وكانت الحيوانات تذهب إلى حضرته وتضع فمها على أذنه وتشكو له، شكا إليه جمل في أذنه، فقال صلى الله عليه وسلم: {مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ فَجَاءَ شَابٌّ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَاكَ إِلَيَّ وَزَعَمَ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ}{2}
مَن الذي ورَّثهم هذه الخلال؟ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك تحول من راع للغنم إلى راع للأمم، لأنه استطاع أن يقود هذه النفوس الجانحة وهذه الأفراد الجامحة وينزع منها الغل والحقد والحسد والشدة والغلظة ويجعلها تلين في ذات الله؛ حتى كانت الدموع تملأ المجلس الذي يجلسون فيه مع رسول الله ليستمعون حديثه العذب، تنهمر الدموع سحاً على وجوههم لرقة قلوبهم عند سماع حديثه صلوات ربي وتسليماته عليه.
وبيَّن صلى الله عليه وسلم الطريق الوحيد والسبيل الأوحد الذي تُبَلَّغ به رسالته منذ عصره وأوانه إلى يوم الدين فقال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ}{3}
وفي رواية أخرى: {إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ}{4}
كل واحد فينا ينبغي أن يعتقد تمام الاعتقاد أنه بمجرد انتسابه لهذا الدين، وانتمائه لسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم أن يكون صورة من حضرته في أخلاقه الكريمة مع أهل بيته، زوجه وأولاده وخدمه، ومع ذوي قرابته، ومع جيرانه، ومع رفقاءه في المسجد ،ومع زملاءه في العمل ... يكون صورة كاملة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى الأثر: {الولدُ سرُّ أبيه}{5}
لِمَ ينال الولد ميراثاً من أبيه؟ لأنه صورته، وعندما يراه أحد يتعرف عليه ويقول هذا ابن فلان، لأنه أشد الناس به شبهاً، وأقرب الناس له صورة، وإذا كان هناك انسجام بين الولد وأبيه ترى الولد يتشبه بأبيه حتى في حركاته وسكناته، حتى في طريقة حديثه ،حتى في ترتيب أموره ... في كل أحواله، ولذلك يستحق الميراث.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا الله في شأنه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الأحزاب6
إذاً هو أبوهم، فلذلك من أراد أن يرث في ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: {إنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دَرَاهِمَ وَلا دَنَانِيرَ، وَإنَّمَا وَرَّثُوا هذا العِلْمَ}{6}
فلا بد أن يكون صورة من أخلاق حضرته: صورته المعنوية، وصورته الاخلاقية، وصورته النورانية! يكون صورة من رسول الله، حتى من يراه يقول هذا الرجل أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأحواله، وهذا سر ميراث الصالحين.
بٍمَ ورثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركته الإلهية؟ بالتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم القرآنية، كانوا كلهم على هذه الشاكلة، وكان كل جهادهم في التخلق بهذه الأخلاق، ولذلك كانوا يقولون لمن يدربونهم على الجهاد: " ليست الكرامة أن تطير في الهواء فإن الطيور تفعل ذلك، ولا أن تمشي على الماء فإن الأسماك تفعل ذلك، ولا أن تقطع بين المشرق والمغرب في لحظة فإن الشياطين تفعل ذلك، ولكن الكرامة أن تغير خلقاً سيئاً فيك بخُلُق حسن".
هذه هي الكرامة: تُكرم نفسك بأن تغير أخلاقك بأخلاق الحَبيب صلى الله عليه وسلم، إلى أن تصبح لوحة فيها الأخلاق الكريمة التي أرسل الله بها الحَبيب للعالم أجمع. أي اجعل نفسك – بلغة العصر – مندوب مبيعات، إذا كان مندوب المبيعات على خُلُق طيب فإنه يقوم بدعاية جيدة لشركته، وينشر مبيعاتها، ويوسع عملاءها، لكن إذا كان صورة سيئة فإنه سيكون صورة شاذة لشركته
وهذه هي المصيبة التي حلت في هذا الزمان بعالم الإسلام: كثرت النماذج السيئة من الفئات الظلمانية، والجماعات المتشددة على غير هدى من خير البرية، والذين نشروا الذبح وسفك الدماء بإسم السماء!! هؤلاء شوهوا صورة الإسلام في العالم أجمع
وهل هذه هي الصورة التي جاءنا بها وأمرنا بها سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؟ لا، فالصورة التي أخبرنا بها إمامنا الإمام أبو العزائم قال فيها: "آل العزائم أطباء رحماء لهم حال مع الله يجذب الكافر والنافر فما بالك بالمؤمن المطيع؟.