الموضوع
:
{حتى إذا أتوا على وادي النمل} سياحة في مملكة النمل
عرض مشاركة واحدة
#
1
02-22-2023, 01:01 PM
SMS ~
لوني المفضل
Blueviolet
رقم العضوية :
1718
تاريخ التسجيل :
08-02-2020
فترة الأقامة :
1913 يوم
أخر زيارة :
12-10-2024 (06:23 PM)
المشاركات :
130,427 [
+
]
التقييم :
102623
معدل التقييم :
بيانات اضافيه [
+
]
{حتى إذا أتوا على وادي النمل} سياحة في مملكة النمل
﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ ﴾ [النمل: 18]
سياحة في مملكة النمل
كنتُ في صغري كثيرَ التأمل في كل شيء حولي، ولأني ابن بادية وأرعى الغنم في الصيف؛ فقد كنت أشاهد النمل فيشُدني فأقعد كثيرًا حول بيوته متأملًا متفكرًا في هذا الدأب العجيب، والحركة المستمرة، وكنت عندما أرى نملة وحيدة في مكان بعيد عن مسكنها تحمل ضِعفَ وزنها أُشفق عليها، ووددت لو أني أعرف بيتها حتى أحمل عنها، وأوصلها في دقائق، بينما خطواتها هذه لبيتها قد تستغرق منها يومًا كاملًا، فأود لو أني حملتها مع حمولتها؛
حتى أخفف عنها هذا العناء.
ومما شدني كثيرًا أن كل نملة تلتقي
بأختها في الطريق لا بد أن تلامسها بقرونها – ويَلحظ هذا كل متأمل في النمل - وكنت أقول تُرى ما تفاصيل هذا اللقاء؟
هل هما يتصافحان أم يتعانقان أم يتحدثان أم ماذا يفعلان؟
فبحثتُ عن هذه المعلومة، وبقيَتْ في فكري قرابة عشرين سنة،
حتى وجدت بحثًا يثبت أنه حينما تلتقي نملتان، فإن كل واحدة منهما تستخدم قرون الاستشعار - وهي الأعضاء الخاصة بالشم -
لتعرف الواحدةُ الأخرى، وتستقي كل واحدة من الثانية معلوماتها،
وكل تفاصيلها؛ فهي كالشيفرة، وفي أقل من ربع الثانية تعرف النملتان
كل المعلومات كل نملة عن صاحبتها تلقائيًّا، بمجرد تلامس تلك القرون، وكأنك تدخل بِطاقة في جهاز، فيظهر في هذا الجهاز كل المعلومات
عن هذا الشخص، فقرن النملة جهاز معقد يحوي مدخلاتِ كلِّ معلومات مملكة النمل، فلو كان – مثلًا - تعداد المملكة مليونَ نملة، فإن هذا الجهاز مسجَّل فيه مليون نملة، ولكل نملة قد يكون مليون معلومة، فكل تحركاتها وعملها وأخبارها منذ ولادتها إلى ذلك الحين في ذلك الجهاز، فتعرِف كل واحدة تفاصيل الأخرى، فإذا التقت نملتان، ولم يحصل بينهما التعارف، فمعنى هذا أن تلك النملة القادمة غريبة لا تتبع المملكة، فيتداعى النمل ويبدؤون الهجوم عليها وطردها؛ لأنها كائن غريب أو عدو، وهذه القرون هي أيضًا وسيلة للتواصل والاتصال بينهما، وغالبًا ما تُرسل بها المعلومات والإنذارات؛ أي: إن قرونها هي وسيلة للتحدث أيضًا.
وقد يتعرف النمل على الغرباء
عن طريق الرائحة؛ فإذا دخلت نملة غريبة مستعمرةً لا تنتمي إليها،
فإن النمل في هذه المستعمرة يتعرف عليها عن طريق رائحتها ويعدها عدوًّا،
ثم يبدؤون في الهجوم عليها وطردها، وفق نظام خاص في التعامل مع الغرباء.
