثير في هذه القلوب الحذر واليقظة ، والبحث عن الحقيقة فيما يقوله محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وما يقوله كبراء قريش ، وأن تزلزل الثقة العمياء في مقالات السفهاء من الكبراء! وقد كان هذا كله مقصودا بذكر هذه الحقيقة. وكان جولة من المعركة الطويلة بين القرآن وبين قريش العصية المعاندة وحلقة من حلقات العلاج البطيء لعقابيل الجاهلية وتصوراتها في تلك القلوب. التي كان الكثير منها غرا بريئا ، ولكنه مضلل مقود بالوهم والخرافة وأضاليل المضللين من القادة الجاهليين! «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» ..
تابع
وهذه إشارة من الجن إلى ما كان متعارفا في الجاهلية - وما يزال متعارفا إلى اليوم في بيئات كثيرة - من أن للجن سلطانا على الأرض وعلى الناس ، وأن لهم قدرة على النفع والضر ، وأنهم محكمون في مناطق من الأرض أو البحر أو الجو .. إلى آخر هذه التصورات. مما كان يقتضي القوم إذا باتوا في فلاة أو مكان موحش ، أن يستعيذوا بسيد الوادي من سفهاء قومه ، ثم يبيتون بعد ذلك آمنين! والشيطان مسلط على قلوب بني آدم - إلا من اعتصم باللّه فهو في نجوة منه - وأما من يركن إليه فهو لا ينفعه. فهو له عدو. إنما يرهقه ويؤذيه .. وهؤلاء النفر من الجن يحكون ما كان يحدث : «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. ولعل هذا الرهق هو الضلال والقلق والحيرة التي تنوش قلوب من يركنون إلى عدوهم ، ولا يعتصمون باللّه منه ويستعيذون! كما هم مأمورون منذ أبيهم آدم وما كان بينه وبين إبليس من العداء القديم! والقلب البشري حين يلجأ إلى غير اللّه ، طمعا في نفع ، أو دفعا لضر ، لا يناله إلا القلق والحيرة ، وقلة الاستقرار والطمأنينة ... وهذا هو الرهق في أسوأ صوره .. الرهق الذي لا يشعر معه القلب بأمن ولا راحة! إن كل شي ء - سوى اللّه - وكل أحد ، متقلب غير ثابت ، ذاهب غير دائم ، فإذا تعلق به قلب بقي يتأرجح ويتقلب ويتوقع ويتوجس وعاد يغير اتجاهه كلما ذهب هذا الذي عقد به رجاءه. واللّه وحده هو الباقي الذي لا يزول. الحي الذي لا يموت. الدائم الذي لا يتغير. فمن اتجه إليه اتجه إلى المستقر الثابت الذي لا يزول ولا يحول :
«وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» ..
يتحدثون إلى قومهم ، عن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن ، يقولون :
إنهم كانوا يظنون - كما أنكم تظنون - أن اللّه لن يبعث رسولا. ولكن ها هو ذا قد بعث رسولا ، بهذا القرآن الذي يهدي إلى الرشد .. أو أنهم ظنوا أنه لن يكون هناك بعث ولا حساب - كما ظننتم - فلم يعملوا للآخرة شيئا ، وكذبوا ما وعدهم الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - من أمرها ، لأنهم كانوا لا يعتقدون من قبل فيها.
وكلا الظنين لا ينطبق على الحقيقة ، وفيه جهل وقلة إدراك لحكمة اللّه في خلق البشر. فقد خلقهم باستعداد مزدوج للخير والشر والهدى والضلال (كما نعرف من هذه السورة أن للجن هذه الطبيعة المزدوجة كذلك إلا من تمحض منهم للشر كإبليس ، وطرد من رحمة اللّه بمعصيته الفاجرة ، وانتهى إلى الشر الخالص بلا ازدواج) ومن ثم اقتضت رحمة اللّه أن يعين أولئك البشر بالرسل ، يستجيشون في نفوسهم عنصر الخير ، ويستنقذون ما في فطرتهم من استعداد للهدى. فلا مجال للاعتقاد بأنه لن يبعث إليهم أحدا.
هذا إذا كان المعنى هو بعث الرسل. فأما بعث الآخرة فهو ضرورة كذلك لهذه النشأة التي لا تستكمل حسابها في الحياة الدنيا ، لحكمة أرادها اللّه ، وتتعلق بتنسيق للوجود يعلمه ولا نعلمه فجعل البعث في الآخرة لتستوفي الخلائق حسابها ، وتنتهي إلى ما تؤهلها له سيرتها الأولى في الحياة الدنيا. فلا مجال للظن بأنه لن يبعث أحدا من الناس. فهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة اللّه وكماله. سبحانه وتعالى ..
وهؤلاء النفر من الجن يصححون لقومهم ظنهم ، والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم.
ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون ، وفي أرجاء الوجود ، وفي أحوال السماء والأرض ، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة اللّه بهذه الرسالة ، ومن كل ادعاء بمعرفة الغيب ، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر :
« وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً. وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا؟» ..
وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم ، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة - ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام - كانوا يحاولون الاتصال بالملأ الأعلى ، واستراق شيء مما يدور فيه ، بين الملائكة ، عن شؤون الخلائق في الأرض ، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة اللّه وقدره.
ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين ، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين ، وخلو الأرض من رسول .. أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا ، ولا ضرورة لتقصيها. إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها.
وهذا النفر من الجن يقول : إن استراق السمع لم يعد ممكنا ، وإنهم حين حاولوه الآن - وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء - وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد ، يرجمهم بالشهب ، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر : «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. فهذا الغيب موكول لعلم اللّه لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر اللّه لعباده في الأرض : قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال ، أم قدر لهم الرشد - وهو الهداية - وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير ، وعاقبتها هي الخير.
( يتبع )
|
|
|
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:30 PM |
https://mrkzgulfup.com/uploads/157113501723263.gif
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب ، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا ، فقد انقطع كل قول ، وبطل كل زعم ، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب للّه ، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته ، ولا على التنبؤ به. وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير! أما أين يقف ذلك الحرس؟ ومن هو؟ وكيف يرجم الشياطين بالشهب؟ فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا ، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا ولو علم اللّه أن في تفصيله خيرا لنا لفعل. وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا! ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب ، وأنها تسير وفق نظام كوني ، قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره ، بنظريات تخطئ وتصيب. وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا ، ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها. وأن تنطلق هذه الشهب رجوما وغير رجوم وفق مشيئة اللّه الذي يجري عليها القانون! فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ اللّه للذكر من الالتباس بأي باطل وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره .. فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم ، أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن. ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل .. ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة. والشياطين تمثيلا لقوة الشر والمعصية. والرجوم تمثيلا للحفظ والصيانة ... إلخ لأن في مقرراتهم السابقة - قبل أن يواجهوا القرآن - أن هذه المسميات : الملائكة والشياطين أو الجن ، لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو ، وأن تكون لها هذه التحركات الحسية ، والتأثيرات الواقعية!!! من أين جاءوا بهذا؟ من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث؟
إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره ، وفي التصور الإسلامي وتكوينه .. أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرراته كلها حسما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود. ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن.
ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله. وما عدا المثبت والمنفي في القرآن ، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته ..
نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن .. وهم مع ذلك يؤولون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في
عقولهم ، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود «1» ..
فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها ، فهم مضحكون حقا! فالعلم لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه ، والتي يستخدمها في تجاربه. وهذا لا ينفي وجودها طبعا! فضلا على أن العلماء الحقيقيين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين ، أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون! لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريقة العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم مما كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه! فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليست عليه سمة الادعاء ، ولا طابع التطاول على المجهول ، كما يتطاول مدعو العلم ومدعو التفكير العلمي ، ممن ينكرون حقائق الديانات ، وحقائق المجهول! إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالأرواح ، حاشد بالقوى. وهذه السورة من القرآن - كغيرها - تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعج من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا وذواتنا. وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة ، وبين الادعاء والتطاول. ومصدره هو القرآن والسنة. وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر وكل قول وكل تفسير ..
إن هنالك مجالا للعقل البشري معينا في ارتياد آفاق المجهول : والإسلام يدفعه إلى هذا دفعا .. ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده ، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده. وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه ، ولا حكمة في إعانته عليه. لأنه ليس من شأنه ، ولا داخلا في حدود اختصاصه.
والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله ، قد تكفل اللّه سبحانه ببيانه له ، لأنه أكبر من طاقته. وبالقدر الذي يدخل في طاقته. ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير ..
فأما الذين اهتدوا بهدى اللّه ، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه اللّه لهم في كتبه وعلى لسان رسله. وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق ، وحكمته في الخلق ، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح. وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم. واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها ، على هدى من اللّه ، متجهين إليه ، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع.
وأما الذين لم يهتدوا بهدى اللّه فانقسموا فرقتين كبيرتين :
فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى ، والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة. وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته ، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته ، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء! وكانت لهم تصورات مضحكة - وهم كبار فلاسفة - مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن. مضحكة بعثراتها. ومضحكة بمفارقاتها. ومضحكة بتخلخلها. ومضحكة بقزامتها بالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها .. لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار ، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير. ولا فلاسفة العصر الحديث! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود
فهذه فرقة. فأما الفرقة الأخرى ، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة. فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي. ضاربة صفحا عن المجهول. ، الذي ليس إليه من سبيل. وغير مهتدية فيه بهدى اللّه. لأنها لا تستطيع أن تدرك اللّه! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح ، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع «مجهول الكنه» ويكاد يكون مجهول القانون! وبقي الإسلام ثابتا على صخرة اليقين. يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير. ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض. ويهيئ لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن. ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول! بعد ذلك أخذ الجن يصفون حالهم وموقفهم من هدى اللّه بما نفهم منه أن لهم طبيعة مزدوجة كطبيعة الإنسان في الاستعداد للهدى والضلال.
( يتبع )
|
|
|
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:30 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
ويحدثنا هذا النفر عن عقيدتهم في ربهم وقد آمنوا به. وعن ظنهم بعاقبة من يهتدي ومن يضل :
«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ ، كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً. وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً. وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ : فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» ..
وهذا التقرير من الجن بأن منهم صالحين وغير صالحين ، مسلمين وقاسطين ، يفيد ازدواج طبيعة الجن ، واستعدادهم للخير والشر كالإنسان - إلا من تمحض للشر منهم وهو إبليس وقبيله - وهو تقرير ذو أهمية بالغة في تصحيح تصورنا العام عن هذا الخلق. فأغلبنا حتى الدارسين الفاقهين - على اعتقاد أن الجن يمثلون الشر ، وقد خلصت طبيعتهم له. وأن الإنسان وحده بين الخلائق هو ذو الطبيعة المزدوجة. وهذا ناشئ من مقررات سابقة في تصوراتنا عن حقائق هذا الوجود كما أسلفنا. وقد آن أن نراجعها على مقررات القرآن الصحيحة! وهذا النفر من الجن يقول : «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ» .. ويصف حالهم بصفة عامة : «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» .. أي لكل منا طريقته المنفصلة المقدودة المنقطعة عن طريقة الفريق الآخر.
