عرض مشاركة واحدة
قديم 01-22-2021, 06:45 PM   #23


مديح ال قطب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1751
 تاريخ التسجيل :  06-03-2020
 أخر زيارة : 08-13-2021 (12:56 PM)
 المشاركات : 34,369 [ + ]
 التقييم :  22241
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Coral
افتراضي





.



.

.

تابع – سورة البقرة

إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة . ولكن أضر منه وأخطر , التنكر للمجهول كله وإنكاره , واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به . . إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده , ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق .
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه , وحسبنا ما يقص لنا عنه , بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا , ويصلح سرائرنا ومعاشنا . ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية , ومن تصور للوجود وارتباطاته , ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه . . فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى .

وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مرورا مجملا سريعا .
إن أبرز إيحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض , ولمكانه في نظام الوجود , وللقيم التي يوزن بها . ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله , وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه . .
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم , أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض ; كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له . وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى , وفي رعاية الله له أولا وأخيرا . .
ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء .
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض , ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصا - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي , ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا . ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي . . لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة , ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي , أو إنتاج أي شيء مادي , أو تكثير أي عنصر مادي . . فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله . من أجل تحقيق إنسانيته . من أجل تقريروجوده الإنساني . فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية , أو نقص مقوم من مقومات كرامته .
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول . فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ; وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج , هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر , بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر !
[/ce

إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض , عاملا مهما في نظام الكون , ملحوظا في هذا النظام . فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار , ومع الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض , وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . . فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية , ولا تسمح له أن يتعداه ? !
وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ; وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها ; وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . . وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره , إلا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان , وحقيقة دوره في هذه الأرض !
كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره , وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية , وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته . فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . .)وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية , ولكن بحيث لاتصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته . بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية , وإهدار لكل القيم الأدبية , في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان !
وفي التصور الإسلامي اعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله , وهي مناط التكليف والجزاء . . إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته , وعدم الخضوع لشهواته , والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه , بتغليب الشهوة على الإرادة , والغواية على الهداية , ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه . وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه , يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى . كما أن فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة , والرفعة والهبوط , ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق !
وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة . إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر . بين الحق والباطل . بين الهدى والضلال . . والإنسان هو نفسه ميدان المعركة . وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها . وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة ; وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان ; وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان !
وأخيرا تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة . . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية . في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . . ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي , كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - [ ابن الله بزعمهم ] قام به بصلبه , تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم ! . . كلا ! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية , والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة . وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية , والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة . . تصور مريح صريح . يحمل كل إنسان وزره , ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط . . (إن الله تواب رحيم). .
هذا طرف من إيحاءات قصة آدم - في هذا الموضع - نكتفي به في ظلال القرآن . وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة ; وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة ; وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية , يحكمها الخلق والخير والفضيلة . ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي ; وإيضاح القيم التي يرتكز عليها . وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله , متجه إلى الله , صائر إلى الله في نهاية المطاف . . عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله , والتقيد بمنهجه في الحياة . ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله , أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان . وليس هناك طريق ثالث . . إما الله وإما الشيطان . إما الهدى وإما الضلال . إما الحق وإما الباطل . إما الفلاح وإما الخسران . . وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله , بوصفها الحقيقة الأولى , التي تقوم عليها سائر التصورات , وسائر الأوضاع في عالم الإنسان .

( يتبع - سورة ال عمران )




]


.

.



 

رد مع اقتباس