وفي لغة النمل هناك ثلاث لغات؛ لغة صوتية، ولغة إشارية؛ فلغة مسموعة،
ولغة مشاهَدة، لغة الحركات، ولغة الأصوات، ثم لغة ثالثة وهي لغة الشم،
وهي اللغة السائدة التي تجري بين النمل؛ فإذا أراد النمل الانتقالَ الجماعي إلى مكان الغذاء، خرجت نملة تبحث عن الغذاء، وأفرزت مادةً كيميائيةً على طريق سيرها ليشم رائحتها بقية النمل، وهذه لغة من لغاته.
والنمل يحافظ على جثث موتاه، وله مقابر خاصة به، فعندما تموت نملة،
تنشر رائحة غريبة تنبه قومها على سرعة دفنها؛ كونها الآن على فراش الموت، فيجتمعون لمراسم تشييعها ودفنها، وهذه الرائحة خاصة بموتى النمل لتنبِّهَ
بقية النمل على موتها، قبل أن تنتبه له أي حشرة غريبة، فهذه الرائحة تقوم بعمل النَّعْيِ والإبلاغ لجميع أفراد المملكة، فيُهرعون لدفن هذه النملة التي نفثت بهذه الرائحة، وقد قام أحد الخبراء بنفث هذه الرائحة على نملة فهُرع جميع النمل لدفنها، ويمتلك جميع النمل هذه الحاسة الشمية القوية، فكل واحدة قادرة على التمييز بين مئات المواد الكيميائية، عن طريق قرون الاستشعار.
"وقد وجد العلماء أن النمل حين يغادر قريته يرسل في كل مسافة معينة مادةً كيميائية لها رائحة؛ حتى يستطيع تعرُّف طريق عودته، وأنه عندما قام أحدهم بإزالة آثار هذه المادة، لم يستطعِ النمل الاهتداء إلى طريق عودته".
النملة ليست قصة بل قصصًا، وليست معلومة بل موسوعة، وليست حشرة بل آية فريدة؛ لقد قال الله تعالى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾ [النمل: 18]، القائل هنا ليس مَلَكًا ولا نبيًّا، ولا عالمًا ولا صاحبَ رئاسة، بل نملة، نعم نملة، ولكنها مقولة موجزة دلت على مرادها بأوضح عبارة، وأخصر إشارة، وأبهى جملة؛ فقد بدأت النملة بالنداء: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ﴾ [النمل: 18]؛ وهو تنبيه من غفلة، وتهيئة لِما بعده من أمر خطير، فهذا النداء كان بمثابة صيحة تحذير، وصفارة إنذار مدوية في مملكة النمل، فقد نادت بصوتها التحذيري جميع النمل؛ وذلك لتقديرها حجم الجيش القادم وسرعته وكثرته، حتى كأنه يملأ الوادي، فلا يخلو منه ناحية، ومن خطورته أنه يحطم كل ما قِبله، وثنَّت كلامها بعد ندائها المدوي بالأمر الذي فيه حمايتهم وحفظهم قبل غيره؛ ﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [النمل: 18]؛ ليدل على قرب الخطر وشدته، فلا وقت للشرح والبيان والتفصيل؛ فأهم شيء هو أن تدخلوا مساكنكم، فمن دخل مسكنه فهو آمن، وهذا يبين حكمة هذه النملة، فقد أتَتْ بالحل قبل عرض المشكلة؛ لأن عرض المشكلة فقط ربما يُحدِث فوضى عارمة بين أفراد هذه المملكة، ولربما داهمها الجيش قبل أن تأتي بالحل، فانظر إلى ذكائها العجيب، وفطنتها المدهشة، ثم ثلَّثت ببيان سبب الأمر: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾ [النمل: 18]، كأنها تقول: الذي حملني على هذا الأمر العاجل هو الخشية عليكم، وخوف هلاككم وزوالكم، وفيه إرشاد للدعاة والخطباء وولاة الأمر إلى تعريف المدعوِّين والرعيَّة بالحامل على طلب فعل، أو تركه؛ حتى ينشط الجميع لتنفيذ الأمر، وبعد أن ذكرت هذه النملة الحالة الطارئة بيَّنت لهم علة الأمر، وقد حددت المتسبب؛ وهو النبي سليمان عليه السلام وجنوده؛ لأنها لو قالت "سليمان"، لهوَّنت الخطر، ولو قالت "جنود سليمان"، لَنَفَتْ مسؤولية قائد الجيش في هذه العملية المباغتة، فهنا ذكرت الخاص ثم العام، ولأن الجيش مع قائده يدل على الكثرة والاجتماع؛ أوردتهما معًا؛ ثم ختمت بقولها: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]؛ إعذارًا فهم لا يقصدون الفعل، مع أن مثل هذه المواقف تحمل على لوم المتسبب والفاعل، ولكن النمل لا يكذب حتى في أصعب المواقف، ولا يرمي بالتهم جزافًا، ولا يُحمِّل غيره مسؤولية لم يقصدها، ومع أن النمل يمكن أن يقول: كان ينبغي على سليمان أن يكون أكثر انتباهًا وتيقظًا، فهذه النملة نادت وأمرت، وعلَّلت الأمر، وبينت جهة الخطر، وخصت ثم عمَّت ثم عذرت.