ثم بين النفر معتقدهم الخاص بعد إيمانهم :
«وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» ..
فهم يعرفون قدرة اللّه عليهم في الأرض ، ويعرفون عجزهم عن الهرب من سلطانه - سبحانه - والإفلات من قبضته ، والفكاك من قدره. فلا هم يعجزون اللّه وهم في الأرض ، ولا هم يعجزونه بالهرب منها. وهو ضعف العبد أمام الرب ، وضعف المخلوق أمام الخالق. والشعور بسلطان اللّه القاهر الغالب.
وهؤلاء الجن هم الذين يعوذ بهم رجال من الإنس! وهم الذين يستعين بهم الإنس في الحوائج! وهم الذين جعل المشركون بين اللّه - سبحانه - وبينهم نسبا! وهؤلاء هم يعترفون بعجزهم وقدرة اللّه. وضعفهم وقوة اللّه ، وانكسارهم وقهر اللّه ، فيصححون ، لا لقومهم فحسب بل للمشركين كذلك ، حقيقة القوة الواحدة الغالبة على هذا الكون ومن فيه.
ثم يصفون حالهم عند ما سمعوا الهدى ، وقد قرروه من قبل ، ولكنهم يكررونه هنا بمناسبة الحديث عن فرقهم وطوائفهم تجاه الإيمان :
«وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ» ..
كما ينبغي لكل من يسمع الهدى. وهم سمعوا القرآن. ولكنهم يسمونه هدى كما هي حقيقته ونتيجته.
ثم يقررون ثقتهم في ربهم ، وهي ثقة المؤمن في مولاه :
«فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً» ..
وهي ثقة المطمئن إلى عدل اللّه ، وإلى قدرته ، ثم إلى طبيعة الإيمان وحقيقته .. فاللّه - سبحانه - عادل.
ولن يبخس المؤمن حقه ، ولن يرهقه بما فوق طاقته. واللّه - سبحانه - قادر. فسيحمي عبده المؤمن من البخس وهو نقص الاستحقاق إطلاقا ، ومن الرهق وهو الجهد والمشقة فوق الطاقة. ومن ذا الذي يملك أن يبخس المؤمن أو يرهقه وهو في حماية اللّه ورعايته؟ ولقد يقع للمؤمن حرمان من بعض أعراض هذه الحياة الدنيا ولكن هذا ليس هو البخس ، فالعوض عما يحرمه منها يمنع عنه البخس. وقد يصيبه الأذى من قوى الأرض لكن هذا ليس هو الرهق ، لأن ربه يدركه بطاقة تحتمل الألم وتفيد منه وتكبر به! وصلته بربه تهوّن عليه المشقة فتمحضها لخيره في الدنيا والآخرة.
المؤمن إذن في أمان نفسي من البخس ومن الرهق : «فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً» .. وهذا الأمان يولد الطمأنينة والراحة طوال فترة العافية ، فلا يعيش في قلق وتوجس. حتى إذا كانت الضراء لم يهلع ولم يجزع ، ولم تغلق على نفسه المنافذ .. إنما يعد الضراء ابتلاء من ربه يصبر له فيؤجر. ويرجو فرج اللّه منها فيؤجر. وهو في الحالين لم يخف بخسا ولا رهقا. ولم يكابد بخسا ولا رهقا.
وصدق النفر المؤمن من الجن في تصوير هذه الحقيقة المنيرة.
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:31 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
ثم يقررون تصورهم لحقيقة الهدى والضلال ، والجزاء على الهدى والضلال :
«وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» ..
والقاسطون : الجائرون المجانبون للعدل والصلاح. وقد جعلهم هذا النفر من الجن فريقا يقابل المسلمين.
وفي هذا إيماءة لطيفة بليغة المدلول. فالمسلم عادل مصلح ، يقابله القاسط : الجائر المفسد ..
«فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» .. والتعبير بلفظ «تَحَرَّوْا» يوحي بأن الاهتداء إلى الإسلام معناه الدقة في طلب الرشد والاهتداء - ضد الغي والضلال - ومعناه تحري الصواب واختياره عن معرفة وقصد بعد تبين ووضوح. وليس هو خبط عشواء ولا انسياقا بغير إدراك. ومعناه أنهم وصلوا فعلا إلى الصواب حين اختاروا الإسلام .. وهو معنى دقيق وجميل ..
<<أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً»
أي تقرر أمرهم وانتهى إلى أن يكونوا حطبا لجهنم ، تتلظى بهم وتزداد اشتعالا ، كما تتلظى النار بالحطب ..
ودل هذا على أن الجن يعذبون بالنار. ومفهومه أنهم كذلك ينعمون بالجنة .. هكذا يوحي النص القرآني.
وهو الذي نستمد منه تصورنا. فليس لقائل بعد هذا أن يقول شيئا يستند فيه إلى تصور غير قرآني ، عن طبيعة الجن وطبيعة النار أو طبيعة الجنة .. فسيكون ما قاله اللّه حقا بلا جدال! وما ينطبق على الجن مما بينوه لقومهم ، ينطبق على الإنس وقد قاله لهم الوحي بلسان نبيهم ..
وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل اللّه مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه ، وذكرها بفحواها لا بألفاظها :
«وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» ..
يقول اللّه - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا : ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة ، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماء موفورا نغدقه عليهم ، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء ..
«لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» .. ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون.
وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة ، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى اللّه سبحانه. ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني ، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها.
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق ، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن ، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها.
والحقيقة الأولى : هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى اللّه ، وبين إغداق الرخاء وأسبابه وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة ، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية ..
وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف ، حتى استقاموا على الطريقة ، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء ، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف ، حتى يفيئوا إلى الطريقة ، فيتحقق فيهم وعد اللّه.
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة اللّه ، ثم تنال الوفر والغنى ، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها ، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء. وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته (كما سبق بيانه في سورة نوح) ..
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية : هي أن الرخاء ابتلاء من اللّه للعباد وفتنة. ونبلوكم بالشر والخير فتنة. والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى .. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة ومن ذكر للّه والتجاء إليه واستعانة به ، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي ، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس ، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان! إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة .. نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر ، مع السرف أو مع البخل ، وكلاهما آفة للنفس والحياة ... ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور ، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس ، والتهجم على حرمات اللّه .. ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية .. ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين .. وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر اللّه فعصمه اللّه ..
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:31 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
والحقيقة الثالثة أن الإعراض عن ذكر اللّه ، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء ، مؤد إلى عذاب اللّه.
والنص يذكر صفة للعذاب «يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» .. توحي بالمشقة مذكان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع : «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ «1»». وجاء في موضع : «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً . وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء! والآية الثالثة في السياق يجوز أن تكون حكاية لقول الجن ، ويجوز أن تكون من كلام اللّه ابتداء :
«وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» ..
وهي في الحالتين توحي بأن السجود - أو مواضع السجود وهي المساجد - لا تكون إلا للّه ، فهناك يكون التوحيد الخالص ، ويتوارى كل ظل لكل أحد ، ولكل قيمة ، ولكل اعتبار. وينفرد الجو ويتمحض للعبودية الخالصة للّه. ودعاء غير اللّه قد يكون بعبادة غيره وقد يكون بالالتجاء إلى سواه وقد يكون باستحضار القلب لأحد غير اللّه.
فإن كانت الآية من مقولات الجن فهي توكيد لما سبق من قولهم : «وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» في موضع خاص ، وهو موضع العبادة والسجود. وإن كانت من قول اللّه ابتداء ، فهي توجيه بمناسبة مقالة الجن وتوحيدهم لربهم ، يجيء في موضعه على طريقة القرآن.
وكذلك الآية التالية :
«وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» ..
أي متجمعين متكتلين عليه ، حين قام يصلي ويدعو ربه. والصلاة معناها في الأصل الدعاء.
فإذا كانت من مقولات الجن ، فهي حكاية منهم عن مشركي العرب ، الذين كانوا يتجمعون فئات حول رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وهو يصلي أو وهو يتلو القرآن كما قال في «سورة المعارج» : «فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ؟» .. يتسمعون في دهش ولا يستجيبون. أو وهم يتجمعون
لإيقاع الأذى به ، ثم يعصمه اللّه منهم كما وقع ذلك مرارا .. ويكون قول الجن هذا لقومهم للتعجيب من أمر هؤلاء المشركين! وإذا كانت من إخبار اللّه ابتداء ، فقد تكون حكاية عن حال هذا النفر من الجن ، حين سمعوا القرآن .. العجب .. فأخذوا ودهشوا ، وتكأكأوا على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بعضهم لصق بعض ، كما تكون لبدة الصوف المنسوق شعرها ، بعضه لصق بعض! .. ولعل هذا هو الأقرب لمدلول الآية لاتساقه مع العجب والدهشة والارتياع والوهلة البادية في مقالة الجن كلها! واللّه أعلم ..
وعند ما تنتهي حكاية مقالة الجن عن هذا القرآن ، وعن هذا الأمر ، الذي فاجأ نفوسهم ، وهز مشاعرهم وأطلعهم على انشغال السماء والأرض والملائكة والكواكب بهذا الأمر وعلى ما أحدثه من آثار في نسق الكون كله وعلى الجد الذي يتضمنه ، والنواميس التي تصاحبه.
عند ما ينتهي هذا كله يتوجه الخطاب إلى الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - في إيقاعات جادة صارمة حاسمة ، بالتبليغ ، والتجرد من هذا الأمر كله بعد التبليغ ، والتجرد كذلك من كل دعوى في الغيب أو في حظوظ الناس ومقادرهم .. وذلك كله في جو عليه مسحة من الحزن والشجى تناسب ما فيه من جد ومن صرامة :
« قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً. قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً. قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
قل يا محمد للناس : «إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» .. وهذا الإعلان يجيء بعد إعلان الجن لقومهم :
«وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .. فيكون له طعمه وله إيقاعه. فهي كلمة الإنس والجن ، يتعارفان عليها. فمن شذ عنها كالمشركين فهو يشذ عن العالمين.
«قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» .. يؤمر الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - أن يتجرد ، ويؤمر أن ينفض يديه من كل ادعاء لشيء هو من خصائص اللّه الواحد الذي يعبده ولا يشرك به أحدا. فهو وحده الذي يملك الضر ويملك الخير. ويجعل مقابل الضر الرشد ، وهو الهداية ، كما جاء التعبير في مقالة الجن من قبل : «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. فيتطابق القولان في اتجاههما وفي ألفاظهما تقريبا ، وهو تطابق مقصود في القصة والتعقيب عليها ، كما يكثر هذا في الأسلوب القرآني
وبهذا وذلك يتجرد الجن - وهو موضع الشبهة في المقدرة على النفع والضر - ويتجرد النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وتتفرد الذات الإلهية بهذا الأمر. ويستقيم التصور الإيماني على هذا التجرد الكامل الصريح الواضح.
«قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ ...» ..
وهذه هي القولة الرهيبة ، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر .. أمر الرسالة والدعوة .. والرسول - صلى اللّه عليه وسلم - يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة .. إني لن يجيرني من اللّه أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية ، إلا أن أبلغ هذا الأمر ، وأؤدي هذه الأمانة ، فهذا هو الملجأ الوحيد ، - وهذه هي الإجارة المأمونة.
