عرض مشاركة واحدة
قديم 01-31-2021, 01:17 PM   #170


مديح ال قطب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1751
 تاريخ التسجيل :  06-03-2020
 أخر زيارة : 08-13-2021 (12:56 PM)
 المشاركات : 34,369 [ + ]
 التقييم :  22241
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Coral
افتراضي















تابع – سورة القلم

محور مواضيع السورة :

ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم :
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ..
وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصور ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود ، وهي شهادة من اللّه ، في ميزان اللّه ، لعبد اللّه ، يقول له فيها : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ». ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند اللّه مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين! ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - تبرز من نواح شتى :
تبرز من كونها كلمة من اللّه الكبير المتعال ، يسجلها ضمير الكون ، وتثبت في كيانه ، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء اللّه.

وتبرز من جانب آخر ، من جانب إطاقة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - لتلقيها. وهو يعلم من ربه هذا ، قائل هذه الكلمة. ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة ، التي يدرك هو منها مالا يدركه أحد من العالمين.
إن إطاقة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - لتلقي هذه الكلمة ، من هذا المصدر ، وهو ثابت ، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن .. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل.

ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة ، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر. أعظم بصدورها عن العلي الكبير.

وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير ، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا. لا يتكبر على العباد ، ولا ينتفخ ، ولا يتعاظم ، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير! واللّه أعلم حيث يجعل رسالته. وما كان إلا محمد - صلى اللّه عليه وسلم - بعظمة نفسه هذه - من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى. فيكون كفئا لها ، كما يكون صورة حية منها.


إن هذه الرسالة من الكمال والجمال ، والعظمة والشمول ، والصدق والحق ، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه اللّه هذا الثناء. فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء. في تماسك وفي توازن ، وفي طمأنينة.

طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم. ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته ، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة. ويعلن هذه كما يعلن تلك ، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك .. وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم. والعبد الطائع. والمبلغ الأمين.

إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة. وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة. وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر. وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها. وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار! ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لهذه الكلمة من ربه ، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان .. لقد كان - وهو بشر - يثني على أحد أصحابه ، فيهتز كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم. وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر. وأصحابه يدركون أنه بشر.
إنه نبي نعم. ولكن في الدائرة المعلومة الحدود. دائرة البشرية ذات الحدود .. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من اللّه. وهو يعلم من هو اللّه. هو بخاصة يعلم من هو اللّه! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه. ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير ... إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير!!! إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة .. إنه محمد - وحده - هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة اللّه في الكيان الإنساني. إنه محمد - وحده - هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية حتى لتتمثل في شخصه حية ، تمشي على الأرض في إهاب إنسان .. إنه محمد - وحده الذي علم اللّه منه أنه أهل لهذا المقام. واللّه أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم. وأعلن في الأخرى أنه - جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته ، يصلي عليه هو وملائكته «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ».
وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم ..


ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان اللّه وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية.

والناظر في هذه العقيدة ، كالناظر في سيرة رسولها ، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها ، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء .. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل ، ومطابقتهما معا للنية والضمير والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الحرمات والأعراض ، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور .. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك ، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع. وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء.

والرسول الكريم يقول : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل.
وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم. وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية ، وصورة رفيعة ، تستحق من اللّه أن يقول عنها في كتابه الخالد : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. فيمجد بهذا الثناء نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم ، ويشد به الأرض إلى السماء ، ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم.

وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام. فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة ، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل. إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء. تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق.

( يتبع )







 

رد مع اقتباس