بالله عليكم هاتوا خطاب رئيس أو قائد أو بليغ أو حكيم، وضَعُوه بجانب خطاب هذه النملة، فستجدون خطابها أبلغ وأقوى، وأكبر شأنًا، بل لا مقارنة.
لقد تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة: النداء والتنبيه، والتسمية والأمر، والنص والتحذير، والتخصيص والتفهيم، والتعميم والاعتذار؛ فاشتملت نصيحتها مع الاختصار على هذه الأنواع العشرة.
ورحم الله الإمام السيوطي ولله دره فقد جمع في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) أحد عشر جنسًا من الكلام في هذه الآية؛ حيث يقول: "نادت، وكنَّت، ونبَّهت، وسمَّت، وأمرت، وقصَّت، وحذَّرت، وخصَّت، وعمَّت، وأشارت، وعذرت، وأدت حق الله وحق رسوله، وحقها وحق رعيتها، وحق جنود سليمان"؛ ا.ه.
لقد قالت: ﴿ مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [النمل: 18]؛ لتنبههم على السكون المشتق من المساكن، الذي هو ضد الحركة؛ يعني أن كل واحدة لا بد أن تدخل إلى مسكنها وتستقر فيه وتسكن، فالنمل صاحب حركة مستمرة لا يمكن أن يقف أو يستريح أو يأخذ إجازة.
وذكرت سليمان باسمه مجردًا من صفة النبوة؛ كونه الحاكم فوق الجميع، ولتختصر النداء، فلا يوجد وقت للتفاصيل، وقالت: "جنوده"، ولم تقُلْ: جنده؛ حتى تعم الجميع من الجن والإنس والطير؛ لأن الجند هم العساكر، أما الجنود فهم كل من يمشي في موكبه ويسمع أوامره.
ولم تقل تلك النملة: "يا نمل"؛ لأن النمل كان بعيدًا عنها، وكانوا منهمكين في أعمالهم وترتيبهم، فجاءت بهذا النداء فنزلتهم منزلة البعيد، أو كانت قريبة منهم، لكن للاحترام المتبادل بينهم جاءت بهذا النداء الذي يدل على التعظيم، إن خُوطب به القريب.
وهنا أود أن أذكر كلامًا جميلًا للجاحظ؛ فقد ذكر في كتاب (الحيوان) أن القرآن الكريم يدل على أن للنملة بيانًا، وقولًا، ومنطقًا يفصل بين المعاني التي هي بسبيلها، ومن أمثال العرب في النمل: "أضبط من نملة"؛ ا.ه.
وتأمل في كلامها البليغ الموجز المختصر وما يحمله من معانٍ غزيرة ثرة، وجمال هذا الكتاب العظيم وإعجازه؛ فقد قالت:
﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ [النمل: 18]، ولم تقُلْ: لا يطأنَّكم، والتحطيم هو أنسب الأوصاف على تكسير الزجاج، وفي زمن نزول القرآن الكريم لم يكن لأحد قدرة على دراسة تركيب جسم النملة، ولكن في زماننا وجد العلماء أن للنمل هيكلًا عظميًّا صلبًا، يتركب من السليكون الذي يدخل في صناعة الزجاج؛ ولذلك كان التحطيم أنسب؛ ليدل دلالة بالغة على أن هذا القرآن منزَّل من عند الله خالق هذا النمل، وسنذكر فيما بعد إسلام أحد العلماء بسبب هذا الوصف.