إن الأمر ليس أمري ، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ ، ولا مفر لي من هذا التبليغ. فأنا مطلوب به من اللّه ولن يجيرني منه أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني ، إلا أن أبلغ وأؤدي! يا للرهبة! ويا للروعة! ويا للجد! إنها ليست تطوعا يتقدم به صاحب الدعوة. إنما هو التكليف. التكليف الصارم الجازم ، الذي لا مفر من أدائه. فاللّه من ورائه! وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس. إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه! وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد .. إنها تكليف وواجب. وراءه الهول ، ووراءه الجد ، ووراءه الكبير المتعال! «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً».
فهو التهديد الظاهر والملفوف لمن يبلغه هذا الأمر ثم يعصي. بعد التلويح بالجد الصارم في التكليف بذلك البلاغ. وإذا كان المشركون يركنون إلى قوة وإلى عدد ، ويقيسون قوتهم إلى قوة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - والمؤمنين القلائل معه ، فسيعلمون حين يرون ما يوعدون - إما في الدنيا وإما في الآخرة - «مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» .. وأي الفريقين هو الضعيف المخذول القليل الهزيل! ونعود إلى مقالة الجن فنجدهم يقولون : «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» فنجد التعقيب على القصة يتناسق معها. ونجد القصة تمهد للتعقيب فيجيء في أوانه وموعده المطلوب! ثم يؤمر الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - أن يتجرد وينفض يديه من أمر الغيب أيضا :
«قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً» ..
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:32 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
إن الدعوة ليست من أمره ، وليس له فيها شي ء ، إلا أن يبلغها قياما بالتكليف ، والتجاء بنفسه إلى منطقة الأمان - الذي لا يبلغه إلا أن يبلغ ويؤدي. وإن ما يوعدونه على العصيان والتكذيب هو كذلك من أمر اللّه ، وليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعدا. فما يدري أقريب هو أم بعيد يجعل له اللّه أمدا ممتدا. سواء عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. فكله غيب في علم اللّه وليس للنبي من أمره شي ء ، ولا حتى علم موعده متى يكون! واللّه - سبحانه - هو المختص بالغيب دون العالمين :
«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» ..
ويقف النبي - صلى اللّه عليه وسلم - متجردا من كل صفة إلا صفة العبودية. فهو عبد اللّه. وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته .. ويتجرد التصور الإسلامي من كل شبهة ومن كل غبش. والنبي - صلى اللّه عليه وسلم - يؤمر أن يبلغ فيبلغ : «قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» ..
هناك فقط استثناء واحد .. وهو ما يأذن به اللّه من الغيب ، فيطلع عليه رسله ، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس. فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيبا من غيبه ، يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر ، ويرعاهم وهم يبلغونه ، ويراقبهم كذلك .. ويؤمر الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - أن يعلن هذا في صورة جادة رهيبة :
«إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
فالرسل الذين يرتضيهم اللّه لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه ، وطريقته ، والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ .. إلى آخر ما يتعلق بموضوع رسالتهم مما كان في ضمير الغيب لا يعلمه أحد منهم.
وفي الوقت ذاته يحيط هؤلاء الرسل بالأرصاد والحراس من الحفظة ، للحفظ وللرقابة. يحمونهم من وسوسة الشيطان ونزغه ، ومن وسوسة النفس وتمنيتها ، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة ، ومن النسيان أو الانحراف.
ومن سائر ما يعترض البشر من النقص والضعف .. والتعبير الرهيب - «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» .. يصور الرقابة الدائمة الكاملة للرسول ، وهو يؤدي هذا الأمر العظيم .. «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» .. واللّه يعلم. ولكن المقصود هو أن يقع منهم البلاغ فيتعلق به علمه في عالم الواقع.
«وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ» .. فما من شيء في نفوسهم وفي حياتهم ومن حولهم ، إلا وهو في قبضة العلم لا يند منه شيء ..
« وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» .. لا يقتصر على ما لدى الرسل بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدا ، وهو أدق الإحاطة والعلم! وتصور هذه الحال. والرسول محوط بالحراس والأرصاد. وعلم اللّه على كل ما لديه. وكل ما حوله.
وهو يتلقى التكليف جنديا لا يملك إلا أن يؤدي. ويمضي في طريقه ليس متروكا لنفسه ، ولا متروكا لضعفه ، ولا متروكا لهواه ، ولا متروكا لما يحبه ويرضاه. إنما هو الجد الصارم والرقابة الدقيقة. وهو يعلم هذا ويستقيم في طريقه لا يتلفت هنا أو هناك. فهو يعلم ماذا حوله من الحرس والرصد ، ويعلم ما هو مسلط عليه من علم وكشف! إنه موقف يثير العطف على موقف الرسول ، كما يثير الرهبة حول هذا الشأن الخطير.
وبهذا الإيقاع الهائل الرهيب تختم السورة ، التي بدأت بالروعة والرجفة والانبهار بادية في مقالة الجن الطويلة المفصلة ، الحافلة بآثار البهر والرجفة والارتياع! وتقرر السورة التي لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، هذا الحشد من الحقائق الأساسية التي تدخل في تكوين عقيدة المسلم ، وفي إنشاء تصوره الواضح المتزن المستقيم ، الذي لا يغلو ولا يفرط ، ولا يغلق على نفسه نوافذ المعرفة ، ولا يجري - مع هذا - خلف الأساطير والأوهام! وصدق النفر الذي آمن حين سمع القرآن ، وهو يقول : «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ» ..
قال محمد الغزالي:
سورة الجن:
في سورة الجن إشارات إلى طبيعة العقيدة عند النصارى، وكيف جعلوا المسيح ابنا لله وإلها معه! لقد انتشرت هذه القالة في أقطار الأرض، وولدت عليها أجيال، حتى جاء القرآن فنفاها بشدة مؤكدا أن الله واحد ليس له أولاد..! وكانت العقيدة النصرانية قد بلغت الجن فاعتنقوها، ثم عرفوا في تطوافهم بالأرض ما يناقضها {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا}. وشرع الجن يفصلون ما تابوا عنه وعرفوا خطأه. إنه ما يسوغ أن تكون لله صاحبة ولا أن ينسل منها ابنا {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا}. وذكروا أن الذي بلغهم ذلك موغل في الوهم {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا}. ثم اعتذروا عن غفلتهم في قبول هذه الشائعة بأنهم ما تصوروا أن يكذب أحد على الله {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا}! ولكن رجالا من الإنس استمعوا إلى هذا اللغو ونشروه في الأرض وضللوا به جماهير غفيرة {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا}. وقد حسب الجميع أن أبواب السماء غلقت فلن ينزل ملك يوحى، ولن يحمل بشر رسالة أخرى تعود بالإيمان إلى أصله الصحيح، وتؤكد ما بلغه المرسلون الأولون من وحدانية الله وسيطرته المطلقة على الملكوت كله. لكن الله بعث نبيه الخاتم من العرب فطوفت رسالته بالمشارق والمغارب، معلنة أن الله لا ولد له ولا والد. إن هذه الرسالة كانت مفاجأة للمخطئين {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا}. والواقع أن الخطأ إذا سلحته الدولة بعنفوانها، وأقامت له أبراجا تدرسه وتحميه، ترك ظلاله في النفوس واستقرت أوضاعه قرونا. وقد نشر الاستعمار الرومانى عقيدة التثليث، واستطاع بالرغبة والرهبة أن يوطئ لها الأكناف. ولولا أن محمدا درع الحق الذي بعث به وفداه بالنفس والمال. لجعله الرومان في خبر كان.
ومن أين كان يعلم الجن أن الله واحد لا ولد له ولا والد. لولا الدعاة الذين حملوا الكتاب هنا وهناك، وقرعوا به الآذان؟ لقد شعرت الجن أن تغيرا ما يحدث في الكون، وأن الوحى النازل يحيط به حرس شديد حتى لا ينقص منه شيء {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا}. والغريب أن الحراسة التي صاحبت نزول القرآن من السماء لم تتركه وهو يسير في الأرض، فتحولت حفظا صانه حرفا حرفا ونغمة نغمة. وقد آمن الجن بالإسلام عن تصديق واقتناع {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا}. ويظهر أن أعدادا من الجن رفضت الانقياد للحق وعالنت بتمردها عليه! وليس في ذلك ما يدهش، أليس ذلك صنيع بنى آدم؟ {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}.
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:32 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة الجن
محاور ومقاصد السورة
وقد سألنى أحد الناس: أتعرف أحدا من الجن؟ فعرفت غرضه، وقلت: ما رأيت منهم أحدا. فقال: كيف تصدق بما لم تره؟ فقلت: ليس كل موجود يرى. إن الجراثيم لضالتها لا ترى، والكواكب لبعدها لا ترى، والقرآن يقرر ذلك عن الجن عندما يقول: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}. ويستحيل أن الكون الذي تقاس أبعاده بالسنين الضوئية لا يكون به إلا البشر. وقد قلت في كتاب لى: إن الذي يبنى قصرا من ألف طابق، لا يسكن الطابق الأرضى وحده ويدع الباقى تصفر فيه الرياح، فلم خلقه؟ إننى أومن بالله الذي خلق الإنس والجن والملائكة {وما يعلم جنود ربك إلا هو}. وتقرر السورة هنا حقيقة جديرة بالتأمل. إن معرفة الله لا تكفى، لابد من أداء حقوقه على السراء والضراء. إن بعض الناس ينتمون إلى الله ويتمتعون بنعمته، ولكنهم يشغلون بها عنه ويحيون لأنفسهم وحدها. وقد رأيت جماهير من هذا الصنف. بل إن انتشار الكفر في الأرض يعود لمسالك أقوام عليهم الوحى، فلم يتجردوا له ويقوموا بحقه! في هؤلاء يقول الله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}.. ومن الإعراض المذموم أن تنشغل بما آتاك الله عما يجب عليك نحوه. وخواتيم هذه السورة تشهد لصاحب الرسالة بالبلاغ والتجرد {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا}. في الدنيا الآن نفر من رجال الدين يزعمون أنهم يملكون المغفرة للمخطئين، وأن مفاتيح دار الخلد بأيديهم!! وهذه المزاعم هي الثمرة الوحيدة للجهل بالله وسوء العلاقة معه، أما محمد خاتم النبيين فله شأن آخر {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا}. إنه عبد لله الواحد، يجاهد الشرك والخرافة وينطلق بعقيدة التوحيد ليملأ بها أرجاء العالم، وقد قسم أتباعه الليل والنهار فلا تمر برهة على خطوط الطول والعرض إلا وصائح في الشرق والغرب يهتف: الله أكبر الله أكبر... لا إله إلا الله.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
قال الزيلعي:
سورة الجن ذكر فِيها سِتّة أحادِيث:
الحديث الأول:
فِي حديث عمر «كان الرجل منا إِذا قرأ الْبقرة وآل عمران جد فِينا» ورُوِي «فِي أعيينا».
قلت غرِيب من حديث عمر وقد تقدم فِي أوائِل الْبقرة من حديث انس رواهُ احْمد.
