عرض مشاركة واحدة
قديم 01-31-2021, 12:46 PM   #138


مديح ال قطب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1751
 تاريخ التسجيل :  06-03-2020
 أخر زيارة : 08-13-2021 (12:56 PM)
 المشاركات : 34,369 [ + ]
 التقييم :  22241
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Coral
افتراضي




















تابع – سورة الطلاق

محور مواضيع السورة :

يقف الإنسان مدهوشا أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام - حتى ليوجه الخطاب إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - بشخصه ، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين ، زيادة في الاهتمام وإشعارا بخطورة الأمر المتحدث فيه. وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة ، والأمر المشدد في كل حكم بالدقة في مراعاته ، وتقوى اللّه في تنفيذه ، ومراقبة اللّه في تناوله. والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب ، إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله! وهو الدين كله! وهو القضية التي تفصل فيها السماء ، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام! وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارّين بأعنف وأشد ما يلقاه عاص وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير.

ويقرأ القارئ في هذه السورة .. «وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» .. «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» .. «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» .. «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» ..
«ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» .. «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» .. «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً». «ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ» «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» ..
«سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» ..

كما يقرأ ذلك التهديد العنيف الطويل المفصل : «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً ، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً. فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» ..
يعقبه التحذير من مثل هذا المصير ، والتذكير بنعمة اللّه بالرسول وما معه من النور ، والتلويح بالأجر الكبير : «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً : رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً» ..


ثم يقرأ هذا الإيقاع الهائل الضخم في المجال الكوني الكبير : «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» ..

يقرأ هذا كله تعقيبا على أحكام الطلاق. ويجد سورة كاملة في القرآن ، من هذا الطراز ، كلها موقوفة على تنظيم هذه الحالة ومتخلفاتها كذلك! وربطها هكذا بأضخم حقائق الإيمان في المجال الكوني والنفسي.

وهي حالة تهدم لا حالة بناء ، وحالة انتهاء لا حالة إنشاء .. لأسرة .. لا لدولة .. وهي توقع في الحس أنها أضخم من إنشاء دولة! علام يدل هذا؟

إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد.
حتى لو لم تكن هناك دلالة أخرى سوى دلالة هذه السورة! إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي :
فالإسلام نظام أسرة. البيت في اعتباره مثابة وسكن ، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر وفي كنفه تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل.

ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا ، يشع منه التعاطف ، وترف فيه الظلال ، ويشيع فيه الندى ، ويفوح منه العبير : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .. «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» .. فهي صلة النفس بالنفس ، وهي صلة السكن والقرار ، وهي صلة المودة والرحمة ، وهي صلة الستر والتجمل. وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا ، ويستروح من خلالها نداوة وظلا. وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق. ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها ، بما فيها امتداد الحياة بالنسل ، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة ، ويعترف بطهارتها وجديتها ، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها. ذلك حين يقول : «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ». فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار.

ويحيط الإسلام هذه الخلية ، أو هذا المحضن ، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته. وحسب طبيعة الإسلام الكلية ، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية ، بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية .

الذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها ، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات ، وفي الاحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات وفي ربط هذا الشأن باللّه مباشرة في كل موضع ، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها .. يدرك إدراكا كاملا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي ، وقيمة هذا الأمر عند اللّه ، وهو يجمع بين تقواه - سبحانه - وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..

كما يجمع بين عبادة اللّه والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» .. وبين الشكر للّه والشكر للوالدين في سورة لقمان : «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» ..

وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساس الأسرة ، حين جرى قدر اللّه أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه ، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى. وكان اللّه - سبحانه - قادرا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعة واحدة. ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق ، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته ، وحيث تنمي شخصيته وفضائله ، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته.

ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي - منهج اللّه الأخير في الأرض - مع القدر الإلهي في خلقة الإنسان ابتداء. كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن اللّه بلا تفاوت ولا اختلاف.

والدلالة الثانية لسياق السورة ، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله ، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة باللّه واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية - لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية ، وعند أتباع الديانات المحرفة ، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة اللّه التي فطر الناس عليها.


إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ، إنما ينظمها ويطهرها ، ويرفعها عن المستوي الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من التقاء جسدين ، التقاء نفسين وقلبين وروحين. وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذرية المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد ، الذي ينشأ في العش المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان.

ويعد الإسلام الزواج وسيلة للتطهر والارتفاع فيدعو الأمة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عقبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها : «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» .. ويسمي الزواج إحصانا أي وقاية وصيانة. ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاء بدون إحصان ولو فترة قصيرة لا ينال رضى اللّه. فيقول الإمام علي - كرم اللّه وجهه - وقد سارع بالزواج عقب وفاة زوجه فاطمة بنت الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - : «لقد خشيت أن ألقى اللّه وأنا عزب» .. فيدخل الزواج في عرف المؤمن في الطاعات التي يتقرب بها إلى ربه. وترتفع هذه الصلة إلى مكان القداسة في ضميره بما أنها إحدى الطاعات لربه.

والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها ، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوي الكريم ، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها.
ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير. ولا يكتفي بالتوجيه. ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة.

( يتبع )





 

رد مع اقتباس