لقد كانت تلك النملة المنادية واحدة من الشعب، وليست هي
الملكة على قول، وعليه فلا يستقل المرء جهده الفردي، ولا يقصر في عمله المنوط به؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾ [النمل: 18]، تأمل لفظ "نملة"؛ حيث ورد بصيغة النكرة، وليس بالتعريف، فلم يقل: "قالت النملة"، وهذا يدل على أنها كانت نملة عادية في قومها، وليست قائدة الجيش ولا الملكة، فهي مسؤولة الحراسة ذلك اليوم.
قال المفسرون: إن هذه النملة
كانت تقوم بمهمة الاستطلاع والحراسة، وهذا مثبت علميًّا في حياة النمل، فهذه النملة قامت بعملها المنوط بها على أكمل وجه، فلقد أنذرت قومها
في الوقت المناسب دون تلكُّؤ أو تواكل على غيرها.
وقد ذكر المفسرون أن سليمان أكثر ما أعجبه في قولها هي كلمة:
﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]، فالتمست لهم عذرًا، وهذا من عدالة حكمها وجميل قولها، فكم نحن بحاجة إلى أن نلتمس الأعذار لإخواننا من هذه النملة!
لقد أثَّر هذا القول في سليمان عليه السلام إلى درجة الإعجاب والتبسم والانبساط، ثم تذكر الله العظيم في ملكوته، ثم دعا، وقد رصد القرآن هذه الحركة؛ فقال تعالى: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، أدرك سليمان ما قالت النملة، وهشَّ له وانشرح صدره بإدراك ما قالت، وبمضمون ما قالت.
لقد هشَّ وبشَّ لِما قالت، كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه، وهو لا يضمر أذاه، وانشرح صدره لإدراك كلامها وتفاصيله؛ فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس؛ لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز، وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك، وأن يفهم عنها النمل فيطيع، أدرك سليمان هذا ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾ [النمل: 19]، وسرعان ما هزَّته هذه المشاهدة، وردت قلبه إلى ربه الذي أنعم عليه بنعمة المعرفة الخارقة، وفتح بينه وبين تلك العوالم المحجوبة المعزولة من خلقه، واتجه إلى ربه في إنابة يتوسل إليه: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ [النمل: 19].
وقد أُضِيف الوادي إلى النمل، والإضافة تكون لأدنى سبب؛ كما قال ابن بونا: "أضِفْ لأدنى سبب لها وجد".
وهو يدل على أن النمل وغيره من المخلوقات أممٌ لها حقوق وما تعيش فيه يُضاف إليها، وليس مجرد حشرة لا يلتفت إليها، وكل مخلوقات الله لها حكمة، فلا يُستهان بها.
والإضافة هنا يحصل بها الملكية، فهي على تقدير اللام "وادي النمل"؛
أي: وادي للنمل.
فتأمل كيف أضاف الله لها ذلك الوادي، وتأمل كيف
أفرد الله لها سورة كاملة سماها بها لِما في ذلك من العجائب في هذا المخلوق، والنمل والنحل والإنسان مخلوقات لا تعيش وحدها، بل هي اجتماعية، بينما بقية المخلوقات لتوحُّشها ممكن أن يعيش كل مخلوق وحده، ويكفي نفسه بنفسه، بعكس هذه الثلاثة المخلوقات، فلا تعيش إلا مع رفيق أو جنس مثله، وكذلك هي أمم متعايشة متناصحة منظَّمة كالإنسان، بل أرقى منه.
وهذه النملة التي سمِعها سليمان عليه السلام يبدو أنها مسؤولة الحراسة كما أشرنا سابقًا؛ لأنها تراقب من يأتي من بعيد؛ ولذا لم يقل: "قال النمل بينهم"، أو "تنادى النمل بينهم"، وإنما: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾ [النمل: 18]، فيدل على أنها كانت قائمة على الحراسة تراقب الثغور، متسلِّحة بالجندية الكاملة.
وربما تكون هي السيدة، وتكون النكرة للتعظيم، وهذا يدل على إخلاصها في حكمها، وحبها لشعبها، وحنكتها، وسرعة معرفة بالخطر، ونفوذ فراستها في الجيش القادم؛ ولذا أمرت فقالت: ﴿ ادْخُلُوا ﴾، والأمر يدل أنها كانت في علو، ولو كانت هي الحارسة فيكون أمرها من قبيل الالتماس.