الحديث الثّانِي:
روى الزُّهْرِيّ عن علّي بن الْحُسيْن عن ابْن عبّاس رضِي اللّهُ عنْهم قال «بيْنما رسُول الله صلى الله عليه وسلم جالس فِي نفر من الْأنْصار إِذْ رمي بِنجْم فاسْتنار فقال ما كُنْتُم تقولون فِي مثل هذا قالوا كُنّا نقول يمُوت عظِيم أو يُولد عظِيم».
قلت رواهُ مُسلم فِي صحِيحه فِي كتاب الطِّبّ من حديث الْأوْزاعِيّ عن الزُّهْرِيّ عن علّي بن الْحُسيْن عن ابْن عبّاس اخبرني رجل من الْأنْصار قال «بيْنما هم جُلُوس ليْلة مع النّبِي صلى الله عليه وسلم إِذْ رمي بِنجْم فاسْتنار فقال ما كُنْتُم تقولون فِي مثل هذا فِي الْجاهِلِيّة إِذا رأيْتُمُوهُ قالوا كُنّا نقول يمُوت عظِيم أو يُولد عظِيم فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم فإِنّهُ لا يُرْمى بِهِ لموْت اُحْدُ ولا لِحياتِهِ ولكِن ربنا تعالى إِذا قضى أمرا تسبح حملة الْعرْش ثمّ يسبح أهل السّماء الّذين يلُونهُمْ ثمّ الّذين يلُونهُمْ ثمّ الّذين يلُونهُمْ حتّى يبلغ التّسْبِيح إِلى هذِه السّماء ثمّ سأل أهل السّماء السّادِسة أهل السّابِعة ماذا قال ربكُم قال فيُخْبِرُونهُمْ ثمّ تسْتجِيب أهل كل سماء حتّى يبلغ الْخبر أهل السّماء الدُّنْيا ويُتخطّف الشّياطِين السّمع فيقْذِفُونهُ إِلى أوْلِيائِهِمْ فما جاءُوا بِهِ على وجهه فهُو حق ولكنهُمْ يحرفُون ويزِيدُون».
ورواهُ التِّرْمِذِيّ فِي كِتابه فِي تفْسِير سُورة سبأ من حديث معمر عن الزُّهْرِيّ عن علّي بن الْحُسيْن عن ابْن عبّاس قال بيْنما رسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فِيهِ اخبرني رجال من الْأنْصار وقال فِيهِ حسن صحِيح انتهى.
ورواهُ جماعة كما رواهُ مُسلم وآخرُون كما رواهُ التِّرْمِذِيّ.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
قوله:
قال عمر رضِي اللّهُ عنْه «ما تصعّدنِي شيْء ما تصعّدتْنِي خطْبة النِّكاح».
قلت رواهُ أبُو عبيد الْقاسِم بن سلام وإِبْراهِيم الْحرْبِيّ فِي غريبيهما من حديث حمّاد بن سلمة عن هِشام بن عُرْوة عن أبِيه عن عمر أنه قال «ما تصعّدنِي شيْء...» إِلى آخِره قال أبُو عبيد ومعْناهُ أي ما شقّ علّي وكل شيْء فعلته بِمشقّة فقد تصعدك قال تعالى كأنّما يصعد فِي السّماء قال وأرى أن أصل هذا من الصعُود وهِي الْعقبة الْمُنكرة قال تعالى: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} انْتهى كلامه.
الحديث الثّالِث:
قال النّبِي صلى الله عليه وسلم «الْمُؤمن من أمنه النّاس على أنفسهم وأمْوالهمْ».
قلت رُوِي من حديث أبي هُريْرة ومن حديث فضالة بن عبيد ومن حديث انس ومن حديث أبي مالك الْأشْعرِيّ ومن حديث واثِلة بن الْأسْقع ومن حديث عبد الله بن عمْرو بن الْعاصِ.
أما حديث أبي هُريْرة فرواهُ التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الْإِيمان من حديث الْقعْقاع عن أبي صالح عن أبي هُريْرة قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم «الْمُسلم من سلم الْمُسلمُون من لِسانه ويده والْمُؤمن من أمنه النّاس على دِمائِهِمْ وأمْوالهمْ» انْتهى وقال حديث حسن صحِيح انتهى.
ورواهُ ابْن حبان فِي صحِيحه فِي النّوْع التّاسِع والْأرْبعِين من الْقسم الثّالِث والْحاكِم فِي مُسْتدْركه فِي كتاب الْإِيمان وفِي لفظ لهُ «على أنفسهم وأمْوالهمْ» وقال لم يخرجاهُ بِهذِهِ الزِّيادة وهِي صحِيحة على شرط مُسلم.
وأما حديث فضالة بن عبيد فرواهُ ابْن ماجة فِي سننه فِي كتاب الْفِتن من حديث عمْرو بن مالك الْجنبي عن فضالة بن عبيد أن النّبِي صلى الله عليه وسلم قال «الْمُؤمن من أمنه النّاس على أنفسهم وأمْوالهمْ والْمُهاجِر من هجر الْخطايا والذنُوب» انْتهى.
ورواهُ ابْن حبان فِي صحِيحه فِي النّوْع السّادِس والسِّتِّين من الْقسم الثّالِث والْحاكِم فِي الْمُسْتدْرك وقال صحِيح على شرط مُسلم ولم يخرجاهُ.
وأما حديث انس فرواهُ ابْن حبان فِي صحِيحه فِي النّوْع الأول من الْقسم الأول من حديث حمّاد بن سلمة عن يُونُس بن عبيد وحميد عن أنس مرفوعا من لفظ التِّرْمِذِيّ.
ورواهُ الْحاكِم فِي الْمُسْتدْرك أيْضا وقال إِنّه صحِيح على شرط مُسلم ولم يخرجاهُ.
وأما حديث أبي مالك الْأشْعرِيّ فرواهُ الطّبرانِيّ فِي مُعْجمه حدثنا هاشم ابْن مرْثد ثنا مُحمّد بن إِسْماعِيل بن عيّاش حدثنِي أبي ثنا ضمْضم بن زرْعة عن شُريْح بن عبيد عن أبي مالك الْأشْعرِيّ «أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال فِي حجّة الْوداع أليْس هذا الْيوْم الْحرام قالوا بلى يا رسُول الله قال فإِن حُرْمة ما بيْنكُم إِلى يوْم الْقِيامة كحُرْمةِ هذا الْيوْم وأُحدِّثكُمْ عن الْمُسلم الْمُسلم من سلم الْمُسلمُون من لِسانه ويده وأُحدِّثكُمْ من الْمُؤمن الْمُؤمن من أمنه النّاس على أنفسهم وأمْوالهمْ وأُحدِّثكُمْ من المُهاجر المُهاجر من هجر السّيِّئات».
حدثنا الْعبّاس بن الْفضل الْأسْفاطِي ثنا إِسْماعِيل بن أبي أويس ثني إِسْماعِيل ابْن عبد الله بن خالِد بن سعيد بن أبي مرْيم عن جده سمِعت أبا مالك.. فذكره.
وأما حديث واثِلة بن الْأسْقع فرواهُ الطّبرانِيّ فِي مُعْجمه أيْضا ثنا جعْفر ابْن احْمد بن سِنان الواسِطِيّ ثنا أحْمد بن الْمِقْدام أبُو الْأشْعث ثنا عبْثر بن الْقاسِم ثنا الْعلاء بن ثعْلبة عن أبي الْمليح الْهُذلِيّ عن واثِلة بن الْأسْقع قال «رأيْت النّبِي صلى الله عليه وسلم بِمسْجِد الْخيف فقلت لهُ يا رسُول الله أفْتِنا فِي أمر نأْخُذهُ عنْك من بعْدك قال تدع ما يريبك إِلى ما لا يريبك وإِن أفْتاك الْمفْتُون قلت وكيف لي بذلك قال تضع يدك على فُؤادك فإِن الْقلب يسكن للْحلال ولا يسكن لِلْحرامِ وإِن الْمُسلم الْورع يدع الصّغِير مخافة أن يقع فِي الْكبِير قلت يا رسُول الله فما الْمعْصِية قال الّذِي يعين قومه على الظُّلم قلت فمن الْحرِيص قال الّذِي يطْلب الْكسْب من غير حل قلت فمن الْورع قال الّذِي يقف عِنْد الشُّبْهة قلت فمن الْمُؤمن قال من أمنه النّاس على أمْوالهم ودِمائِهِمْ قلت فمن الْمُسلم قال من سلم النّاس من لِسانه ويده قلت فأي الْجِهاد أفضل قال كلمة حق عِنْد إِمام جائِر» انتهى.
ورواهُ أبُو يعْلى الْموصِلِي فِي مُسْنده حدثنا أبُو الْأشْعث احْمد بن الْمِقْدام بِهِ.
وأما حديث ابْن الْعاصِ فرواهُ عبد بن حميد فِي مُسْنده حدثنا عبد الله بن يزِيد الْمُقرئ ثنا عبد الرّحْمن بن زِياد بن أنعم الإفْرِيقِي عن عبد الله بن يزِيد عن عبد الله ابْن عمْرو بن الْعاصِ «أن رجلا قال يا رسُول الله من الْمُسلم قال من سلم الْمُسلمُون من يده ولسانه قال فمن الْمُؤمن قال من أمنه النّاس على أنفسهم وأمْوالهمْ قال فمن المُهاجر قال من هجر السّيِّئات قال فمن الْمُجاهِد قال من جاهد نفسه لله عز وجل» انْتهى.
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:33 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة الجن
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
الحديث الرّابِع:
قال النّبِي صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أسجد على سبْعة آراب وهِي الْجبْهة والْأنف والْيدانِ والرُّكْبتانِ والْقدمانِ».
قلت لم يروه بِهذا اللّفْظ فِيما وجدته إِلّا الْبزّار فِي مُسْنده من حديث الْعبّاس ابْن عبد الْمطلب قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أسجد على سبْعة آراب...» فذكرها إِلّا أنه قال «الْوجْه» عوض «الْجبْهة والْأنف» وهُو أولى لِاسْتِقامةِ الْعدد قال الْبزّار وقد روى هذا الحديث سعد وابْن عبّاس وأبُو هُريْرة وغيرهم لا نعلم أحدا قل الْآراب إِلّا الْعبّاس انتهى.
والْحديث فِي السّنن الْأرْبعة ولفْظهمْ فِيهِ «إِذا سجد العبْد سجد معه سبْعة آراب وجهه وكفاهُ وقدماهُ وركبتاهُ».
وروى أبُو داوُد من حديث ابْن عبّاس قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت» ورُبما قال «أمر نبِيكُم أن يسْجد على سبْعة آراب» انْتهى ولم يذكرها.
وفِي الصّحِيحيْنِ عن ابْن عبّاس مرفوعا «أمرت أن أسجد على سبْعة أعظم» وفِي لفظ «سبْعة أعْضاء» فذكرُوا الْجبْهة دون الْأنف ويحْتمل أن يكون قوله فِي الْكتاب وهِي الْجبْهة... إِلى آخِره من كلام المُصنّف لا من الحديث فلْيتأمّل.
الحديث الْخامِس:
قال النّبِي صلى الله عليه وسلم «بلغُوا عني بلغُوا عني».
قلت غرِيب والّذِي وجدْناهُ فِي الحديث من رِواية عبادة بن الصّامِت عن النّبِي صلى الله عليه وسلم قال «خُذُوا عني خُذُوا عني قد جعل الله لهُنّ سبِيلا الْبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثّيِّب بِالثّيِّبِ جلد مائة والرّجم» انْتهى أخرجه الْجماعة إِلّا البُخارِيّ.
وروى البُخارِيّ فِي صحِيحه من حديث بني إِسْرائِيل من حديث أبي كبْشة عن عبد الله بن عمْرو بن الْعاصِ قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم «بلغُوا عني ولو آية وحدثُوا عن بني إِسْرائِيل ولا حرج ومن كذب علّي مُتعمدا فليتبوّأ مقْعده من النّار» انْتهى ورواهُ مُسلم أيْضا.
الحديث السّادِس:
عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سُورة الْجِنّ كان لهُ بِعدد كل جن صدق بِمُحمد وكذب بِهِ عتق رقبة».
قلت رواهُ الثّعْلبِيّ فِي تفْسِيره من حديث نوح بن أبي مرْيم عن علّي بن زيد عن زر بن حُبيْش عن أبي بن كعْب مرفوعا... فذكره.
ورواهُ ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره بِسندِهِ الثّانِي فِي آل عمران، ورواهُ الواحدي فِي الْوسِيط بِسندِهِ فِي يُونُس.
فضل السّورة:
عن أُبي: «منْ قرأها أُعطِى بعدد كلّ جِنّ وشيطان صدّق بمحمّد وكذّب به، عِتق رقبة».
وعن علي: «يا علي منْ قرأها لا يخرج من الدّنيا حتى يرى مكانه من الجنّة، وله بكل آية قرأها ثوابُ الزاهدين».
( يتبع – سورة المزمل )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:34 PM |
. . .
. . .
. . .
سورة المزمل
التعريف بالسورة :
مكية .
من المفصل .
آياتها 20 .
ترتيبها الثالثة والسبعون .
نزلت بعد القلم .
بدأت باسلوب النداء " يا أيها المزمل " ، أمرت السورة الرسول بقيام الليل " قُمْ الليلَ إلا قَلِيلا " .
سبب التسمية :
سُميت بهذا الاسم لأن محورها دار حول الرسول وما كان عليه من حالة ، فوصفه الله وناداه بحالته التي كان عليها . " المزمل " المغشي بثوبه .
.قال ابن عاشور:
ليس لهذه السورة إلاّ اسمُ (سورة المزمل) عُرفت بالإِضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها، فيجوز أن يراد به حكاية اللفظ، ويجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحال الذي نُودي به في قوله تعالى: {يا أيها المزمل} (المزمل: 1).
سبب نزول السورة
يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وللدعوة التي جاءهم بها. فبلغ ذلك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فاغتم له والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما. فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا .. الآية » وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...» إلى آخر السورة. تأخر عاما كاملا. حين قام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وطائفة من الذين معه ، حتى ورمت أقدامهم ، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا
محاور ومقاصد السورة
تتناول لسورة جانبا من حياة الرسول الأعظم في تبتله وطاعته وقيام الليل وتلاوته لكتاب الله ، ومحور السورة يدور حول الرسول ولهذا سميت سورة المزمل .
قال ابن عطية: هي في قول الجمهور مكية إلاّ قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثُلثي الليل} (المزمل: 20) إلى نهاية السورة فذلك مدني. وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي.
وقال في (الإِتقان): إن استثناء قوله: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس اهـ.
يعني وذلك كله بمكة، أي فتكون السورة كلها مكية فتعيّن أن قوله: {قم اللّيل} (المزمل: 2) أُمِر به في مكة.
والروايات تظاهرت على أن قوله: {إن ربك يعلم أنّك تقوم} إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها، فقالت عائشة: نزل بعد صدر السورة بسنة، ومثله روى الطبري عن ابن عباس، وقال الجمهور: نزل صدر السورة بمكة ونزل {إن ربك يعلم} إلى آخرها بالمدينة، أي بعد نزول أولها بسنين.
فالظاهر أن الأصح أن نزول {إن ربك يعلم} إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى: {وءاخرون يقاتلون في سبيل الله} (المزمل: 20) إنْ لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة.
روى الطبري عن سعيد بن جبير قال: لما أنزل الله على نبيئه صلى الله عليه وسلم {يا أيها المزمل} (المزمل: 1) مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين {إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى {وأقيموا الصلاة} (المزمل: 2). اهـ، أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير.
والروايات عن عائشة مضطربة فبعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب (الإِتقان). وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة، وبعض الروايات يقول فيها: إنها كانت تفرِش لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فاجتمعوا فخرج مغضبا وخشي أن يُكتب عليهم قيام الليل ونزل {يا أيها المزمل قم الليل إلاّ قليلا} (المزمل: 1، 2) فكُتبت عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم، فأنزل {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} إلى {فتاب عليكم} (المزمل: 20)، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة. وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يْبنِ بعائشة إلاّ في المدينة، ولأن قولها: (فخرج مغضبا) يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده، ويُؤيِّده أخبار تثبت قيام الليل في مسجده.
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:34 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة المزمل
محاور ومقاصد السورة
ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الروايات بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه.
ونسب القرطبي إلى (تفسير الثعلبي) قال: قال النخعي في قوله تعالى: {يا أيها المزمل} كان النبي متزملا بقطيفة عائشة، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي وهو يصلي اه، وإنما بنى النبي بعائشة في المدينة، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محالة كما سنبينه عند قوله تعالى: {إِنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا} (المزمل: 5)، وأن قوله: {إن ربك يعلم أنك تقوم..} إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السّورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل.
وأنه ناسخ لوجوب قيام الليل على النبي وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب.
وحكى القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: إن آيتين وهما واصبر على ما يقولون إلى قوله: {ومهلهم قليلا} (المزمل: 10، 11) نزلتا بالمدينة.
واختلف في عدِّ هذه السورة في ترتيب نزول السور، والأصح الذي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة: أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق، فقيل سورة ن والقلم، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة. وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من (صحيح البخاري) وسيأتي عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل}.
والأصح أن سبب نزول يا أيها المزمل ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل} الآية.
وعدة آيها في عدّ أهل المدينة ثمان عشرة آية، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عدّ من عداهم عشرون.
قال البقاعي:
سورة المزمل مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال، وتخفف الأحمال الثقال، ولاسيما الوقوف بين يدي الملك المتعال، والتجرد يفي خدمته يفي ظلمات الليال، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال، ومحو ظلل الضلال، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال، لما يرد من الكدورات في دار الزوال، والقلعة والارتحال، واسمها المزمل أدل ما فيها على هذا المقال.
و.معظم مقصود السّورة خطاب الانبساط مع سيّد المرسلين، والأمرُ بقيام اللّيل، وبيان حُجّة التّوحيد، والأمر بالصّبر على جفاءِ الكفّار، وتهديدُ الكافر بعذاب النار، وتشبيه رسالة المصطفى برسالة موسى، والتخويف بتهويل القيامة، والتسهيل والمسامحة في قيام اللّيل، والحثّ على الصدقة والإِحسان، والأمر بالاستغفار من الذّنوب والعصيان، في قوله: {واسْتغْفِرُواْ اللّه إِنّ اللّه غفُورٌ رّحِيمٌ}.
قال سيد قطب
يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وللدعوة التي جاءهم بها. فبلغ ذلك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فاغتم له والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما. فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا .. إلخ» وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...» إلى آخر السورة. تأخر عاما كاملا. حين قام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وطائفة من الذين معه ، حتى ورمت أقدامهم ، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا.
وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك - كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء اللّه.
وخلاصتها أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - كان يتحنث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهر ويتعبد - وكان تحنثه - عليه الصلاة والسلام - شهرا من كل سنة - هو شهر رمضان - يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريبا منه. فيقيم فيه هذا الشهر ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة ..
وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره - صلى اللّه عليه وسلم - لهذه العزلة طرفا من تدبير اللّه له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم.
ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة ويفرغ لموحيات الكون ، ودلائل الإبداع وتسبح روحه مع روح الوجود وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى .. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الأرض ، وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر ، ويدر به على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس ، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع! وهكذا دبر اللّه لمحمد - صلى اللّه عليه وسلم - وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ .. دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات. ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عند ما يأذن اللّه.
فلما أن أذن ، وشاء - سبحانه - أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض ، جاء جبريل عليه
السلام إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وهو في غار حراء .. وكان ما قصه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - من أمره معه فيما رواه ابن إسحق عن وهب بن كيسان ، عن عبيد ، قال :
«فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ. قال : قلت : ما أقرأ (و في الروايات :
ما أنا بقارئ) قال : فغتني به (أي ضغطني) حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال : اقرأ. قلت : ما أقرأ.
قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال : اقرأ. قلت : ما أقرأ : قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال : اقرأ. قال : قلت : ماذا أقرأ؟ قال : ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. قال : فقرأتها. ثم انتهى فانصرف عني. وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا. قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول :
يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبريل. قال : فرفعت رأسي إلى السماء أنظر. فإذا جبريل في صورة رجل ، صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبريل. قال : فوقفت أنظر إليه. فما أتقدم وما أتأخر. وجعلت أحول وجهي عنه في آفاق السماء. قال : فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك. ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها (أي ملتصقا بها مائلا إليها) فقالت : يا أبا القاسم أين كنت؟ فو اللّه لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : «أبشر يا بن عم واثبت. فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة».
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:35 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة المزمل
محاور ومقاصد السورة
فتر الوحي مدة عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثى وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرجف ، يقول : «زملوني. دثروني» ..
ففعلوا. وظل يرتجف مما به من الروع. وإذا جبريل يناديه : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» .. (و قيل : يا أيها المدثر) واللّه أعلم أيتهما كانت.
وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة. أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها ، فقد علم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفا ثقيلا ، وجهادا طويلا ، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! وقيل لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - «قم» .. فقام. وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما! لم يسترح. ولم يسكن. ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائما على دعوة اللّه. يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض. عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها ، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها ، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها .. حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر .. بل معارك متلاحقة .. مع أعداء دعوة اللّه المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها ، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء ، وتظلل مساحات أخرى .. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعدّ لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية
في أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت. فهي معركة خالدة ، الشيطان صاحبها وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني .. ومحمد - صلى اللّه عليه وسلم - قائم على دعوة اللّه هناك. وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة. في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه.
وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة. وفي نصب دائم لا ينقطع .. وفي صبر جميل على هذا كله. وفي قيام الليل. وفي عبادة لربه ، وترتيل لقرآنه وتبتل إليه ، كما أمره أن يفعل وهو يناديه : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا. وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا».
وهكذا قام محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما.
لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد. منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب ..
جزاه اللّه عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء ..
وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد. ويكاد يكون على روي واحد. هو اللام المطلقة الممدودة. وهو إيقاع رخي وقور جليل يتمشى مع جلال التكليف ، وجدية الأمر ، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق .. هول القول الثقيل الذي أسلفنا ، وهول التهديد المروّع : «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً ، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» .. وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس : «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» .. «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا»
فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - وطائفة من الذين معه. واللّه يعدّه ويعدّهم بهذا القيام لما يعدّهم له! فنزل التخفيف ، ومعه التطمين بأنه اختيار اللّه لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم ..
أما هذه الآية فذات نسق خاص. فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة ، وفيها هدوء واستقرار ، وقافية تناسب هذا الاستقرار : وهي الميم وقبلها مد الياء : «غَفُورٌ رَحِيمٌ».
والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة. تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم.
وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل ، والصلاة ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على اللّه وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة! ..
وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير. والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة اللّه ومغفرته : «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار من البشرية - البشرية الضالة ، ليردها إلى ربها ، ويصبر على أذاها ، ويجاهد في ضمائرها وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري ، ولذاذة تلهي ، وراحة ينعم بها الخليون. ونوم يلتذه الفارغون! والآن نستعرض السورة في نصها القرآني الجميل.
«يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» ..
«يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ .. قُمِ ..» .. إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال .. قم .. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة ..
قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد ..
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:35 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة المزمل
محاور ومقاصد السورة
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه - صلى اللّه عليه وسلم - من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا. فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير .. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - حقيقة الأمر وقدّره ، فقال لخديجة - رضي اللّه عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام : «مضى عهد النوم يا خديجة»! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق! «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» ..
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة .. قيام الليل. أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه. وأقله ثلث الليل .. قيامه للصلاة وترتيل القرآن. وهو مد الصوت به وتجويده. بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم.
وقد صح عن وتر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة. ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا ، يرتل فيه القرآن ترتيلا.
روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام .. أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ؟ قال : نعم. قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك ... ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قالت : ألست تقرأ القرآن؟ قلت : بلى. قالت : فإن خلق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - كان القرآن. فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قالت : ألست تقرأ هذه السورة : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ»؟ قلت : بلى. قالت :
فإن اللّه افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك اللّه ختامها في السماء اثني عشر شهرا. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة .. فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه اللّه كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر اللّه وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا. ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ، فتلك تسع يا بني. وكان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة. ولا أعلم نبي اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان ...» «1»
وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله اللّه عليه ..
«إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» ..
هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف .. والقرآن في مبناه ليس ثقيلا فهو ميسر للذكر. ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل في أثره في القلب : «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» فأنزله اللّه على قلب أثبت من الجبل يتلقاه ..
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها والاتصال باللّه ، وتلقي فيضه ونوره ، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي .. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل ، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل ، ويعصمه من وسوسة الشيطان ، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير.
«إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» ..
« ناشِئَةَ اللَّيْلِ» هي ما ينشأ منه بعد العشاء والآية تقول : «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً» : أي أجهد للبدن ، «وَأَقْوَمُ قِيلًا» : أي أثبت في الخير (كما قال مجاهد) فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش ، بعد كد النهار ، أشد وطأ وأجهد للبدن ولكنها إعلان لسيطرة الروح ، واستجابة لدعوة اللّه ، وإيثار للأنس به ، ومن ثم فإنها أقوم قيلا ، لأن للذكر فيها حلاوته ، وللصلاة فيها خشوعها ، وللمناجاة فيها شفافيتها. وإنها لتسكب في القلب أنسا وراحة وشفافية ونورا ، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره .. واللّه الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره ، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه ، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحا واستعدادا وتهيؤا ، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيرا فيه.
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:36 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة المزمل
محاور ومقاصد السورة
إن اللّه - سبحانه - وهو يعد عبده ورسوله محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - ليتلقى القول الثقيل ، وينهض بالعبء الجسيم ، اختار له قيام الليل ، لأن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا. ولأن له في النهار مشاغله ونشاطه الذي يستغرق كثيرا من الطاقة والالتفات :
«إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا» ..
فلينقض النهار في هذا السبح والنشاط ، وليخلص لربه في الليل ، يقوم له بالصلاة والذكر :
«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» ..
وذكر اسم اللّه ، ليس هو مجرد ترديد هذا الاسم الكريم باللسان ، على عدة المسبحة المئوية أو الألفية! إنما هو ذكر القلب الحاضر مع اللسان الذاكر أو هو الصلاة ذاتها وقراءة القرآن فيها. والتبتل هو الانقطاع الكلي عما عدا اللّه ، والاتجاه الكلي إليه بالعبادة والذكر ، والخلوص من كل شاغل ومن كل خاطر ، والحضور مع اللّه بكامل الحس والمشاعر.
ولما ذكر التبتل وهو الانقطاع عما عدا اللّه ، ذكر بعده ما يفيد أنه ليس هناك إلا اللّه ، يتجه إليه من يريد الاتجاه :
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» ..
فهو رب كل متجه .. رب المشرق والمغرب .. وهو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو. فالانقطاع إليه هو الانقطاع للحقيقة الوحيدة في هذا الوجود والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود.
والاتكال على اللّه وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته ، وهيمنته على المشرق والمغرب ، أي على الكون كله .. والرسول الذي ينادى : قم .. لينهض بعبئه الثقيل ، في حاجة ابتداء للتبتل للّه والاعتماد عليه دون سواه.
فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل
ثم وجه اللّه الرسول إلى الصبر الجميل على ما يلقاه من قومه من الاتهام والإعراض والصد والتعطيل. وأن يخلي بينه وبين المكذبين! ويمهلهم قليلا. فإن لدى اللّه لهم عذابا وتنكيلا :
«وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً. يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا .. إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا. فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» ..
وإذا صحت الرواية الأولى عن نزول مطلع هذه السورة في بدء البعثة ، فإن هذا الشوط الثاني منها يكون قد نزل متأخرا بعد الجهر بالدعوة ، وظهور المكذبين والمتطاولين ، وشدتهم على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وعلى المؤمنين. فأما إذا صحت الرواية الثانية فإن شطر السورة الأول كله يكون قد نزل بمناسبة ما نال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - من أذى المشركين وصدهم عن الدعوة
وعلى أية حال فإننا نجد التوجيه إلى الصبر ، بعد التوجيه إلى القيام والذكر ، وهما كثيرا ما يقترنان في صدد تزويد القلب بزاد هذه الدعوة في طريقها الشاق الطويل ، سواء طريقها في مسارب الضمير أو طريقها في جهاد المناوئين ، وكلاهما شاق عسير .. نجد التوجيه إلى الصبر. «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» .. مما يغيظ ويحنق ، «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» .. لا عتاب معه ولا غضب ، ولا هجر فيه ولا مشادة. وكانت هذه هي خطة الدعوة في مكة - وبخاصة في أوائلها .. كانت مجرد خطاب للقلوب والضمائر ، ومجرد بلاغ هادئ ومجرد بيان منير.
والهجر الجميل مع التطاول والتكذيب ، يحتاج إلى الصبر بعد الذكر. والصبر هو الوصية من اللّه لكل رسول من رسله ، مرة ومرة ومرة ولعباده المؤمنين برسله. وما يمكن أن يقوم على هذه الدعوة أحد إلا والصبر زاده وعتاده ، والصبر جنته وسلاحه ، والصبر ملجؤه وملاذه. فهي جهاد .. جهاد مع النفس وشهواتها وانحرافاتها وضعفها وشرودها وعجلتها وقنوطها .. وجهاد مع أعداء الدعوة ووسائلهم وتدبيرهم وكيدهم وأذاهم. ومع النفوس عامة وهي تتفصى من تكاليف هذه الدعوة ، وتتفلت ، وتتخفى في أزياء كثيرة وهي تخالف عنها ولا تستقيم عليها. والداعية لا زاد له إلا الصبر أمام هذا كله ، والذكر وهو قرين الصبر في كل موضع تقريبا! اصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا .. وخل بيني وبين المكذبين ، فأنا بهم كفيل : «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» .. كلمة يقولها الجبار القهار القوي المتين .. «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ» .. والمكذبون بشر من البشر ، والذي يتهددهم هو الذي أنشأهم ابتداء وخلق هذا الكون العريض «بكن» ولا تزيد! ذرني والمكذبين .. فهي دعوتي. وما عليك إلا البلاغ. ودعهم يكذبون واهجرهم هجرا جميلا. وسأتولى أنا حربهم ، فاسترح أنت من التفكير في شأن المكذبين! إنها القاصمة المزلزلة المذهلة حين يخلو الجبار ، إلى هذه الخلائق الهينة المضعوفة .. «أُولِي النَّعْمَةِ» مهما يكن من جبروتهم في الأرض على أمثالهم من المخاليق! «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» ولو مهلهم الحياة الدنيا كلها ما كانت إلا قليلا. وإن هي إلا يوم أو بعض يوم في حساب اللّه. وفي حسابهم هم أنفسهم حين تطوى ، بل إنهم ليحسونها في يوم القيامة ساعة من نهار! فهي قليل أيا كان الأمد ، ولو مضوا من هذه الحياة ناجين من أخذ الجبار المنتقم الذي يمهل قليلا ويأخذ تنكيلا :
«إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» ..
والأنكال - هي القيود - والجحيم والطعام ذو الغصة الذي يمزق الحلوق والعذاب الأليم .. كلها جزاء مناسب «لأولي النعمة»! الذين لم يرعوا النعمة ، ولم يشكروا المنعم ، فاصبر يا محمد عليهم صبرا جميلا وخل بيني وبينهم. ودعهم فإن عندنا قيودا تنكل بهم وتؤذيهم ، وجحيما تجحمهم وتصليهم. وطعاما تلازمه الغصة في الحلق ، وعذابا أليما في يوم مخيف ..
( يتبع )
|
. . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:36 PM |
تابع – سورة المزمل
محاور ومقاصد السورة
ثم يرسم مشهد هذا اليوم المخيف :
«يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» ..
فها هي ذي صورة للهول تتجاوز الناس إلى الأرض في أكبر مجاليها. فترجف وتخاف وتتفتت وتنهار.
فكيف بالناس المهازيل الضعاف!
ويلتفت السياق أمام مشهد الهول المفزع ، إلى المكذبين أولي النعمة ، يذكرهم فرعون الجبار ، وكيف أخذه اللّه أخذ عزيز قهار :
«إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا».
هكذا في اختصار يهز قلوبهم ويخلعها خلعا ، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترجف وتنهار.
فذلك أخذ الآخرة وهذا أخذ الدنيا فكيف تنجون بأنفسكم وتقوها هذا الهول الرعيب؟
«فَكَيْفَ تَتَّقُونَ - إِنْ كَفَرْتُمْ - يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ؟» ..
وإن صورة الهول هنا لتنشق لها السماء ، ومن قبل رجفت لها الأرض والجبال. وإنها لتشيب الولدان. وإنه لهول ترتسم صوره في الطبيعة الصامتة ، وفي الإنسانية الحية .. في مشاهد ينقلها السياق القرآني إلى حس المخاطبين كأنها واقعة .. ثم يؤكدها تأكيدا. «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» .. واقعا لا خلف فيه. وهو ما شاء فعل وما أراد كان! وأمام هذا الهول الذي يتمثل في الكون كما يتمثل في النفس يلمس قلوبهم لتتذكر وتختار طريق السلامة ..