وقد خاطبت قومها: ﴿ ادْخُلُوا ﴾، وقد يُقال: لماذا جاءت بواو جمع العقلاء ولم تقل: "ادخلن"؟ والذي يظهر أنه لما كان النداء لا يصدر إلا من عاقل، وكان الذي سيجيب عليها، وينفذ أمرها منزلًا منزلةَ العاقل، أتَتِ بالواو.
وبعد كل "يا أيها" خبر خطير عظيما بد من إصغاء السمع له؛ لذلك
نفَّذ النمل مباشرة، ولم تتخلف واحدة؛ لِما للأمر من بال وشأن.
وقولها: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ [النمل: 18]: يعني: لا تفعلوا فعلًا يتسبب في حطمكم، فالحل إذًا بادروا بالهرب، والدخول إلى مساكنكم؛
حتى تحتموا من الحطم.
والعجيب أنها لم تذكر سليمان في مقام النبوة، فلم تقل: النبي سليمان، وإنما قالت: "سليمان"؛ كون هذا الاسم كان مشهورًا بالقوة، وأُوتي زمام السلطات في زمانه، وله السمع والطاعة، وأُوتي ملكًا عظيمًا، والمقام هنا مقام تحذير، وهو لا يناسب مقام النبي؛ حيث جاء سليمان على صورة جيش وملك وسلطنة، فقالت: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ ﴾ [النمل: 18]، وقدَّمت سليمان على الجنود، مع أن الذي تخافه هم الجنود، لكن لما كان القائد هو المقدَّم، وهو المسؤول عن كل ما يحصل؛ قدَّمته في الذكر، ولم تقل: "وجنده"، بل قالت: "وجنوده"؛ لأن عنده أجناسًا كثيرة من الجنود؛ فعنده جند من جنس الجن، وعنده جنود من جنس البشر، وعنده جند من جنس الطير، وهكذا.
ثم إنها احترست فقالت: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]، فما كان سليمان ليتعدَّى على أي مخلوق، فقد كان يراعي كل المخلوقات على وجه الأرض، وهذا غاية الالتماس، والعجيب أنه مع أنها في غاية التحذير من الخطر الداهم، إلا أنها أظهرت أدبًا جمًّا قلما يوجد عند البشر.
وقد اختصرت غاية الاختصار: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ ﴾ [النمل: 18]، فلم تقل: جاء سليمان، أو أقبل سليمان ولذا سيواجهكم خطره، إنما نهت عن تحطيمه، وكأنه حاضر قد أخبرتهم من قبل بحضوره؛ اختصارًا لشدة الخطر، ولبلوغ اسم سليمان أسماع المخلوقات، فسبحان من وسَّع عليه ملكه، وألهمه لغات المخلوقات في الأرض.
ثم إنها جاءت بالنداء ثم التنبيه ثم الأمر، وكأن في هذا دلالة أنها أرادت أن تلفت الأنظار إليها والأسماع، فلم تقل مباشرة: "ادخلوا"؛ لأنها لو قالت: "ادخلوا"، لَفَجأتهم، وسمع منها البعض، ولم يسمعها البعض الآخر، ونبَّهت القريب دون البعيد، وحصل الارتباك والفوضى؛ لذا جاءت بمقدمات من النداء والتنبيه؛ لتصل حين تصل إلى المقصود، وقد أرعى كل النمل لها سمعه، فوصل أمرها إلى الكل.
وقدَّمتِ المفعول به على الفاعل؛ لأن المحطَّم أهم عندها من المحطِّم، ولم يقل: قالت الحارسة أو الملكة؛ لأنا نحن الآن في باب فرض الكفاية الذي إن قام به البعض، سقط عن الآخرين، فهو مقام خطر، فليس المهم رتبة القائل ومكانته، إنما أهمية القول.
ولأن الريح كانت تحت أوامر سليمان، وهي جندي من جنوده، نقلت له ما قالته النملة على جناح السرعة، فكانت الفاء التي تدل على الفورية؛ ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا ﴾ [النمل: 19]، ثم إن الفورية تدل على ضيق الوقت؛ لأن سليمان نزل عليهم فجأة، فكان التحذير السريع، ثم وصول الخبر سريعًا، فالتبسُّم.
ولم يقل: "فضحك"؛ لأن الأنبياء لا يصدر منهم ما يصدر من بقية الناس؛ لجلالتهم، والابتسام أول الضحك، فهو لم يقهقه، بل ابتسم، وكانت ابتسامته ابتسامةَ إعجاب من تصرف هذا المخلوق.
وقد بالغ سليمان في تلك الابتسامة العريضة؛ فقال مؤكدًا لها: ﴿ ضَاحِكًا ﴾، والضحك سببه التعجب، والإنسان سُمِّيَ بالحيوان الضاحك؛ لأنه يدرك الأمور الغريبة ويتعجب منها، ومن تعجب من شيء، يحمله هذا التعجب على الضحك، فسليمان عليه السلام هنا تعجب، وتعجبه إما من اعتذارها، أو من خوفها على قومها وشدة حرصها على سلامتهم، أو من ترتيب مملكة النمل وعجائبها، كما هو الحال عند سليمان في مملكته وترتيبها ونظامها، وربما تبسم سليمان عليه السلام؛ لأنه يعلم أن مملكته دون هذه المملكة في نظامها وترتيبها وإدارة شؤونها.
وهنا سر من عجائب الأسرار؛ وهو أن الله ساقه على هذه المملكة، وأنزله هذا الوادي؛ ليرى عجائبها، ويعلم أنه مهما بلغ به الحال في مملكته، فإن هذا الملك والترتيب والنظام ليس خاصًّا به؛ فهناك من صغار المخلوقات بهذا النظام الذي يعد أرقى وأدهش مما أنتم فيه أيها البشر، فكان مروره من هذا الوادي لحكمة أرادها الله، وهو هذا الدرس الذي ساقه لسليمان عليه السلام وللبشر جميعًا إلى يوم الدين؛ أن هذه الحشرة الصغيرة عندها من الإمكانيات والإبداع ما ليس عندكم، فلا تغتروا.
ا كان من سليمان عليه السلام إلا أن قال مباشرة: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ﴾ [النمل: 19]، وهكذا الصالحون دومًا يضيفون النِّعَمَ للمُنعم عز وجل، لم يلتفت إلى ملكه وخَدَمِه وحشمه، وقد خرج في موكب عسكري مَهيب، بل توجه مفتقرًا إلى من رباه بنِعَمِهِ، وأصلح أمره، ووالى عليه أفضاله، ثم إنه حذف ياء النداء؛ لكثرة ما يُنادى الله تعالى، فالكثرة عند العرب تولد التخفيف، ولأن الأنبياء هم أقرب الناس إلى الله تعالى.
وبدأ يدعو لنفسه أن يوفَّق لشكر الله؛ لأن الشكر سبب للزيادة.
لقد ابتهل إلى ربه أن يلهمه ويعينه على إقامة عبادة الشكر التي هي من أعظم العبادات، وأن يستمر في دروب الصالحات، وهكذا هم أهل الإيمان يجددون شكرهم لربهم مع كل نعمة تتجدد، ويزدادون صلاحًا مع الله، واقترابًا إليه إثر كل فضل، ورجاؤهم أن يشملهم الله برحمة منه، وأن يدخلهم في عباده الصالحين: ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، لقد دعا الله تعالى بثلاثة أمور:
الأول: دعا بالتوفيق لعبادة الشكر، الثاني: التوفيق للعمل الصالح، الثالث: الدخول في سلك وصف الصالحين.
ثم هو لم ينسَ والديه وهكذا كل صالح يشرك والديه في دعائه، وأشار إلى قيدين:
القيد الأول: العمل الصالح المقبول هو ما يرضاه الله؛ إذ كم من الأعمال الصالحات لا يرضاها الله! فقيَّد العمل الصالح بالمرضيِّ عنه.
يتبع
زيارات الملف الشخصي :
1582
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل : 68.17 يوميا
انثى برائحة الورد
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى انثى برائحة الورد
البحث عن كل مشاركات انثى برائحة الورد