طريق اللّه
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» ..
وإن السبيل إلى اللّه لآمن وأيسر ، من السبيل المريب ، إلى هذا الهول العصيب! وبينما تزلزل هذه الآيات قوائم المكذبين ، تنزل على قلب الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - والقلة المؤمنة المستضعفة إذ ذاك بالروح والثقة واليقين. إذ يحسون أن ربهم معهم ، يقتل أعداءهم وينكل بهم. وإن هي إلا مهلة قصيرة ، إلى أجل معلوم. ثم يقضى الأمر ، حينما يجيء الأجل ويأخذ اللّه أعداءه وأعداءهم بالنكال والجحيم والعذاب الأليم.
إن اللّه لا يدع أولياءه لأعدائه. ولو أمهل أعداءه إلى حين ...
والآن يجيء شطر السورة الثاني في آية واحدة طويلة ، نزلت بعد مطلع السورة بعام على أرجح الأقوال :
« إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ، فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى . وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
نها لمسة التخفيف الندية ، تمسح على التعب والنصب والمشقة. ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين.
وقد علم اللّه منه ومنهم خلوصهم له. وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير.
وما كان اللّه يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام. إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة. هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه.
وفي الحديث مودة وتطمين : «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» .. إنه رآك! إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان اللّه .. إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة ، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء اللّه .. إن ربك يعطف عليك ويريد أن يخفف عنك وعن أصحابك .. «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» .. فيطيل من هذا ويقصر من ذاك. فيطول الليل ويقصر. وأنت ومن معك ماضون تقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. وهو يعلم ضعفكم عن الموالاة. وهو لا يريد أن يعنتكم ولا أن يشق عليكم. إنما يريد لكم الزاد وقد تزودتم فخففوا على أنفسكم ، وخذوا الأمر هينا : «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» .. في قيام الليل بلا مشقة ولا عنت .. وهناك - في علم اللّه - أمور تنتظركم تستنفد الجهد والطاقة ، ويشق معها القيام الطويل : «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى » يصعب عليهم هذا القيام «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» .. في طلب الرزق والكد فيه ، وهو ضرورة من ضرورات الحياة. واللّه لا يريد أن تدعوا أمور حياتكم وتنقطعوا لعبادة الشعائر انقطاع الرهبان! «وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. فقد علم اللّه أن سيأذن لكم في الانتصار من ظلمكم بالقتال ، ولإقامة راية للإسلام في الأرض يخشاها البغاة! فخففوا إذن على أنفسكم «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» بلا عسر ولا مشقة ولا إجهاد .. واستقيموا على فرائض الدين : «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» .. وتصدقوا بعد ذلك قرضا للّه يبقى لكم خيره .. «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً» .. واتجهوا إلى اللّه مستغفرين عن تقصيركم. فالإنسان يقصر ويخطئ مهما جد وتحرى الصواب : «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
( يتبع )
|
. . . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:37 PM |
تابع – سورة المزمل
محاور ومقاصد السورة
إنها لمسة الرحمة والود والتيسير والطمأنينة تجيء بعد عام من الدعوة إلى القيام! ولقد خفف اللّه عن المسلمين ، فجعل قيام الليل لهم تطوعا لا فريضة. أما رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقد مضى على نهجه مع ربه ، لا يقل قيامه عن ثلث الليل ، يناجي ربه ، في خلوة من الليل وهدأة ، ويستمد من هذه الحضرة زاد الحياة وزاد الجهاد. على أن قلبه ما كان ينام وإن نامت عيناه. فقد كان قلبه - صلى اللّه عليه وسلم - دائما مشغولا بذكر اللّه ، متبتلا لمولاه. وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا من ربه. على ثقل ما يحمل على عاتقه ، وعلى مشقة ما يعاني من الأعباء الثقال ..
قال ابن عاشور
من أغراض سورة المزمل :
الإِشعار بملاطفة الله تعالى رسوله بندائه بوصفه بصفة تزمله.
واشتملت على الأمر بقيام النبي غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.
وعلى تثبيت النبي بتحمل إبلاغ الوحي.
والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاءِ الصدقات.
وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه.
وأمره بالإِعراض عن تكذيب المشركين.
وتكفُّل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله.
والوعيد لهم بعذاب الآخرة.
ووعظهم مما حلّ بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم.
وذكر يوم القيامة ووصف أهواله.
ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا للأعذار الملازمة.
والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات.
والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبُّره.
وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل.
وفي هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك بتدبرها.
قال الصابوني:
* سورة المزمل مكية، وهي تتناول جانبا من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، في تبتله، وطاعته، وقيامه الليل، وتلاوته لكتاب الله عز وجل، ومحور السورة يدور حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا سميت (سورة المزمل).
* ابتدأت السورة الكريمة بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم، نداء شفيفا لطيفا، ينم عن لطف الله عز وجل، ورحمته بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يجهد نفسه في عبادة الله ابتغاء مرضاته {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا}.
* ثم تناولت السورة موضوع ثقل الوحي الذي كلف الله به رسوله، ليقوم بتبليغه للناس بجد ونشاط، ويستعين على ذلك بالاستعداد الروحي باحياء الليل في العبادة {إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا}.
* وأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين، وهجرهم هجرا جميلا إلى أن ينتقم الله منهم {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا}.
* ثم توعد الله المشركين بالعذاب والنكال يوم القيامة، حيث يكون فيه من الهول والفزع، ما يشيب له رءوس الولدان {إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا.} الآيات.
* ثم تحدثت السورة الكريمة، عن موقف المشركين من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جاءهم بالخير والهدى، فعاندوه وكذبوه، ووقفوا في وجه الدعوة، يريدون إطفاء نور الله، فأنذرهم بالعذاب الشديد، وضرب لهم المثل بفرعون الطاغية الجبار، الذي بعث الله إليه نبيه موسى، فعصاه وكذب برسالته، وما كان من عاقبة أمره في الهلاك والدمار، تحذيرا للكفار من أهل مكة، أن يحل بهم مثل ذلك العذاب {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصي فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا.} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بتخفيف الله عن رسوله وعن المؤمنين من قيام الليل، رحمة به وبهم، ليتفرغ الرسول وأصحابه لبعض شئون الحياة {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك.} إلى قوله: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
( يتبع )
|
. . . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:38 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة المزمل
محاور ومقاصد السورة
قال محمد الغزالي:
في سورة الأنعام آية رسمت الإطار الذي يحدد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. إذا كانت حياة البعض حقا وباطلا وجدا وهزلا وراحة وتعبا، فإن هذا الإنسان الجليل قضى حياته كدحا موصولا وسبحا طويلا. ولم تكن مراحل تعبه استكمالا لأمجاد النبوة في بيئة محدودة، بل كانت تكوين جيل يغير مسار البشر إلى قيام الساعة، ويهيئ للحق منارا لا تطفئه العواصف الهوج! إن السنوات الستين التي قضاها محمد في الدنيا لم تكن لإصلاح عصر معين، بل كانت صونا لعقيدة التوحيد على امتداد الزمان والمكان، وإعدادا للرجال! الذين يحرسونها بعده إلى آخر الدهر. وفى أوائل إلماع إلى هذه الغاية لقد قيل للرسول {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} لقد انتهى زمان النوم المشبع والإستجمام العميق {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}. إنه قول ملئ بالتكاليف الشاقة والجهاد المضنى!! إنه إذا فرغ من قيام الليل استقبل كدح النهار في تبليغ الدعوة ومجاهدة الخصوم، ولا معين له إلا الله. فلينقطع إليه، وليستمد منه، وليتخذه وكيلا، وليصبر على أذاهم، فإن حسابهم المقبل شاق: {إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما}. ومتى يقع هذا؟ {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا}! إن تصور الأرض ترتجف بنجدها ووفدها وبرها وبحرها كما يرتجف العاجز أمام هولى دهمه، تصور يثير الفزع والرهبة، ولكن الناس في خوض يلعبون. إن محمدا عليه الصلاة والسلام كان أخشى الناس لله، وأشدهم إحساسا بقرب لقائه. وكان الجيل الذي حف به يتأسى به ويحيا على غراره. فليس غريبا أن يقوم الليل مثله ويشد أزره في مكافحة الضلال الجاثم على صدر الدنيا، ولكن الله سبحانه رحمة منه بجمهور الأمة استبقى فريضة قيام الليل على نبيه خاصة. واكتفى من المؤمنين بما يقومون به من واجبات أثناء النهار {والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن}. وليس هذا الترك إجازة مفتوحة أو عطلة سائغة. كلا، إنه تقدير لأعمال أخرى {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}. والواقع أن الجهاد الاقتصادى والعسكرى لابد منهما لحراسة الأمة وأدائها لرسالتها. إن أعداء الحق يرقبوننا بجل، فإن وجدوا ثغرة نفذوا منها إلى صميمنا، وهنا الطامة التي تطيح بالحق وأهله.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
قال الزيلعي:
سورة المزمل صلى الله عليه وسلم ذكر فِيها ثمانِية أحادِيث:
الحديث الأول:
عن عائِشة «أنّها سُئِلت ما كان تزميل النّبِي صلى الله عليه وسلم قالت كان مِرْطا طوله أرْبعة عشر ذِراعا نصفه علّي وأنا نائِمة ونصفه عليْهِ وهُو يُصلِّي فسُئِلت ما كان فقالت والله ما كان خزّا ولا قزّا ولا مرْعزِيٌّ ولا إبْريسما ولا صُوفا كان سداه شعرا ولحمته وبرا».
قلت غرِيب ورُوِي الْبيْهقِيّ فِي كتاب الدّعْوات الْكبِير لهُ اُخْبُرْنا أبُو عبد الله الْحافِظ اخبرني أبُو صالح خلف بن مُحمّد أنا صالح بن مُحمّد ثنا مُحمّد بن عباد الْمكِّيّ ثنا حاتِم بن إِسْماعِيل عن نصر بن كثير عن يحْيى بن سعيد عن عُرْوة عن عائِشة قالت «لما كانت ليْلة النّصْف من شعْبان انْسلّ النّبِي صلى الله عليه وسلم من مِرْطِي ثمّ قالت والله ما كان مِرْطِي من حرِير ولا قز ولا كتّان ولا كُرْسُف ولا صوف قُلْنا فمن أي شيْء كان قالت إِن كان سداه لمن شعر وإِن كان لحْمته لمن وبر» مُخْتصر.
ورواهُ ابْن الْجوْزِيّ فِي الْعِلل المتناهية من حديث سُليْمان بن أبي كرِيمة عن هِشام بن عُرْوة عن أبِيه عن عائِشة... فذكره سواء وأعله بِابْن أبي كرِيمة وقال إِن لهُ مناكِير.
الحديث الثّانِي:
رُوِي «أن النّبِي صلى الله عليه وسلم دخل على خدِيجة وقد جاء فرقا أول ما أتاهُ جِبْرِيل وبوادره ترْعد فقال زمِّلُونِي وحسب أنه عرض لهُ فبينا هُو كذلِك إِذْ ناداه جِبْرِيل يأيها المزمل..» قلت غرِيب.
قوله:
قال عمر رضِي اللّهُ عنْه «شرّ السّير الْحقْحقةُ وشر الْقراءة الْهذْرمةُ».
قلت غرِيب وروى ابْن الْمُبارك فِي الزّهْد اُخْبُرْنا معمر عن يحْيى بن الْمُخْتار عن الْحسن قال كان يُقال شرّ السّير الْحقْحقةُ مُخْتصر.
ورفعه ابْن عدي فِي الْكامِل من حديث الْحسن بن دِينار عن الْحسن عن أبي هُريْرة عن النّبِي صلى الله عليه وسلم قال «شرّ السّير الْحقْحقةُ» وضعفه بِابْن دِينار.
وروى الْخطِيب الْبغْدادِيّ فِي أوائِل كِتابه الْجامِع لِآدابِ الرّاوِي والسّماع حدثنا الْحُسيْن بن مُحمّد الْأصم قال قرأت على منْصُور بن جعْفر قال قرأت على أبي مُحمّد بن درسْتويْه قال قرآنا على ابْن قُتيْبة قال عمر بن الْخطاب «شرّ الْقراءة الْهذْرمةُ وشر الْكِتابة الْمشق» يعْنِي التّعْلِيق انتهى.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
الحديث الثّالِث:
«سُئِلت عائِشة رضِي اللّهُ عنْها عن قراءة رسُول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا كسرْدِكُمْ هذا لو أراد السّامع أن يعد حُرُوفه لعدها».
قلت تقدم فِي الْفرْقان.
الحديث الرّابِع:
عن ابْن عبّاس قال «كان النّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا نزل عليْهِ الْوحْي ثقل عليْهِ وتربد لهُ جلده».
قلت غرِيب.
وروى مُسلم فِي صحِيحه فِي الْفضائِل من حديث عبادة بن الصّامِت قال «كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا نزل عليْهِ الْوحْي كرب لذلِك وتربد وجهه» انتهى.
وروى أحْمد فِي مُسْنده من حديث ابْن عبّاس فِي قصّة هِلال بن أُميّة قال «وكان النّبِي صلى الله عليه وسلم إِذْ أنزل عليْهِ الْوحْي عرفُوا ذلِك فِي تربد جلده».
ورواهُ أبُو داوُد الطّيالِسِيّ فِي مُسْنده ثنا عباد بن منْصُور ثنا عِكْرِمة عن ابْن عبّاس وفِيه «كان النّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا نزل عليْهِ الْوحْي تربد لهُ وجهه وجسده».
ومن طرِيق الطّيالِسِيّ رواهُ أبُو نعيم فِي دلائِل النُّبُوّة.
الحديث الْخامِس:
عن عائِشة رضِي اللّهُ عنْها «رأيْته عليه السلام ينزل عليْهِ الْوحْي فِي الْيوْم الشّديد الْبرد فيفْصم عنهُ وإِن جبينه لِيرْفضّ عرقا».
قلت رواهُ البُخارِيّ فِي أول صحِيحه من حديث عُرْوة عنْها قالت «ولقد رأيْته ينزل عليْهِ الْوحْي فِي الْيوْم الشّديد الْبرد فيفْصم عنهُ وإِن جبينه ليتفصد عرقا» مُخْتصر.
وهُو فِي الثّعْلبِيّ لِيرْفضّ.
الحديث السّادِس:
قال صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمّ اشدد وطأتك على مُضر».
قلت رواهُ البُخارِيّ ومُسلم من حديث أبي هُريْرة وقد تقدم فِي الْأنْبِياء.
قوله:
عن أبي الدّرْداء «إِنّا لنكشر فِي وُجُوه قوم ونضْحك إِليْهِم وإِن قُلُوبنا لتقْلِيهِمْ».
قلت رواهُ الْبيْهقِيّ فِي شعب الْإِيمان فِي الْباب السّادِس والْخمسين عن الْحاكِم بِسندِهِ إِلى مسلمة بن سعيد عن أبي الْأحْوص عن أبي الزّاهِرِيّة قال قال أبُو الدّرْداء «إِنّا لنكشر فِي وُجُوه أقوام وإِن قُلُوبنا لتلْعنهُمْ» انتهى.
وروى أبُو نعيم فِي الْحِلْية فِي ترْجمة أبي الدّرْداء ثنا عبد الله بن مُحمّد بن جعْفر ثنا إِبْراهِيم بن مُحمّد بن الْحسن ثنا عبد الْجبّار بن الْعلاء ثنا سُفْيان ثنا خلف بن حوْشب قال قال أبُو الدّرْداء... فذكره بِاللّفْظِ الْمذْكُور.
وبِهذا اللّفْظ ذكره البُخارِيّ فِي صحِيحه تعْلِيقا فِي كتاب الْأدب فقال ويذكر عن أبي الدّرْداء فذكره بِاللّفْظِ الْمذْكُور، ورواهُ علّي بن معبد فِي كتاب الطّاعة والْمعْصِية فِي باب مُخالطة النّاس حدثنا أبُو مُعاوِية عن الْأحْوص بن حكِيم عن أبِيه عن أبي الزّاهِرِيّة قال قال أبُو الدّرْداء «إِنّا لنكشر فِي وُجُوه أقوام وإِن قُلُوبنا لتقْلِيهِمْ» انتهى.
( يتبع )
|
. . . |
. . . |
. . . |
|
مديح ال قطب |
03-14-2021 08:38 PM |
. . .
. . .
. . .
تابع – سورة المزمل
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
الحديث السّابِع:
رُوِي «أن النّبِي صلى الله عليه وسلم قرأ هذِه الْآية {إِنّا لدينا أنْكالا وجحِيما..} الْآية فصعِق».
قلت رواهُ الطّبرِيّ فِي تفْسِيره ثنا أبُو كريب ثنا وكِيع عن حمْزة الزيات عن حمْران بن أعين «أن النّبِي صلى الله عليه وسلم قرأ هذِه الْآية {إِن لدينا أنْكالا وجحِيما وطعاما ذا غُصّة وعذابا ألِيما} فصعِق» انتهى.
ومن طرِيق الطّبرِيّ رواهُ الثّعْلبِيّ، ورواهُ احْمد بن حنْبل فِي كتاب الزّهْد ثنا وكِيع بِهِ سندا ومتنا مُرْسلا، ورواهُ الواحدي فِي تفْسِيره الْوسِيط ثنا أبُو سعد بن أبي بكر الْوراق أنا مُحمّد بن مُحمّد الْحافِظ أنا أبُو الْعبّاس إِبْراهِيم بن مُحمّد الْفرائِضِي أنا طاهِر بن الْفضل بن سعيد الْبغْدادِيّ ثنا وكِيع عن حمْزة الزيات عن حمْران بن أعين عن عبد الله بن عمر «أن النّبِي صلى الله عليه وسلم سمع قارِئا يقرأ {إِن لدينا أنْكالا وجحِيما وطعاما ذا غُصّة..} فصعِق» انتهى ثمّ قال ورواهُ إِسْحاق الْحنْظلِي فِي تفْسِيره عن وكِيع انتهى.
ورواهُ أبُو عبيد الْقاسِم بن سلام فِي كتاب فضائِل القرآن ثنا وكِيع بِهِ بِسند الطّبرِيّ، وأسنده ابْن عدي فِي الْكامِل فقال حدثنا احْمد بن الْحسن الْكرْخِي ثنا الْحسن بن شبيب ثنا أبُو يُوسُف عن حمْزة الزيات عن حمْران بن أعين عن أبي حرْب عن أبي الْأسود «أن النّبِي صلى الله عليه وسلم...» فذكره وأعله بحمران بن أعين وضعفه ابْن معِين ثمّ قال وغير أبي يُوسُف يرويهِ عن حمْزة عن حمْران لم يقل فِيهِ عن أبي الْأسود انتهى.
قوله:
عن ابْن مسْعُود «أيّما رجل جلب شيْئا إِلى مدِينة من مدائِن الْمُسلمين صابِرا محتسبا فباعهُ بِسعْر يوْمه كان عِنْد الله من الشُّهداء».
قلت رواهُ الثّعْلبِيّ فِي تفْسِيره من حديث الْمعافى بن عمران عن فرقد السبخي عن إِبْراهِيم بن مسْعُود... فذكره.
ورواهُ ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره مرفوعا من حديث عِيسى بن يُونُس عن أبي عمْرو بن الْعلاء الْبصْرِيّ عن فرقد السبخي عن إِبْراهِيم عن علْقمة عن عبد الله قال قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره وزاد «ثمّ قرأ {وآخرُون يضْربُون فِي الأرْض يبْتغُون من فضل الله}» انتهى.
الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:
قوله:
عن ابْن عمر «ما خلق الله موتة أمُوتها بعد الْقتْل فِي سبِيل الله أحب إِليّ من أن أمُوت بين شُعْبتيْ رجل أضْرب فِي الأرْض ابْتغِي من فضل الله».
قلت رواهُ الثّعْلبِيّ من حديث الْقاسِم بن عبيد الله عن أبِيه قال سمِعت ابْن عمر يقول... فذكره.
ورواهُ الْبيْهقِيّ فِي شعب الْإِيمان فِي الْباب الثّالِث عشر من طرِيق عبد الرّزّاق أنا معمر عن الزُّهْرِيّ عن عبيد الله بن عبد الله ذكر عمر أو غيره وقال ما خلق الله إِلى آخِره ثمّ قال ورواهُ غيره فقال عن عمر بن الْخطاب لم يشك وزاد ثمّ تلا {وآخرُون يضْربُون فِي الأرْض يبْتغُون من فضل الله} انتهى.
قلت كذلِك رواهُ علّي بن معبد فِي كتاب الطّاعة والْمعْصِية أنا ابْن وهب عن يُونُس عن ابْن شهاب عن نافِع أن عمر بن الْخطاب رضِي اللّهُ عنْه قال «ما خلق الله موته أمُوتها إِلّا أن أمُوت مُجاهدا فِي سبِيل الله أحب إِليّ من أن أمُوت وأنا أضْرب فِي الأرْض على ظهر راحِلتي أبْتغِي من فضل الله عز وجل» انتهى.
الحديث الثّامِن:
عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سُورة المزمل دفع الله عنهُ الْعسرة فِي الدُّنْيا والْآخِرة».
قلت رواهُ الثّعْلبِيّ من حديث المؤمل بن إِسْماعِيل ثنا سُفْيان الثّوْريّ ثنا أسلم الْمُقرئ عن عبد الله بن عبد الرّحْمن بن أبْزى عن أبِيه عن أبي بن كعْب مرفوعا... فذكره، ورواهُ ابْن مرْدويْه فِي تفْسِيره بسنديه فِي آل عمران، ورواهُ الواحدي فِي الْوسِيط بِسندِهِ فِي يُونُس.
فضل السّورة:
حديث أُبي المعلوم ضعفه: «من قرأها دُفع عنه العُسْر في الدنيا والآخرة».
وحديث علي: «يا علي من قرأها أعطاه الله ثواب العلماءِ، وله بكلّ آية قرأها سِتْرٌ من النّار»
( يتبع – سورة المدثر)
|
. . . |
. . . |
. . . |
|
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by
Advanced User Tagging (Lite) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd.
دعم وتطوير نواف كلك غلا